قضايا

إشكاليات المصطلح والمفهوم بالنسبة للوعي العلمي والمنهجي

ميثم الجنابينوادر "منهجية"

قبل الدخول العلمي والمنهجي في تحليل أهمية وقيمة المصطلح والمفهوم بالنسبة للوعي النظري والعملي، أود ايراد وسرد بعض الحوادث "النموذجية" التي عشتها شخصيا، قبل عقود من الزمن، والتي دعتني آنذاك للتفكير بمشروع مقالات عديدة يمكن جمعها لاحقا في كتاب أقرب الى "قاموس" المصطلحات والمفاهيم. بحيث يشمل أغلب ما هو متداول منها في كتابات الكثير من الكتاب المشهورين والمغمورين، بما في ذلك من يطلق عليهم كلمة "مفكر" وما شابه ذلك من ألقاب فارغة لا علاقة لها بالكلمة ولا بصاحبها!

وهذه في الوقع قضية غاية في الأهمية بالنسبة للقيم العلمية والتقييم العلمي. لكي لا يجري الإسراف في امور لا معنى لها، مع ما يترتب عليه من ابتذال صارخ بحيث يجرى مساواة الجهلة وأنصاف المتعلمين برجال افذاذ. وهذا ينطبق على عشرات بل مئات من المصطلحات والمفاهيم الخاطئة والشائعة الانتشار في المقالات والدراسات والأبحاث والكتب. الأمر الذي يترتب عليه بالضرورة ضعف الوعي وانعدام الدقة المنهجية ومن ثم انهيار منظومة الرؤية العلمية والثقافية. فكلمة "مفكر" الواسعة الانتشار والتي يمكن رؤيتها ملصقة على اسماء آلاف الكتاب بما في ذلك من الدرجة السابعة هو دليل على ابتذال الكلمة والمعنى والمصطلح والمفهوم وقيمته العلمية والثقافية. وعموما، إن هذه الكلمة هي خاطئة بحد ذاتها من حيث توظيفها في العربية. إنها مجرد ترجمة سقيمة ومباشرة لما في اللغات الأوربية. بينما في العربية فإن كلمة مفكر تطلق على كل انسان لأنه "كائن يفكر". واشتقت الثقافة العربية الإسلامية وأبدعت اصطلاحاتها الخاصة في تقييم الشخصيات العلمية التي جرى اهمالها والاستعاضة عنها بكل ما هو "غريب" لا لشيء إلا بأثر حالة الانحطاط الثقافي الذي واجهت به الثقافة العربية في القرن التاسع والعشرين مقابلها الأوربي. من هنا كساد الاصطلاحات العربية الدقيقة والعميقة والجميلة أمام ركام الحضارة الأوربية. ولكل منها تاريخه وإبداعه الخاص. بمعنى إن وراء المصطلحات ليست فقط تقاليد العلم والمعرفة، بل وتقاليد الرؤية الثقافية.

في احدى المرات هاجمني احد الأشخاص، لأنه وجد الى جانب اسمي كلمة "بروفيسور". ومع انني لا استعمل الألقاب العلمية حالما انشر ما انشره، بما في ذلك كتبي الكبيرة، إلا أن الكثير من المجلات والصحف والمواقع الالكترونية هم من يأخذون على عاتقهم هذه "المبادرة". وهو امر لا خطأ فيه. ففي "الغرب الأوربي" لا ينشرون في المجلات العلمية المحترفة والرصينة لمن لا يمتلك درجات علمية وألقابا تناسبها. وكلمة "بروفيسور" لا تطلق على كل من هب ودب. والحصول عليها، على سبيلا المثال في روسيا، يفترض أن يكون المرء قد دافع عن رسالة دكتوراه علوم، أي ما بعد الدكتوراه العادية. وعادة ما يجري السماح لكتابتها والدفاع عنها لمن حصل على درجة الدكتوراه بعد عشرين أو ثلاثين سنة! وبعد ذلك العمل خمس سنوات كحد أدنى في التدريس الجامعي والبحث العلمي لكل تعطى له. بمعنى إنها نتاج "شقاء" علمي شديد ومعقد. على عكس ما هو سائد في اغلب البلدان العربية حيث تعطى على اساس السنوات والعمر بما في ذلك الإداري. وليس غريبا أن نرى "مقالات" لأساتذة لا ترتقى في حالات عديدة إلى مستوى طلبة الصفوف الأولى الجامعية! وهذه قضية اخرى، لكنها في الوقت نفسه هي نتاج غياب وانعدام التقاليد العلمية الدقيقة بما في ذلك في المصطلح والمفاهيم.

وعودا إلى كلمة برفيسور والتي تقابل معنى "الاستاذ" في العربية المعاصرة، والتي تفتقد بدورها إلى دقة الحدود في ما يتعلق بمضمونها. فهي تطلق ليس فقط على من يحمل هذا اللقب العلمي، بل وعلى بياع الطماطم والخيار والحلاق والاسكافي والحوذي! والغريب في الأمر، هو أن من اثارته كلمة "بروفيسور" قابل بكل اريحية بكلمة "البكالوريوس" و"الليسانس" و"الماجستير" و"الدكتوراه". بينما هي جميعها اجنبية أوربية! وكلمة استاذ هي الأخرى ليس عربية بل فارسية معرّبة. وهي تعادل معنى البروفيسور، أي الحرفي أو المحترف. من هنا يستعمل اهل العراق كلمة "أسطة" وفي سوريا "المعَّلِم". وهي تعادل أو تعني معنى الاستاذ والبروفيسور!

والكلمات الأوربية هي نتاج تاريخ ثقافي وعلمي بقدر واحد. ولا جمالية فيها، فهي مرتبطة بمفاهيم الحرفة مثل سائس الخيل والكبير والأسطة وما شابه ذلك. بينما ابدعت الثقافة العربية الإسلامية اصطلاحاتها الدقيقة في ما يتعلق بالأسماء والألقاب من خلال الفنون العلمية والمعرفة والحرفة العلمية، مثل الطالب والمعلم والعالم والإمام واختصاصاتها الملموسة من فقيه ولغوي ومتكلم وطبيب ومئات غيرها. كما أن لكل مستوى القابه الخاصة مثل الجهبذ والنحرير والفحل ويتيم عصره وكثير غيرها. ولا مفاضلة هنا بين الاثنين، بقدر ما انوي الاشارة والتدقيق في ماهية المصطلح وجذوره الثقافية.

فالاصطلاحات والمفاهيم هي نتاج تجارب تاريخية ثقافية. ومن ثم ينبغي التعامل معها ضمن هذا السياق. والعمل ضمن هذه الرؤية يؤدي إلى انفتاح القريحة العلمية والتحرر من استلاب غبي لا معنى له ولا قيمة. فالاستلاب هنا يدفع الشخص بما في ذلك "المثقف" للسقوط في أوحال التقليد!

وأعود هنا للنادرة التي أثارت في أعماقي الرغبة بمواجهة هذه القضية الشائكة والمعقدة بسبب انتشارها وليس بسبب تعقيدها بحد ذاتها. إذ لا تعقيد فيها. بمعنى انه يمكن تأسيسها وغرسها في الوعي من الصغر، شأن تعليم التلامذة ابجدية النطق والكتابة. فبدونها لا يمكننا سماع ولا قراءة ما يمكن فهمه واستساغته. وهو واقع واسع الانتشار في الثقافة العربية الحالية، ليس "الجماهيرية" بل وبين المثقفين، دعك عن رؤساء الدول والملوك والأمراء. فهذه فضيحة من نوع آخر.

إن النادرة التي اتحدث عنها تقوم في ما يلي: كنت اتمشى قبل اكثر من عقدين من الزمن في دمشق صباحا باتجاه دمشق القديمة ومناطقها الخلابة والهادئة بما في ذلك في صخبها، وبالأخص حول محيط الجامع الأموي. وإذ بأحد الأشخاص ممن كنت اعرفهم، يهتف علي من بعد. والتقينا وسرنا سوية صوب المدينة القديمة. وحدثني عما يقوم به من كتابة عن الثقافة والدولة وأمور اخرى سياسية. وكان كثير الاستعمال لبعض الاصطلاحات الفلسفية، وبالأخص كلمة "ابستيمولوجي" الواسعة الانتشار حد القرف في ثمانينيات وتسعينات القرن الماضي. وكان يتلذذ بلفظها على الطريقة الفرنسية (التي لم يكن يعرفها) ويعيدها بأشكال مختلفة (ابستيمولوجي، ابيستيمولوجيا، ابستيمي وغيرها). وجميع ما كان يستعمله ليس في محله. الأمر الذي دفعني للمزاح العلمي معه، بأنني لا افهم ولا اعرف مضمون هذه المصطلحات، وحبذا لو شرحها لي بطريقة مفهومة. وقد اندهش من قولي هذا، وأجاب مستفسرا عما إذا امزح معه، لاسيما وأنا "رب الفلسفة"، حسب عبارته. وأكدت له بأنني ارغب فعلا بفهم مضمونها كما يفهمها هو. وهلم انني اعرف ذلك، فماذا لو استفسر منك شخص لا يعرف معناها. عندها اجاب بأن معنى ابستيمولوجي هو ابستيمولوجي وابستيمولوجيا. وعندما مازحته بأن هذا مجرد تكرار مثير للسخرية، ولا يكشف المعنى بل يزيده انغلاقا. عندها اخذت بشرح هذا المصطلح، اصوله وجذوره ومعناه ووظيفته المعرفية وتغير مضمونها التاريخي وأبعاده الثقافية وأمور أخرى عديدة على امتداد أكثر من نصف ساعة. عندها نظر الي بشكله الوديع والمبتسم والجازم شأنه في كل مواقفه قائلا: والله والله والله، أنا وكل المثقفين حمير لا نفقه شيئا في هذه الأمور. نكررها للأبهة السخيفة. عزيزي ميثم! هلا تكتب لنا مقالات أو كراس مختصر تشرح فيه كل ما يجري تداوله من مصطلحات، لأنه لا احد يفهم فيها شيئا على الإطلاق!

ولم تكن هذه الحالة غريبة بالنسبة لي. وقد خططت فعلا لسلسلة مقالات قصيرة مستمرة بحيث لا تشمل الاصطلاحات فقط، بل والمفاهيم والأحكام والصيغ المنتشرة لمختلف الانماط الجامدة في الكتابة والأحكام والتقييم المتعلقة بالحياة الفكرية والسياسية والتاريخية والثقافية والتراثية وغيرها. وقد كتبت العشرات منها بأوقات متفاوتة تناولت فيها بعض المفاهيم والشخصيات (تحت عنوان "شخصية ومصير"). ومن ثم كنت أهملها بسبب عدم رسوخها بهيئة مهمة أولية وضرورية بالنسبة لي. مع إدراكي الجازم بأهميتها الجوهرية بالنسبة للمعرفة العلمية والثقافية. إذ لا يمكن تأسيس المعرفة العلمية الرصينة دون رصانة الإدراك والاستعمال الدقيق والسليم للاصطلاح والمفاهيم. فبدونهما تنهار أسس المعرفة المنطقية والتأسيس العلمي للعقل النظري والعملي.

وقد طلب مني أحد الأصدقاء قبل يومين أن اتناول بالشرح والتدقيق مفهوم "الليبرالية"، بسبب اثارته الجدل وسوء الفهم أو انعدام الرؤية الدقيقة عنه. ووعدته بالقيام بذلك. وسوف اقوم به قريبا، واستكمله، كل ما ساعد الوقت والحال، على تدقيق مختلف المفاهيم والاصطلاحات بشكل عام والإشكالية منها بشكل خاص.  

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم