قضايا

الهموم "العراقية" هموم عرقية (1-2)

ميثم الجنابيالقضية الكردية- أفق مغلق وبدائل محتملة (9)

تكشف تجربة سنوات ما بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية عن تحجر وتخلف سياسي هائل للحركة القومية الكردية تجاه الفكرة الوطنية العراقية. بمعنى السير في اتجاه معاكس لمنطق الدولة العصرية وآفاق الاندماج السياسي الثقافي في العراق. ومن خلاله تقديم نموذج يمكنه أن يشكل ضمانة تكامل المنطقة والأكراد. ويستطيع العراق انجاز هذه المهمة في ظل ظروفه الحالية وآفاق تطوره الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. إلا أن السائد في أعماق الحركة القومية الكردية، كما تكشف عنه مجرى الأحداث السياسية وطبيعة مراوغتها بعد الثامن من نيسان عام 2003 وحتى اليوم، عن بقاء بل وتعمق وترسخ ضعفها البنيوي، الذي لم تستطيع التحرر منه. بمعنى إننا نقف أمام نفس «السياسة» المميزة للحركات القومية الكردية في مراحل ضعف الدولة واضطرابها الداخلي. ولا يعني ذلك في ظروف العراق الحالية سوى المساهمة الفعالة في عرقلة إمكانية إرساء أسس الديمقراطية الاجتماعية والشرعية. إذ لا معنى لأساليب الابتزاز والسرقة والغنيمة السائدة في سلوك ونفسية الحركات القومية الكردية في العراق غير ذلك. وهي نفسية تعكس مستوى التطور الاجتماعي وتقاليد الإقطاعيات المتخلفة والعائلات القبلية والأغوات. كما تعكس ضعف وتخلف البنية الاجتماعية والسياسية للحركة القومية الكردية عموما. ويجعل هذا الواقع منها عبئا ثقيلا على العراق وخطرا جديا على آفاق تطوره الحر. فإذا كان الجانب الخاص بالحركة القومية الكردية هو جزء من ذاتها القومية، ومن ثم تتحمل تبعات ما تقوم به، فإن بقاءها في العراق يجعل منها طرفا في صراعاته الداخلية. ومن ثم نقل اغلب عناصر الخلل المميز للفكرة العرقية إلى ساحة الصراع السياسي العراقي.

وهو واقع يجعل من المشروع العرقي الكردي في العراق مشروعا تخريبيا بالنسبة لبناء الهوية الوطنية العراقية. وهي نتيجة مرتبط بنفسية وفعالية «الأقوام الصغيرة» التي لم تندمج في كينونة الدولة وثقافة الأمة الكبرى، والتي عادة ما تكشف عن نفسها زمن الانقلابات الحادة وضعف المركزية. ذلك يعني أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن تفرزه الحركة القومية الكردية الحالية في ظروف العراق المعاصرة هو:

- نفسية العرق

- وذهنية الانفصال

- وأيديولوجية الانعزال.

وهي نفسية تخريبية بالمعنى السياسي والاجتماعي والقانوني، برزت وتعمقت وترسخت وتوسعت بعد انهيار الدكتاتورية الصدامية. فمن الناحية المنطقية كان ذلك يفترض الاشتراك الاجتماعي الفعال من جانب القوى الكردية بمعايير الرؤية الاجتماعية والوطنية، إلا أننا عوضا عن ذلك نرى استفحال نفسية الغنية والاستحواذ والتقوقع. بحيث تحول العراق بالنسبة لها إلى مجرد بقرة حلوب، لعل «مطالب» الحركات القومية الكردية الحالية بعد انتخابات 2005 دليل قاطع عليها، أنها مجرد «كركوك + مناطق جغرافية + مناصفة الخزينة + زائد تعويضات + ميليشيات مدفوعة الأجر + قرار انعزالي بكل ما يمس فكرة سيادة الدولة»!!! وهي مطالب أما سخيفة أو مجافية لأبسط مقومات الرؤية العقلانية والواقعية. بل أخذنا نسمع من بعض القيادات الكردية كلاما عن فضيلة ومنة بقاءهم في العراق على العراق!

ومن الممكن العثور على هذه المفارقة في مختلف الصور والممارسات والنماذج، مثل أن نرى رئيسا كرديا للعراق ووزراء أكراد في الحكومة المنتخبة من بين الحزبين السياسيين القوميين «الحليفين»، وفي نفس الوقت يعملان على تنظيم «مظاهرة جماهيرية» في اربيل والسليمانية ودهوك تدعو للاستقلال عن العراق!! وهي «مفارقة» يمكن فهمها بمعايير الرؤية السائدة بين الأحزاب السياسية في العراق الحالي، التي لا ترى في السياسة أكثر من قواعد متنوعة للاحتيال والمراوغة والحصول على مكاسب وما شابه ذلك. بمعنى أنها لا ترى في السياسة علما مهمته بناء الدولة. وإذا كان هذا النمط من السياسة هو القائم وراء مظاهرات الدعوة للانفصال في ظل الظروف الحالية للعراق، وفي ظل هذا المستوى من مشاركة القوى القومية الكردية في السلطة، وقبيل إعلان «الدستور الدائم»، فانه أمر يشير إلى قضايا أكثر تعقيدا وعمقا مما يبدو للوهلة الأولى. بمعنى أن من الضروري البحث عنها في نوعية ونمط الذهنية السياسية والأيديولوجية للحركات القومية الكردية الحالية في موقفها من الفكرة الوطنية العراقية. وهي نوعية تكشف عنها ما يمكن دعوته بتناقض الهمّ العرقي والفكرة العراقية في الخطاب القومي الكردي.

