قضايا

المنطق واللغة عند اليونان (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن خصوصية العلاقة بين المنطق واللغة عند اليونان، وفي هذا نقول: ميز أرسطو بين الاسم المفرد، والاسم المركب، واسم الذات، واسم المعني، والاسم الإضافي أو النسبي، كما قسم الاسم إلي اسم حقيقي واسم مستعار، ومن ناحية أخري قسم الاسم إلى المذكر، والمؤنث، والمحايد، وقدم تعريفا لكل من الاسم والكلمة (الفعل) . كما بحث أرسطو في الألفاظ ومعانيها، فقسم الألفاظ إلي المتفقة، والمتواطئة، والمشتقة، وكذلك قسم المقولات إلى عشرة أقسام هي مقولة الجوهر، والكم، والكيف، والإضافة، والأين، والمتي، والفاعل، والمفعول، وأن يكون له، والوضع، معتمداً في هذا كله علي منطق القياس .

بل إن البعض يري أن قائمة المقولات الأرسطية قد أخذها أرسطو أيضا من النحو، والدليل على ذلك أن مقولات أرسطو تقوم علي تقسيم الكلام إلى أجزائه: فالجوهر يقابل الاسم، والكيف يقابل الصفة، والكون يقابل العدد، والإضافة تقابل صيغ التفضيل، والأين والمتي يقابلان ظرفي المكان، والزمان، والفعل، والانفعال والوضع تقابل الأفعال المتعدية،والمبنية للمجهول، واللازمة على التوالي، والملك يقابل صيغة الماضي في اليونانية Para Fait إذ يدل على الحالة التي يملكها الشخص نتيجة فعل فعله .

كذلك كان لبعض أفكار أرسطو المنطقية تأثيرها عندما حاول اللغويون ـ فيما بعد ـ تطبيقها على الدرس اللغوي. من ذلك مثلًا أفكاره في التعريف المنطقي؛ إذ وجدت آثارها في التطبيقات المعجمية، وأفكاره عن "معنى جزء الكلمة بالنسبة للكلمة، ومعنى جزء الجملة بالنسبة للجملة، وقد أخذها النحاة بعد ذلك لتكون أساسا لتقسيم النحـو إلى البنيـة morphology والتركيب syntax" . كما كان لأفكـاره فـي "المعنى" تأثيرهـا الواضح في النظريـة العقليـة mentalistic وهي إحدى النظريات الرئيسة في تفسير المعنى .

وازدادت على أيدي " الرواقيين" الصلة بين المنطق والنحو؛ فقد قسموا المنطق إلى الخطابة التي هي نظرية القول المتصل، وإلى الديالكتيك وموضوعه القول المنقسم بين السائل والمجيب، ولا تكاد ترتبط الخطابة عندهم بالفلسفة، أما الديالكتيك فيعرفونه بأنه فن الكلام الجيد، ولما كان الفكر والتعبير وثيقي الارتباط، فقد انقسم عندهم الديالكتيك إلي قسمين : قسم يدرس التعبير، وقسم يدرس ما يعبر عنه؛ أي اللفظ والفكر.

كما نجد اهتماما متزايدا بالجوانب اللغوية، وبالنحو على وجه أخص لديهم وذلك عندما ميزوا بين أقسام الكلام، وهي الاسم، والفعل، والأداة، والحرف، والظرف، كما تطورت المصطلحات الفنية بشكل كبير علي يد الرواقيين، وقدموا تفسيرا لبعض المصطلحات الأرسطية وزادوا عليها . وبالإضافة إلى ذلك، وضع الرواقيون تصنيفا دقيقا لحالات الإعراب، ووضعوا تعريفات محددة لبعض المصطلحات مثل المضارع، والتام، والرفع والنصب .

وعلى أيدي الرواقيين زيد قسم رابع، ثم قسم خامس إلى أقسام الكلمة الثلاثة عند أرسطو، كما قدمت شروح مستفيضة لآراء أرسطو اللغوية . كذلك يبدو أن الرواقيين كانوا أول من درس العدد والمطابقة بين الاسم والفعل، وحالات الاسم الإعرابية، وحالات الفعل من حيث الصيغة والزمن . كذلك فرق الرواقيون "بين الفعل المبني للمعلوم والمبني للمجهول، وبين الفعل المتعدي والفعل اللازم".

