قضايا

فكرة العود الأبدي لدى نيتشه

محمد الورداشي"ليس هناك حقائق، فقط تأويلات".

 لقد شغلت فلسفة نيتشه الباحثين لمدة طويلة ولا تزال، ويعزى هذا الاهتمام المنصبُّ عليها إلى كونها فلسفةً متعددةَ المواضيع والمجالات الإنسانية، فضلا عن المنهج الصارم في الاشتغال على القضايا الفلسفية القديمة. والمتأمل لفلسفة نيتشه، سيجد أنه لم يأت بشيء جديد فيما يتعلق بموضوعات فلسفته، وإنما تميز بطرحه الجديد وتناوله لقضايا طرحت في فترات تاريخية قبله. ومن بين القضايا التي اهتم بها الباحثون والدارسون لفلسفة نيتشه، نجد نظرية العود الأبدي، حيث إن لها جذورا لدى الفلاسفة اليونانيين، وملخصها هو أن الأحداث والوقائع التي وقعت سَتُكرر بالطريقة والكيفية نفسيهما دون زيادة أو نقصان. بيد أن نيتشه حاول تغيير الغاية من هذه النظرية، من خلال تعديلات أضفاها عليها ثم نسبها لنفسه بطريقة مضمرة. لكن، ونحن نقرأ كتابه المعنون ب "هكذا تكلم زرادشت"، مع استحضار ما قدمه في كتبه السابقة من إشارات، وضعنا تصورا أوليا، وهو أن هدفه الأساس هو بلوغ الإنسان المتفوق، في حين أن نظرية العود الأبدي لا تتفق وهذا الأمر؛ لأن ما كان يهدف إليه نيتشه هو بناء الإنسان العادي، والذي يقع بين الحيوان والإنسان الراقي، حتى يرتقيَّ إلى درجة إنسان أعلى، لكن الإنسان العادي سيستجيب لسنة العود الأبدي لا محالة. وحتى نقارب هذا التناقض، ينبغي أن نعود إلى الجزء الذي خصصه نيتشه لهذه النظرية من كتابه سالف الذكر، وذلك بالوقوف عند لغز الراعي والأفعى؛ إذ لا يمكن لقارئ الكتاب أن يفلت من الوقوع في متاهات فكه وتأويله. وهنا، سنكتفي بسؤال واحد، محاولين الوقوف عند الإجابات التأويلية التي يمكن أن نستنتجها من قراءتنا، والسؤال هو: ما الغاية من لغز الأفعى والراعي؟ هنالك تفسيرات وتأويلات كثيرة لهذه القصة الرمزية؛ لأن ثمة عددا كبيرا من الدارسين ذهبوا إلى أنها تلخص وجودية نيتشه، أي أن الإنسان يصنع قدره بنفسه بعدما يتفوق عليها، ولعل هذا ما يستنبط من ظاهر القصة. وهكذا، سنحاول عرض التأويلات التي قدمناها لهذه القصة بناءً على قراءتنا المكرورة، محاولين ترجيح أحدها تأسيسا على مؤشرات وردت في صفحات الكتاب بشكل متناثر.

- التأويل الأول:

الراعي: زرادشت،

الأفعى: العود الأبدي،

 الإنسان الذي سيصاب بهذه المصيبة: المُعرض عن العود الأبدي،

ما فات: الاشمئزاز منها،

وما سيأتي: الإنسان المتفوق.

 - التأويل الثاني: الراعي: زرادشت، الأفعى الحالكة: الوصايا القديمة لأهل الصلاح والعدل، تفل دافعا برأس الأفعى إلى بعيد: تحطيم الألواح القديمة، شهوة الضحكة: حب الحياة ورفض الموت. - التأويل الثالث: الراعي: العقل في مرحلة الجمل، الأفعى: الواجب، الصوت الآمرُ بالعضِّ: العقل في مرحلة الأسد، جلله الإشعاعُ: العقل في مرحلة الطفل.

- التأويل الرابع: الراعي: زرادشت، الأفعى: الاحتقار العظيم للإنسان الصغير، حيث ورد قول زرا: "وا أسفاه إن الإنسان سيعود، سيعود الإنسانُ الصغير دورا فدورا إلى الأبد" (ص227). الصوت الداخلي: الانتصار على الذات بإرادة القوة، ونرجح أن الصوت هما حيوانا زرادشت، أي النسر والأفعوان، حيث "صاح الحيوانان: انقطع عن الكلام... لأحد قبلك" (ص 227)، شددت عبثا: القضاء على الإنسان الصغير، ليس من عالم الإنسان، أي الأبدية. ولم يعد راعيا ولا إنسانا معناه: نبي أتى من عالم الأبدية؛ إذ جلله نور أي رسالة العود الأبدي، ومرد هذا إلى كون النسر (القوة) والأفعوان (الأبدية) هما الصوت الذي أعلن لزرادشت بأنه النبيُّ المعلِنُ تكرار عودة الأشياء إلى الأبد. فكيف أرضى الموت، أي تكرار الإعلان عن هذه الرسالة والقيام بهذه المهمة بشكل أبدي، وكذا التبشير بالإنسان المتفوق. وبعد، فإننا نرجح التأويل الأخير؛ لأن نيتشه كان يهدف إلى بلوغ درجة الإنسان المتفوق على ذاته، ومن ثم سيعمل على بناء الفرد العادي، لكن بعد تخليصه من أمور عدة تثقل كاهلَهُ، منها: الدين، والإرادة السجينة، والاعتماد على الآخر، والتحسر على الماضي؛ لأن "الزمان لا يعود أدراجه". وبهذا يتأهل الفرد لكي يستجيب لنداء نيتشه: "يجب عليك أن تصير من أنت" (ص242). ونافل القول إن نيتشه كان يرى نفسه إنسانا متفوقا على ذاته، ومن ثم صار نبيا ومنذرا بمجيء الإنسان المتفوق الذي سيتكرر عبر العود الأبدي (ثمة احتمال أن يكون قد ظهر في العصور القديمة) لأنه اعتقد أن هنالك أجيالا مبدعة ستأتي بعده، وستتشرب وصاياه وتعاليمه، وتبشر بها ثم تنذر بمجيء الإنسان المتفوق؛ أي أجيال أخرى مبدعة بعدها. وهكذا ستتم لنيتشه غايته وحلمه، وذلك لكون وصاياه الجديدة لبناء فردانية قوية ستتكرر عبر الأزمنة وبشكل أبدي. لقد أراد نيتشه أن يولد بعد موته، وهذه نبوءته من خلال وضع الإنسان الأعلى داخل دورة العود الأبدي، ولعل هذا ما جعله حيا بفكره إلى يومنا هذا، ومن ثم تتحقق نبوءته: "هنالك أناس يولدون بعد موتهم"، ففكره صمد، ولا يزال، أمام عواصف التأويل وهنا مكمن قوته ومتانته. 

 

ذ. محمد الورداشي

 

 

في المثقف اليوم