فمما لا شك فيه، إن الخطاب السياسي للأفراد والجماعات والأحزاب والدول هو المؤشر الظاهري لحقيقة ما تستبطنه. بمعنى إننا نستطيع العثور فيه على ما تريد قوله أو إيصاله أو الإفصاح عنه. وهو أمر طبيعي أيضا بوصفه الصيغة المناسبة لإبلاغ أبعاد «الرسالة» السياسية وأهدافها المعلنة والمستترة. وتعّبر هذه الحالة عن مستوى ارتقاء الدعاية والممارسة السياسية التي تجعل من الكلمة أداة فعالة في الصراع السياسي. وعندما نطبق ذلك على أوضاع الحياة السياسية في ظروف العراق الآنية، فإننا نقف أمام حالة مزرية من تدني الخطاب السياسي تعكس بدورها انحطاط التقاليد السياسية بشكل عام والثقافة السياسية بشكل خاص. إضافة إلى تقليدية الأحزاب السياسية بالمعنى الفكري والأيديولوجي والاجتماعي.

وهو تدن له مستواه الخاص والمتميز في الحركات القومية الكردية في العراق. حيث نعثر فيه على تجزئة واضحة للفكرة القومية الجزئية (الكردية) والوطنية العامة (العراقية) تصل حد الاختلاف والصراع والتضاد أحيانا. والسائد فيه هو خلوه وفراغه من الهمّ الوطني العراقي العام. ومن الممكن فهم هذا الفراغ ضمن المسار العام الذي تعرض له العراق والدولة بعد «عاصفة الصحراء». إلا انه تعرّض إلى تحول وتغّير جديد في مجرى الانقلاب العاصف في حياة العراق السياسية، وما استتبعه من «رجوع القوى الكردية» إلى «أحضان» العراق بوصفهم قوة "قومية" منظمة لها مشروعها الخاص.

ففقدان الهمّ الوطني العراقي العام، الذي كان أيضا نتاجا لسياسة الدولة المركزية القديمة، حالما يتحول إلى طرف في الصراع السياسي، فإنه لا يمكنه العمل بمعايير «الاعتدال والبراجماتيكية»، أي يصعب عليه العمل بمعايير الرؤية الواقعية والعقلانية. بل عادة ما نراه يخضع لضغوط مقدمات أيديولوجية. وليس هناك من مقدمات أيديولوجية للحركات القومية الكردية تتعدى مضمون المشاريع الكردية و«الكردستانية». وهو أمر بدأت ملامحه تتضح بعد كل حركة «إلى الأمام» في أوضاع العراق العامة.

فقد كانت مشاركة القوى القومية الكردية بعد سقوط الصدامية وظهور ملامح الانتقال الأولى إلى الديمقراطية، ايجابية وفعالة بالنسبة لإعادة بناء «العراق الجديد». إلا أنها سرعان ما أخذت تتحول تحت تأثير الخراب الهائل للعراق وانهيار قواه الاجتماعية والسياسية وسقوط السلطة المركزية إلى مجرد سلسلة مطالب قومية. ويختلط في هذه المطالب الشرعي وغير الشرعي. ومع كل حركة «إلى الأمام» بدأت معالم المطالب السياسية تتحول شيئا فشيئا صوب الرؤية القومية الضيقة. مما يشير بدوره إلى استفحال الأبعاد العرقية المتراكمة في مرحلة «الاستقلال» القصيرة وتحولها إلى نمط عملي تجاه العراق بشكل عام. مما جعل من المواقف والممارسة السياسية الكردية شيئا اقرب إلى الرؤية النفسية منها إلى الرؤية العقلية. بمعنى غلبة المزاج والوجدان على المواقف والسلوك والمطالب، كما نراه في انتشار مختلف عبارات التهديد مثل «الرد العنيف» و«الانسحاب» و«الانفصال» وما شابه ذلك أثر كل «أزمة» مهما كان حجمها! ولم يتغير هذا النمط من الخطاب حتى الآن. ففي أحد خطب البرزاني في (21-03- 2012) بمناسبة عيد نوروز لا نسمع غير الوعد والوعيد، عوضا عن أصداح الأفراح! ووراءه تظهر ملامح برزاني طرزاني من هذا الزمان! وهو نموذج "كلاسيكي" لا يمكن تحليله بدقة إلا بمعايير ما يمكن دعوته بانتروبولوجيا الأغوات والشقاوات! 