ومن جهة أخري أراد الرواقيون في دراساتهم اللغوية من خلال علم الاشتقاق Etymology تتبع الأسماء علي أصولها، ويمتد ذلك بالطبع إلي تتبعها في اللهجات، واللغات الأجنبية، وإن كانت مقارنة اللغات لم تحظ باهتمامهم أو باهتمام النحويين اللاتينيين بعدهم، وذلك لصعوبة الدراسة في هذا المجال؛ حيث أدى الأمر إلى معرفة أجنبية . أما في مجال النحو أو التركيب، فقد تصور الرواقيون مفهومًا معينًا للجملة المركبة، وناقشوا في هذا المجال وظيفة الروابط، كما ميزوا أيضًا بين أنواع مختلفة من الجمل (المبتدأ في حالة الرفع، وكذلك الحالات التي تنحرف عن هذه الحالة، والخبر المتعدي واللازم)، كما أنهم توصلوا إلي مفهوم التطابق .

وإذا انتقلنا إلي العصر الذي يلي عصر الرواقيين، نجد أن انتشار اللغة اليونانية قد بدأ في منطقة الشرق الأدنى في أعقاب غزو الإسكندر الأكبر لها، إذ كان دخوله للشرق وما تلاه من تكوين إمبراطورية يونانية في غرب البلاد اليونانية بمثابة نقطة تحول في التاريخ السياسي، والاجتماعي، والفكري بها؛ حيث دبت فيه حياة جديدة من الحضارات المختلفة والتي تتكون منها الحضارة الشرقية عامة، والتأم شملها في وحدة جديدة تحمل طابع الروح اليونانية، وصارت اليونانية لغة الإدارة العليا والمهن، ولغة الرقي الاجتماعي، وأصبح تعليم اللغة اليونانية لغير اليونانيين أول مرة نشاطًا واسع الانتشار له أساليبه ومتطلباته .

ومنذ ذلك الوقت اشتهرت اللغة اليونانية في البلاد السريانية، وأصبحت لها منـزلة اللغة الرسمية، ففي الإسكندرية بلغ علم اللغة عند اليونان أوج ازدهاره في الفترة الهلينستية (اليونانية – الشرقية "334 – 531 ق.م ") في الإسكندرية في مصر وفي منطقة (بيرجام) في آسيا الصغرى، وفي جزيرة رودوس قام قواعديو الإسكندرية بجمع كلمات اللغة ووضعها في معاجم، كما قام (ديسكولوس) بوضعِ نحو وصفي للغة اليونانية. ففي جميع أنحاء العالم الهلينستي الشرقي وفي كل مكان، له أية صبغة ثقافية، كانت اللغة اليونانية مستعملة أولًا بوصفها نوعا من اللغة المشتركة بين المثقفين، في حين ظلت الطبقات الدنيا في المجتمع تتحدث اللهجات الآرامية (السريانية مثلا) أو القبطية.

ولكن سرعان ما ظهرت مراكز ثقافية مستقلة تزايدت أهميتها بقدر اضمحلال قوة المراكز اليونانية نفسها، ومن بين هذه المراكز، وأهمها : الإسكندرية في مصر، وأنطاكية في سوريا، ثم في فترة تالية – تزايد عدد المدن ذات الجامعات والنظم التعليمية الخاصة؛ ففي الإسكندرية كان حظ البطالمة أوفر من حظوظ سائر الدول اليونانية في الشرق في ترقية شئون العلم والفلسفة . وكان بطلميوس الأول الملقب بسوتير أو المنقذ 367 -283ق. م،أول البطالمة عادلًا محبًا للعلم (حكم من سنة 305-285ق.م.)، فتقاطر إليه العلماء والفلاسفة من بلاد اليونان علي اختلاف القبائل والأماكن، فأكرم وفادتهم ونشطهم في مواصلة البحث والدرس، وأطلق لهم الأموال فزادوا احترامًا له ورغبة في العلم . وكان في جملة المقربين إليه خطيب أثيني اسمه "ديمتريوس فاليروس" Valerius Demetrios، أشار عليه بإنشاء مكتبة يجمع إليها الكتب من أنحاء العالم، فأجابه إلى ذلك، وهي مكتبة الإسكندرية .وبإشارته أيضًا أنشأ "سوتر" المتحف أو النادي Museum على هيئة مدارس أوربا الجامعة، يجتمع فيه العلماء والأدباء والفلاسفة للدرس والبحث وهو مدرسة الإسكندرية الشهيرة. .

وتؤكد المصادر أن مدرسة الإسكندرية قد أسهمت في نقل علوم اللغة والمنطق إلى العرب، ففي سنة 500م، كان العرب يعرفون اسم " يحي ثامسطيوس - 317-390م "؛ حيث يقول "جمال الدين القفطي" :" وذكر عبيد الله بن جبرائيل بن عبيد الله بن بختيشوع، أن اسم يحي ثامسطيوس كان قويا في علم النحو والمنطق والفلسفة "؛ كما عرف العرب " أمونيوس بن هرمياس " Ammonius Hermiae ويعرفون تلاميذه : سنبلقيوس simplicius ويحيي النحوي أو يحيي فيلوبولونس الشخصية الكبيرة في مدرسة الإسكندرية علي الأقل إن لم يكن رئيسها؛ ففي النصف الأول من القرن السادس الميلادي، وضع يحي النحوي شرحه لكثير من كتابات أرسطو، وبالذات كتب المنطق . ويقال إن النشاط الفكري الذي كان في القرن السابع كان استمرارًا للعصر السكندري الذهبي، وكان التعليم الفلسفي قد اقتصر علي دراسة النحو،والبيان، والطب والموسيقي، وعلى أجزاء من منطق ارسطو؛ حيث يذكر " إرنست رينان" أن " الترجمات السريانية للأورجانون في مدرسة الإسكندرية كانت تقف دائما عند الفصل السابع من التحليلات الأولي، كذلك فعل اليعاقبة مثل "سرجيوس" أسقف العرب الذي لم يترجم ولم يشرح إلا هذا الجزء "، ويذكر "ابن أبا أصيبعة" أن " يوحنا ابن حيلان كان قد امتنع أولًا عن قراءة كتاب التحليلات الثانية، مع تلميذه أبو نصر الفارابي .

وكانت الأماكن التي إزدهرت فيها علوم النحو، والمنطق، هي مدرسة الرها، ونصيبين، وأنطاكية؛ حيث يؤكد بعض الباحثين أنه " لما تمدن اليونان واستنبطوا الفلسفة والمنطق وغيرهما، نضجت علومهم وانتقلت بفتوح الإسكندر إلي العراق والشام، تلقاها السوريون ونقلوها إلى لسانهم، وأضافوا إليها بعد انتشار النصرانية الآداب النصرانية اليونانية، وحفظوها مع الفلسفة اليونانية في أديرتهم، ثم كانت مصدرًا للعلم والفلسفة إلى بلاد الفرس والهند وغيرهما . وكان السوريون في دولة الفرس الساسانية الواسطة الكبري في نقل علوم اليونان وطبهم وفلسفتهم إلي الفرس . ولــما بني الإمبراطور الفارسي كسري أنـوشـروان (ت 587 م) جند يسابور لتعليم الطب والفلسفة، كان جل اعتماده في ذلك على نصاري العراق والجزيرة، ناهيك بما حفظ من الآداب السامية على صبغته الوثنية في حران، لأن أهلها ظلوا على ديانتهم القديمة " .

ولقد قدم كسرى أنوشروان المأوى في بلاطه لهؤلاء الفلاسفة الذين كانوا بلا وظيفة بعد أن أغلق الإمبراطور الروماني " جوستنيان" الأكاديمية الأثينية (229 بعد الميلاد)، وكان من بين هؤلاء الفلاسفة : سيمبليقيوس . وفي هذه المراكز الثقافية والعلمية كانت الفلسفة اليونانية تُدرس، والكتب اليونانية تترجم إلي السريانية والفارسية . وفي هذه المنطقة القريبة من " جند يسابور" - كان ظهور العلامات الأولي للتأثير اليوناني، ولعل المناقشات الاعتزالية الأولى حول خلق القرآن ومشكلة حرية الإرادة والنظرية المتعلقة بصفات الله، ولعل كل ذلك يحمل دليلًا على الاتصال بين الثقافتين في مختلف المجالات قبل بدء الترجمة.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

 

في المثقف اليوم