قضايا

الصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ للإسْلامِ فِي مَظَانِ المَلاحِدَةِ

بليغ حمدي اسماعيللم يأنف الملاحدة جهداً في حملتهم المسعورة ضد الإسلام والمسلمين، بل ودفعهم غرورهم العلمي أن ينكروا وجود الله، ولقد بذلوا جهوداً مضنية في الكيد والنيل من الإسلام والقرآن الكريم بوصفه دستور المسلمين، ويمكننا حصر بعض تلك المطاعن والمزاعم في مسائل وشبهات محددة، هي أن الإسلام ملفق من الديانات السابقة، وأنه يدعو إلى التواكل والسلبية، ويظلم المرأة ويهضم حقوقها، وأخيرا بأنه دين يحارب الفنون.

الشبهة الأولى ـ الإسلام ملفق من الديانات السابقة:

بادر الملاحدة والمستشرقون في سلب خصوصية الإسلام وانفراده المتميز المتمثل في القرآن الكريم، وادعوا أنه دين ملفق من كتب سماوية وعقائد دنيوية سابقة. ولنا أن نسأل هل كان معاصرو النبي محمد (ص) ومعارضوه في غفلة عن هذا وقت بزوغ فجر الإسلام؟. بالطبع كان هؤلاء موجودين، ولكن لم يستطع أحد منهم أن يذكر قرينة واحدة على قولهم هذا، بل لهم نقول إن الإسلام جاء بتعاليم ومبادئ وقوانين لم تشملها الكتب السماوية السابقة، بل الإضافة إلى ما تمتع به القرآن الكريم من مزية فريدة اختص بها وهي الإخبار عن الأمم السابقة، والحديث عن أمور غيبية حدثت بعد ذلك.

الشبهة الثانية ـ الإسلام يدعو إلى التواكل والسلبية:

لم يجد ملاحدة العصر الحديث من شبهات يلصقونها بالإسلام فادعوا كذباً بأن الإسلام عقيدة تدعو إلى التواكل والسطحية واللامبالاة تجاه المتغيرات الحياتية والمجتمعية، ومن يقرأ القرآن الكريم ويتدبر معانيه وآياته الحكيمة يتأكد أن الإسلام دين يحث على العمل، ويدفع الإنسان نحو، والمطالع لآيات القرآن يدرك ويفطن الربط المستدام بين الإيمان والعمل، يقول الله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).

والقرآن يحث المؤمنين على العمل حتى في أوقات الراحة، وأقصد يوم الجمعة، فيقول الله تعالى في ذلك: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله). فأين هذا التواكل الذي يلصقه الملاحدة بالإسلام والمسلمين؟ . والسنة النبوية لصاحبها (ص) تحث على العمل والسعي الدءوب غير المنقطع من أجل عمارة الأرض، يقول الرسول (ص): " إذا قامت الساعة في يد أحدكم فسيلة فإذا استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل". بل ونجد الرسول الكريم (ص) يضرب مثلاً أعلى في الدعوة إلى العمل حيث رفض انقطاع الناس للعبادة في المسجد واعتمادهم على غيرهم في المأكل والمطعم والمشرب والملبس، وامتدح من يعمل ويكد من كسب يده بشرف وأمانة وتقوى ومراقبة من الله تبارك وتعالى.

ولقد خلط أولئك الملاحدة بين التوكل الذي يعني تدبر الأمور والأخذ بالأسباب والتزود بالطاقة الروحية والعبادة، وبين التواكل الذي يعني الكسل وعدم الأخذ بالأسباب والوسائل المعينة. وكلنا يعرف كيف طرد الفاروق عمر بن الخطاب أولئك المتواكلين المنقطعين للعبادة في المسجد معتمدين على غيرهم في رعايتهم وقضاء شؤونهم، وقال عبارته المشهورة: " إن السماء لا تمطر ذهباً"، واستشهد في ذلك بحديث النبي (ص) الذي يقول فيه: " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطانا ً" .

وليس هذا فحسب بل جعل الإسلام العمل المفيد من أسباب الثواب وزيادة الحسنات، وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تتعلق بهذه المعاني ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) وقوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ)، كما أن السنّة الشريفة تضمنت العديد من النصوص التي تحث على العمل والكسب الحلال مثل قول الرسول (ص): "ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده"، وقوله (ص): "من أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفوراً له" .

الشبهة الثالثة ـ الإسلام يظلم المرأة ويهضم حقوقها:

تشير أصابع الملاحدة بالاتهام خفية وعلانية بأن الإسلام معاد حقيقي للمرأة، وأنه هضم حقها، وأغفل حقيقتها ودورها التاريخي قبل الإنساني. والمجال غير متسع لعرض وضع المرأة قبل الإسلام، وما كان عليه النكاح من صور أكثر وحشية وهمجية واحتقاراً لها من نكاح استبضاع، إلى نكاح الرهط، مروراً بنكاح صواحبات الرايات، انتهاءً بنكاح الشغار والبدل والضغينة.

ولا شك أن موقف المرأة كان صعباً في ظل التصور الإسلامي لبعض الصحابة، ورغم ذلك شاركت النساء في النضال اليومي للعيش والحياة الاجتماعية والاكتشاف اليومي لطبيعة الإسلام، فكن يعملن بالإضافة إلى اكتشاف أحكام القرآن والإسلام دون تمييز أو تهميش أو إلغاء، وهذا يدل على أن المرأة ليست هي العورة، بل إن العورة هي العورة، وهو ما فصله رسولنا الكريم (ص)، فكانت المرأة تغزل وتنسج وتبيع ما تصنعه وسط مرأى ومسمع الجميع، وهذا يؤكد طبيعة المجتمع المدني الذي لا يميز أي فرد عن بقية أعضائه.

ولو أن الإسلام قد قوض مكانة المرأة، وسعى إلى تغييبها حضارياً لما سمعنا أسماءً بعينها من نساء الإسلام الصالحات، كالسيدة خديجة، والسيدة صفية، والسيدة فاطمة، وزينب بنت جحش، وأم أيوب الأنصاري، وجهيزة، وأم حكيم، وغيرهن كثيرات. ولابد أن نقر حقيقة تاريخية وهي أن الإسلام أنصف المرأة الإنصاف كله، وأزال عنها ما لحقها من ظلم، وحررها من العبودية واستغلال جسدها، ورفع مكانتها وأعلى منزلتها، في الوقت الذي لم يعترف الغرب بحقوق المرأة إلا في القرن التاسع عشر بعد جهاد طويل.

وعجيب جداً أمر هؤلاء الذين يقصرون حقوق المرأة في حجاب رأسها، وارتدائها للبنطال، ومشاركتها العمل وسط الرجال، وذهابها إلى صلاة التراويح، وغيرها من القضايا الجدلية لصرف الأنظار عن سماحة الإسلام وإتاحة الحرية للمرأة في معاملات البيع والشراء، والاحتفاظ بمالها، وقد أجاز لها حق التملك،وساوى بينها وبين الرجل. والله تعالى يقول في ذلك: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فألئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا).

والإسلام الحنيف لم يمنع المرأة من الجهاد والعمل، قال تعالى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)، والتاريخ الإسلامي يحفظ أسماء الصحابيات اللاتي جاهدن في سبيل الله مثل الربيع بنت معوذ التي قالت: كنا نغزو مع رسول الله نسقي القوم ونخدمهم ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة.هذا بخلاف ما صنعه الإسلام للمرأة من حق الميراث وكانت لا ترث، وكذلك تحريمه لوأد البنات وهن صغيرات.

لكن معظم الملاحدة من العصر الحديث يضيقون النظرة نحو الإسلام ويصرون على إظهار الفروق القليلة بين حقوق وواجبات كل من الرجل والمرأة، ونؤكد لهم أن هذه الفروق المعدودة كما ذكر شيخنا محمد الغزالي احترام لأصل الفطرة الإنسانية وما ينبني عليها من تفاوت الوظائف، فالأساس قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض).

وأكاد أجزم لهؤلاء الذين يؤكدون خفية وجهراً على أن الإسلام قد قهر المرأة، بأن أبين لهم أن الإسلام منح لها حق الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتدريس، بل ومجادلة الملاحدة والمارقين. لكن المحاربين ملتزمون بقضايا فتنة ذكر المرأة لاسمها، ووجهها العورة، وصوتها العورة، والكارثة أننا ابتلينا منذ فترة ليست بالقريبة بأناس لا يتدبرون القرآن، ويحرفون كلام رسول الله (ص) عن مواضعه، فيبذلون قصارى جهدهم في إحداث فتنة حقيقية سلاحهم فيها المرأة.

لقد بنيت حقوق المرأة في الإسلام على أعدل أساس يتقرر به إنصاف صاحب الحق، وإنصاف سائر البشر معه، وهو أساس المساواة بين الحقوق والواجبات، وإذا كانت الدول المتقدمة اليوم تنادي بتمكين المرأة اجتماعيا وسياسياً ودينياً،فإن الإسلام منذ أربعة عشر قرناً وثلاثين سنة قام بها وخير دليل بيعة العقبة الكبرى، ومن العجب ترك الزمام لهؤلاء الذين يصرون على جعل المرأة كائن غير طاهر، وهذا باطل، وأنها كلها عورة، وهذا باطل، وأنها كائن ناقص ـ ومن منا يتسم بالكمال والتمام ـ وأنها عديمة التفكير ولهم جميعاً أردد قول الشاعر:

  إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه     وصدق ما يعتاده من توهم.

الشبهة الرابعة ـ الإسلام يحارب الفنون:

لايزال يصر الملحدون والمارقون عن الدين على أن الإسلام الجميل يحارب الفنون الجميلة ويرفضها ويحرمها تحريماً مطلقاً، ويشاركهم القول في هذا العلمانيون الذين لا يرون ـ لقصر نظرهم ـ في الإسلام خيراً.

والقرآن الكريم لم يغفل الحديث عن هؤلاء بتحدث عنهم بقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القران أم على القلوب أقفالها)، فالقرآن ملئ بالصور البيانية والجمالية فائقة الروعة والتصوير، ومن يتمعن في آيات القرآن الكريم يدرك حجم التناسق والإبداع والإتقان في التصوير، ومن هنا فلا يعقل أبداً أن الإسلام الحنيف يرفض الفن ويحاربه إذا كان الفن جميلاً ومقبولاً.

والإسلام في هذا وضع ضوابط وشروطاً مهمة ومحددة لقبول هذا الفن، فإن كان هدفه الإمتاع الذهني، وترقيق وترقية الشعور، وتهذيب النفوس والأحاسيس دون خلل أو انحراف أو إثارة للغرائز المحمومة والشهوات، فلا اعتراض عليه. والملاحدة والعلمانيون يستغلون سذاجة بعض الشباب البعيد عن دينه وينزلقون بهم في هاوية الحديث عن الفنون وصناعة التماثيل وإقامة المتاحف ولعب الأطفال المجسمة.

ويفاجئ علماء المسلمين هؤلاء الملاحدة بأن الإسلام أجاز إقامة المتاحف، وذلك على أساس أن الآثار سجل تاريخي يلزم المحافظة عليه لأنه من الضرورات العلمية. كما أجاز الإسلام الحنيف استعمال لعب الأطفال لتعليم الأطفال وتسليتهم .

وكلنا يحفظ بذاكرته الواقعة الشهيرة حينما دخل خليفة رسول الله أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) على ابنته عائشة زوجة الرسول (ص) ولديها جاريتان تغنيان وتضربان بالدفوف، فاعترض أبو بكر الصديق على ذلك، ولكن النبي رفض ما أبداه أبو بكر من احتجاج في هذا الصدد قائلاً: "دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد" .

ومن المؤسف في هذه القضية، قضية الإسلام والفنون، أن بعض المسلمين انجرف وراء ملاحدة هذا العصر واكتوى بنار الشيوعيين والعلمانيين وترك هموم وقضايا وطنه الحيوية وأصبح بوقاً لهؤلاء المارقين، ألم نعي أننا في مرحلة صعبة وحرجة في تاريخ الأمة الإسلامية وعلينا أن نوحد جهودنا وطاقاتنا المهدرة من أجل خدمة الإسلام والرقي بالمسلمين؟ .

 

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

في المثقف اليوم