طبعا، إن ردود الأفعال المشار إليها أعلاه ليست مجردة عن طبيعة العلاقات الكردية الكردية وصراعها الخفي، إلا أنها تشير، ضمن معايير الحياة السياسية العراقية ككل، إلى استمرار غياب الهمّ الوطني العراقي، الذي نتج عن طبيعة الشرخ القومي المتراكم في مجرى الحرب العراقية الإيرانية وبلغ ذروته بعد انتهاء «عاصفة الصحراء». إذ لم يعد الهمّ العراقي هاجسا ضروريا في الرؤية القومية الكردية. بمعنى استبدال الهمّ الوطني العراقي العام بأولوية المشروع الكردي و«الكردستاني». وهو أمر طبيعي أيضا في حال النظر إليه ضمن سياق العلاقات القومية والسياسية التي ميزت زمن الدكتاتورية الصدامية. ومن ثم يمكن النظر إلى ردود الأفعال الكردية على أنها جزء من بقايا الخلل المترسبة في الوعي السياسي القومي اثر التدمير والتخريب الذي قامت به الدكتاتورية على كافة الأصعدة وفي كافة الميادين.

غير أن استفحال الهمّ الكردي القومي على الهمّ العراقي الوطني هو الصيغة الأولية لردود الفعل المترتبة على طبيعة ومستوى الفراغ السياسي الذي حدث في العراق بعد انهيار الدولة المركزية. كما يمكن فهم هذا التحول بمعايير الانتقال المفاجئ للأقلية القومية إلى هرم السلطة. ومن الممكن رؤية هذه الحالة على مثال عشرات التجارب السياسية التي مرت بها الكثير من دول العالم المعاصر. لكنه «استفحال» وهمي لا محالة في تبدده اللاحق، وعادة ما يمر بطريق الآلام من اجل أن تتكامل الرؤية السياسية بمعايير الواقعية أو العقلانية، أو تضطر أصحابها إلى الخراب والهزيمة. وهي الحالة التي تقف أمامها الحركة القومية الكردية. بمعنى السير «إلى الأمام» في تغليب الهموم القومية الكردية على العراقية مع ما يترتب عليه من ردود فعل سياسي وقومي محتمل، أو السير صوب الاندماج الوطني العراقي بمعايير الرؤية الواقعية والعقلانية. ومن ثم العمل من اجل اجتياز مرحلة الانتقال الصعبة صوب الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. وهما تياران يتنازعان الحركات القومية الكردية في العراق. إلا أن الغلبة مازالت فيه لحد الآن للتيار الأول، والذي أكثر من يمثله تيار الحركة البرزانية. ولكنه يتخلل بدرجات متفاوتة كافة الحركات القومية الكردية الحالية في العراق. وهو أمر جلي في اشتراك أو إجماع مختلف الحركات القومية الكردية بإشكال وصيغ متباينة على «مطالب قومية» متزايدة ومعزولة عن الهمّ العراقي العام. بمعنى خضوعها من حيث المقدمات والغايات إلى أولوية المشروع الكردي و«الكردستاني».

 لكن حالما تكون هذه «المطالب القومية» جزء من «اللعبة السياسية» في ظروف الانتقال الصعبة والخطرة إلى الديمقراطية والدولة الشرعية، فإنها لا تصبح جزء من قضية قومية كردية، بل عراقية عامة. بمعنى أنها لم تعد قضية جزئية بل قضية عامة، وذلك لما لها من أثر مباشر وغير مباشر على آفاق تطور العملية السياسية والعلاقات القومية في العراق ككل. لاسيما وأن حصيلة «المطالب القومية» الكردية لا تتعدى في الواقع غير قضية الأرض والثروة! فهما الحافزان القائمان وراء الخطاب السياسي العلني والمستتر. وهما حافزان يمكن تتبعهما في كل الممارسات «المعتدلة» و«البراجماتيكية» للقوى القومية الكردية، بما في ذلك في الموقف من الدستور. فقد قبلت القوى القومية الكردية «العلمانية» بالمواد الدينية مقابل الحصول على «جميع المكتسبات». وليس المقصود بها من حيث الجوهر سوى الإبقاء على «خلاف الأرض» في العراق!! من خلال المواد المنقولة من «القانون المؤقت» إلى «الدستور الدائم»، واقصد بذلك ما يسمى المادة 58. بعبارة أخرى إن الهمّ الباطني والوحيد للقوى الكردية «العلمانية» هو المادة 58، أي كركوك وليس غيرها، تماما كما كان الحال في الموقف من «قانون الحكم المؤقت»، أي أن الجوهري فيه بالنسبة لها هو المادة 58. وفي كلتا الحالتين لا توجد في الواقع سوى نفسية الغنيمة بالأرض، المميزة لنفسية الحركات القومية الكردية على امتداد وجودها الحديث في شمال العراق.(يتبع....)

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم