قضايا

انتشار العرقية (الكردية) السياسية واندثار الأبعاد الوطنية (العراقية) (1)

ميثم الجنابيالقضية الكردية- أفق مغلق وبدائل محتملة(4)

إن دراما الانفصال والتجزئة والانغلاق في الأحزاب السياسية وبرامجها لم تكن صفات مميزة للأحزاب الشيعية السياسية والقومية الكردية، بل مست الجميع دون استثناء. غير أن البحث هنا سوف يكون مخصصا لهذين النوعين من الأحزاب بسبب نموذجية التحول فيهما بهذا الصدد. وهو تحول راديكالي صنعته شراسة الطائفية السياسية وهمجية القمع القومي المعجونة بالانحطاط الشامل في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والخروج على ابسط مقومات الوطنية من جانب السلطة الصدامية، أي كل ما أدى إلى صعود نفسية وفكرة الرجوع إلى «المصادر الأولية». وهو رجوع اتخذ في حالة الأكراد ما يمكن دعوته بدراما «الانفصال القومي».

فقد اتخذت نفسية وفكرة الرجوع إلى «المصادر الأولية» عند الأكراد بحكم الضرورة طابع النزوع العرقي، وذلك بسبب الضعف التاريخي والذاتي للأكراد وبدائية الفكرة الكردية. وذلك لأن "القومية الكردية" هي "قومية" بحكم الإمكانية وليس الواقع. وهي إمكانية مقطوعة بسبب خلوها من تاريخ الدولة ومنظومة الثقافة التاريخية. مما جعلها على الدوام أقرب إلى المعشر والقوم منها إلى قومية ودولة.

إن تعميم حصيلة التجربة السياسية للأحزاب القومية الكردية بهذا الصدد تشير إلى أنها مرت بأربع مراحل وهي:

- الأولى ترافقت مع نتائج عاصفة الصحراء(1991- 1992)،

- والثانية تشكيل إقليم تحت المراقبة (أمريكي بريطاني تركي) (1992- 2003)،

- والثالثة بعد سقوط الصدامية (2003)،

- والرابعة في ما يسمى بالاستفتاء على الانفصال عام 2017

ويمكن ملاحظة التغيير النوعي في سلوكها الخارجي والداخلي من خلال تبدل القوة المؤثرة في سياسة الأحزاب القومية الكردية. بمعنى الانتقال من تأثير العامل الإيراني إلى الأمريكي البريطاني التركي، وأخيرا إلى الأمريكي العراقي. وهو تحول كان يعمل في اتجاهين خاص (قومي كردي) وعام (عراقي)، أو داخلي (كردي) وخارجي (عراقي)، لعل فكرة الفيدرالية العرقية وليست حتى القومية هي احد مظاهرها اللاحقة.

فقد تراكمت في دراما «الانفصال» نوعية خاصة من الانفصام الوطني في الوعي السياسي القومي الكردي. وهو تراكم تدريجي في الزمن، راديكالي في النوعية، أي منذ عام 1992 حتى 2002. وهي الفترة التي تشكل مرحلة انحطاط الدولة العراقية بوتيرة سريعة وتعرضها إلى تدخل وضغوط خارجية شديدة. وشكلت هذه الحالة المرتع الذي عاشت عليه ونمت النزعة العرقية الكردية كشكل من أشكال التعويض عن المهانة التي تعرضوا إليها من جانب الدكتاتورية الصدامية.

لكننا حالما نحلل طبيعة ومسار هذا التحول بمعايير الرؤية العلمية، فإننا نتوصل إلى انه لم يكن مجرد رد فعل على السياسة الصدامية، بل ونتاجا مترسبا في قاع الفكرة القومية الكردية غير العميق. بمعنى أن ضعف وهشاشة الفكرة القومية الكردية وطبيعة البنية التقليدية (الجبلية والقبلية) والضعف الثقافي التاريخي هو المصدر الأساسي لهذا التحول. وهو أمر برز بوضوح بعد فترة قصيرة من «الاستقلال» بأثر تراكم الصراعات الداخلية الكردية – الكردية. رغم أن هذا "الاستقلال" كان محكوما بحماية قوى عسكرية خارجية (أمريكية بريطانية) وممولا من دكتاتورية داخلية (عراقية)!! ويمكن فهم هذا التمازج بمقاييس الابتذال الحزبي باعتباره «تكتيكا سياسيا». غير أن التكتيك السياسي مهما كان محسوبا بتوازن القوى من الناحية العملية، لا يمكنه أن يصنع في حال خضوعه لابتزاز الدينار والدرهم وقوى الاحتلال شيئا غير نفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة. انه يتحول مع مجرى الزمن إلى مراوغة حزبية. أما في مجال «الصراع القومي»، فإنه لا يؤدي إلا إلى ابتذال الفكرة القومية التحررية نفسها.

وشكلت «الاتفاقية» الموقعة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في واشنطن في السابع عشر من أيلول عام 1998 نموذجا لهذا الابتذال الكلاسيكي. ففيها نقرأ في أول فقرة من «الاتفاقية» شكر الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني الوزيرة أولبرايت وكذلك الحكومة الأمريكية لتحقيقها سلسلة من اللقاءات الودية والناجحة خلال أيام في واشنطن!! ويعكس هذا الشكر واقع انعزال الأحزاب القومية الكردية. فمن الناحية الجغرافية لا يعزل احدهما عن الآخر سوى جبال قليلة. أما في معناه الرمزي فقد كان الذهاب إلى واشنطن يعكس حقيقة المسافة الفعلية بالمعنى الجغرافي والغاية. ولا يمكن للرؤية الحزبية أن تجعل هذه الغاية قادرة على الارتقاء إلى مصاف الرؤية الوطنية العراقية. لهذا أصبح الذهاب إلى واشنطن الطريق الأقرب للرجوع إلى «كردستان»! إذ يفتقد هذا الرجوع الجغرافي إلى الأبعاد القومية والاجتماعية السليمة. ونعثر على هذه النتيجة في «الوثيقة» نفسها. ففيها نقرأ شكر الحزبين للولايات المتحدة وقيادتها على مساعدتهم في اجتماعهما من اجل «دعم آلية عمل للتعامل المستقبلي»!! بل يجري وصف نتائج اللقاء بكلمة «عظيمة»، وذلك لأنه استطاع أن يعمل من اجل «إنهاء النزاع بشكل تام ودائم» بين الحزبين. وهو إنهاء يمكن فهم حوافزه الداخلية على انه مرهون بتدخل القوى الخارجية. بمعنى انه ليس نتاجا لوعي ذاتي، ومن ثم لا قومية فيه.

كما يمكن رؤية هذه النتيجة بوضوح في حدة الموقف المعادي للحركات الكردية التحررية في تركيا وغيرها من مناطق انتشار الأكراد. كما نراه في الفقرات التي تتكلم عن «منع الإرهاب وذلك بتوفير حماية أقوى للحدود العراقية». ولعل الاتفاق على ما يسمى بمهمات المرحلة الانتقالية تصب في هذا الاتجاه. كما نراها في البنود المتعلقة بالمحافظة على الحدود التركية والإيرانية، والقيام بإجراءات معقولة للسيطرة على مراقبة تدفق الأشخاص عبر هذه الحدود ومنع تحركات الإرهابيين. كما يجري تحريم وتجريم حزب العمال الكردستاني ومحاربة «أي ملاذ له داخل إقليم كردستان العراق»، كما يجري التعهد بضمانة «عدم وجود أي قواعد لهذا الحزب داخل هذه المناطق، وسوف يمنعونه من زعزعة الاستقرار والإخلال بالأمن أو استعمال القوة عبر الحدود التركية».

ولم يكن مضمون هذه العبارات محكوما بأولوية الرؤية الوطنية العراقية، بقدر ما أنها تشير إلى الاستعداد الفعلي للحفاظ على المصالح الضيقة الخاصة. وإلا فمن الصعب فهم أو تبرير كلمة «الكردستاني» بوصفها الكلمة الجوهرية في أسماء الحزبين!! أما الاستمرار اللاحق لهذه الرؤية الحزبية فقد شق لنفسه الطريق أيضا إلى الموقف من قضايا العراق والقوى العراقية. وفي حصيلتها كانت النتاج غير المرئي في بداية الأمر لضعف الرؤية السياسية الاجتماعية وغلبة فكرة ونفسية الغنيمة. وفيها تنعكس أمزجة الرؤية الحزبية التي تتعامل مع إشكاليات أكراد العراق بنفسية وذهنية الرهينة، أي لا أبعاد اجتماعية حقيقة فيها. من هنا الاهتمام المفرط بفكرة الوساطة والوصاية الأجنبية.

ففي الجزء المتعلق بما أسمته «اللقاءات المستقبلية بين القيادات» تجري الإشارة في الفقرة الثانية منه إلى رغبة الحزبين في أن يكون «أول لقاء في أنقرة واللقاء اللاحق في لندن»! كما توضع ضمن مهمات «هيئة التنسيق العليا» حق طلب «وساطات عالمية» وليس وساطة واحدة! ولا تعني نفسية الائتمان والثقة بالوساطة الخارجية بالنسبة لقوة «قومية تحررية» في بداية معتركها سوى هوة التجزئة العميقة وانعدام الثقة التي ترتقي إلى مصاف الغريزة الحيوانية. ومن الممكن العثور على هذه النفسية في مظهر وباطن اغلب البنود الأساسية للوثيقة. ففي الموقف من الانتخابات لا نعثر من حيث الجوهر على فكرة الديمقراطية والحقوق، التي سوف يجري المتاجرة الرخيصة بها في وقت لاحق، وبالأخص بعد سقوط السلطة الصدامية. إذ ليست البنود المطالبة «بإجراء انتخابات حرة ونزيهة لبرلمان إقليمي جديد» و«الاعتماد على أدق المعلومات الإحصائية المتوفرة حول تعداد السكان للمحافظات الشمالية الثلاث وتوزيع القوميات والمذاهب». و«العمل مع هيئات دولية، بأجراء إحصائية وذلك لتهيئة التسجيل الانتخابي»، سوى الوجه الفعلي على نفسية التجزئة وعدم الثقة والشك وانتشار التزييف والتزوير في الإحصاء والمواقف. وسوف تبرز هذه الممارسة من جديد بعد ظهور أول إمكانية للاندماج الوطني بالعراق بعد فترة «الاستقلال»، التي لم تصنع في هذا المجال سوى نفسية وذهنية التجزئة والانعزال وعدم الثقة. ولعل عبارة معرفة تعداد سكان المحافظات الشمالية الثلاث على أساس «توزيع القوميات والمذاهب» هي الصيغة الأولية المبطنة التي ستكشف عن مضمونها السياسي بعد عام 2003. كما أن التجزئة في المواقف والنيات مازالت عميقة لحد الآن في كل شيء، بما في ذلك تجاه مهمة ما دعته الوثيقة بتوحيد وحدات الميليشيا (البشمركة). وهي نفس الممارسة التي سنراها لاحقا. بمعنى بقاء الميليشيات مجزأة على أساس حزبي، في حين يجري رفعها الآن إلى مصاف «الجيش»!!(يتبع....)

 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم