قضايا

محاضرة المفكر عبد الله العروي بين الكائن والممكن

محمد الورداشيألقى المفكر المغربي عبد الله العروي محاضرة بمناسبة فتح "كرسي عبد الله  العروي للترجمة والتأويل"، مساء يوم الأربعاء 8 يناير 2020 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية- الرباط، حيث تطرقت المحاضرة إلى مجموعة من القضايا التي ترتبت عليها ردود أفعال وتعليقات كثيرة إن في مواقع التواصل الاجتماعي أو الجرائد والصحف الالكترونية والورقية، والتي تراوحت بين الاتفاق مع طرح العروي والاختلاف معه. وفي هذا الصدد، ارتأينا أن نقدم تعليقا حول أهم القضايا التي طرحت في المحاضرة. لقد ورد على لسان العروي أن الدولة الوطنية تتجه نحو مأزق الانتماء للقبيلة، دون أن يقدم تفصيلا حول الأسباب التي دفعت به إلى هذه النتيجة الصريحة، والتي تجعلنا أمام إشكالية مقلقة تدفع الباحثين عموما إلى محاولة وضع الإصبع على مكمن الخلل في الدولة الوطنية، فضلا عن كوننا لا زلنا عاجزين عن تحديد هوية الدولة في العالم العربي عامة، والمغرب على وجه الخصوص؛ فمن حكم القبيلة والعشيرة، إلى الدولة الوطنية، إلى الدولة القومية، يصعب القول إن هنالك هوية ثابتة وخالصة لهذه الدولة، ومرد الأمر إلى أننا نرى أن الدولة، في العالم العربي والمغرب كما أشرنا، تكاد تكون خليطا غير متجانس. ولئن كان العروي يرى أن ثمة نكوصا وتقهقرا نحو حكم القبيلة، فإننا نتساءل: ألا يمكن أن يتجه مسار الدولة الوطنية إلى دولة علمانية خالصة، أو دينية، أو تكنوقراطية، أو اللادولة حيث تكون الغلبة للحكم العشائري والقبلي والطائفي؟ أم أننا سنعود إلى ما دعت إليه جماعةٌ من الخوارخ، وهم الأزارقة، في عهد الدولة الأموية، من أن ليس ثمة حاجة لوجود دولة؟ وفي هذه السياق، نجد أن استشراف العروي يعود إلى الخلف عكس تصوره الحداثي الهادف إلى اللحاق بالركب الحضاري المتقدم، وهنا نتساءل: ما منطق تعامل الدول العربية مع التحديث؟ أهو منطق السماح الذي يتعامل مع الحداثة كترف فكري وثقافي واجتماعي، أم أن ثمة مناخا عربيا أنتجته الظروف الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الثقافية يتطلب الحداثة؟ أما القضية الثانية، فهي إشارة العروي إلى خطورة الأمية الرقمية أكثر من نظيرتها الحرفية، متسائلا عن إمكانية القضاء على إحداهما بمجرد القضاء على الأخرى، تاركا السؤال حائرا بدون جواب محدد. بيد أننا نتساءل بدورنا عن أسباب هاتين الأميتين؟ هل هما ثمرتا الدولة الوطنية؟ هل هما سببا الدفع بهذه الدولة إلى التفكك والانحلال إلى حكم القبيلة؟ ألا يمكن القول، صراحة، إن الأمية الحرفية واستفحالها في المجتمع المغربي سبب في تفشي الأمية الرقمية، وأن هذه الأخيرة تحجب خطورة الأولى؟ إننا نعتقد أن هروب المجتمعات العربية إلى الأمام دون حل الإشكالات والأزمات الموجودة، لا ينتج عنه إلا تعتيم الوضع أكثر مما هو عليه، فالدول العربية ترى أن اللجوء إلى قطف ثمار الحضارة الحديثة المتقدمة، خاصة في المجال التقني والأداتي، ودون أن تقدم ثمنا على ذلك، قمين بالقضاء على تلك التحديات والإشكالات التي تعانيها وتتخبط فيها، ومن ثمة تكون النتيجة هي إضافة أمية رقمية إلى الأمية الحرفية؟. وهكذا، لا يمكن أن نفصل الحديث عن العالم الافتراضي على إشكالية الأمية المزدوجة؛ لأن هذا العالم من شأنه أن يعمق الجروح المندملة التي تؤلم الفرد العربي عامة والمغربي خاصة. وتبقى القضية الثالثة المتعلقة بالنقل من أكثر القضايا تحديا للباحثين، وتظهر ملامح أهميتها من خلال بعض ردود الأفعال والتساؤلات المعرفية المقلقة التي تزعج أكثر مما تهدئ. لقد أشار المفكر العروي إلى أن النقل لا يتم مرة واحدة فحسب، وإنما هو عملية مستمرة ومتجددة، مشيرا إلى الأهمية الكبيرة التي يوليها الغرب لهذه العملية. فمن خلال هذه القضية نستشف التالي: نجد أن المفكر العروي لا زال متمسكا بطرحه وموقفه حول إشكالية التراث والحداثة؛ لأننا نعلم أن هنالك اتجاهين مختلفين في التعامل مع الإشكالية، قديما أو حديثا، ولئن كان المفكر الجابري قد دعا إلى قراءة التراث العربي-الإسلامي، واستخلاص ما هو مفيد منه، ثم محاولة جعله مسايرا للحداثة والتحديث، فإن العروي دعا إلى الحسم مع التراث، والانخراط الفعلي في مشروع الحداثة الغربية؛ لأن الحضارة الإنسانية العالمية هي فسيفساء من الحضارات السابقة. فمن خلال دعوته إلى إعادة ترجمة ما تم نقله عن الغرب في فترات تاريخية معينة، نجد أنه يؤكد، وبشكل ضمني، على ممارسة ما يسميه بالماركسية النفعية، أي أن نتعامل مع الحضارة الغربية من منطلق المصلحة والمنفعة. والمتأمل في هذه النقطة، سيتوصل إلى أنه لا يستحضر، في النقل عن الآخر، منطق التابع والمتبوع، ولا منطق المغلوب المنهزم الذي ينقل عن القوي المنتصر. ونحن نعلم أن الحضارة الغربية، في نهضتها، قد نقلت عن الحضارة العربية المنتصرة، ما بنت به صرح نهضتها وعظمتها، ومن هنا، نعتقد أنه قد آن الأوان للتصالح مع أفكار العروي، التي ذكر في محاضرته أن أقل ما يقال عنها أنها أفكار خلافية، وأن نستجيب لدعوته إلى المزيد من الانخراط في مشروع الحداثة وليس ما بعد الحداثة، ومن ثم فإن المجتمع المغربي لم يعد في حاجة إلى إقامة وزن للاختلافات الأدلوجية في التعامل مع التراث والحداثة، وإنما آن الأوان لننفتح على مختلِف المشاريع الفكرية العربية على اختلاف مرجعياتها وأهدافها وتوجهاتها، وأن نتعامل معها من منطلق المنفعة والمصلحة، والشيء نفسه مع مشروع التحديث الغربي اعتمادا على الحوار الفكري والثقافي، وبعيدا عن الإحساس بالدونية أمام الآخر، ولا جلد الذات الجريحة المنكسرة. ختاما، نقول إن القضايا التي طرحها المفكر في محاضرته، هي دعوة صريحة إلى المزيد من الانفتاح والانخراط في مشروع الحداثة الغربية، كما أنها قضايا تخلق قلقا فكريا واجتماعيا في العقل المغربي، ما يتطلب منه بذل مجهود كبير نحو المستقبل؛ لأن هذه المحاضرة ليست نقطةَ نهايةٍ لفكر العروي، كما زعم الكثيرون ممن يتفقون أو يختلفون مع النتائج دون العودة إلى الأسس التي ترتبت عليها تلك النتائج، ولا إيذانا بضيق أفقه، كما تشدق آخرون، وإنما هي دعوة إلى التعاطي الإيجابي مع هذه الإشكالات والتحديات التي تقف حجر عثرة أمام تقدم المجتمع المغربي، والتي قد تكون إعلانا عن فشل مشروع الحداثة في المغرب. ونعيد تأكيدنا على أهمية مشروع المفكر، وباقي المشاريع الفكرية العربية والغربية، والتعامل معه من منطلق المصلحة العامة، لا من منطلق الأدلوجة والتأدلج الشخصي الفردي الدوغمائي

 

محمد الورداشي

 

في المثقف اليوم