قضايا

الثقافة التكنولوجية قبل عصر سقراط

محمود محمد عليفى هذا المقال أود أن نكمل المسيرة في دراسة الأثر الشرقى في العلم اليوناني بصفة عامة في مقالات سابقة نشرناها من قبل علي صفحات المثقف الزاهرة: حيث نبين هنا في هذا المقال مدى استفادة معظم اليونانيين من الشرقيين فى مجال الثقافة التكنولوجية، وذلك من خلال إجابتنا على هذا السؤال الذى يطرح نفسه بشدة على هؤلاء المتأخرين من اليونانيين وهو: لماذا لم يتقدم اليونانيون فى الثقافة التكنولوجية بأسرع مما تقدموا برغم دينهم لأسلافهم من الشرقيين؟

وللإجابة على هذا السؤال نعتقد أنه ربما أن معظم اليونانيين لم يكونوا متهئيين لتلقى التراث العلمي الشرقي الضخم دفعة واحدة، أو انهم عجنوا عن الالمام بأحسن ما فيه، بحيث تلقوا مجرد شذرات منه، وبالتالي لم يحصلوا من هذا التراث على الدفعة التى كانت من الممكن أن تنطلق بهم الى افاق ابعد بكثير من تلك التى بلغوها .

واعتقد أن هذا لا يقال على كل فترات العلم اليوناني، وإنما يقال على كل الفترة التى بين 400و330 ق.م، وهي التى تتضمن ما قام به فلاسفة اليونان (سقراط وأفلاطون وأرسطو ) من أعمال فى مجال العلم، حيث تتميز هذه الفترة بأن الأثر الشرقي في مجال العلم كان ضعيفاً ومحدوداً في العلم اليوناني في تلك الفترة، بسبب الاعتقاد السائد في أن العلم الشرقي كان يغلب عليه الاستخدام العلمي للمعارف الموروثة، ولكنه لم يكن يملك نفس القدر من البراعة فى التحليل العقلي النظري لهذه المعارف.

ومن هنا سعي معظم العلماء والفلاسفة اليونانيين فى تلك الفترة الي جعل العلم نظرياً لا تطبيقيا، وذلك حين أكدوا أن المعرفة العلمية لكى تكون صحيحة، يجب أن تنصب على الحقائق النظرية والعامة، كما يجب أن ترتكز على براهين مقنعة، وأن هدف العلم هو معرفة النظرية التي تسير الظواهر وفقاً لها، وليس القدرة على استغلال هذه الظواهر والانتفاع بها فى المجال  التطبيقي .

وعندما أكد اليونانيون ذلك كانوا فى الواقع يحاولون إبراز سمة أساسية من سمات العلم، وهى أن العلم لا علاقة له بمجال التطبيق ولا صلة له بالعلم المادي بأكمله وإنما الواجب على العلم أن يكون عقلي فحسب . فالمثل الأعلى للعالم في نظرهم هو المفكر النظري الذى يستخلص الحقائق كلها بالتأمل النظري، أما محاوله تدعيم هذه الحقائق بمشاهدات أو ملاحظات أو تجارب نجربها على المحيط بنا، فكانت فى نظرهم خارجة عن العلم، بل إنها تحط من قدر العلم وتجعله مجرد "ظن" أو "تخمين "، بل إن " أفلاطون " الذي كان فى الوقت نفسه ذا المام واسع بالرياضيات قد عاب علي احد علماء الهندسة إلتجاءه الى رسم اشكال هندسية لإيضاح حقائق هذا العلم، ورأى أن إعطاء علم رفيع كالهندسة صورة محسوسة يمكن رؤتها بحاسة العين، وهو إنزال لهذا العلم من مكانته العالمية، فيصبح جزء من عالم الاشياء المرئية والمحسوسة، بينما ينبغي لكى يظل محتفظا بمكانته ألا نستخدم فيه إلا التفكير العقلي وحده فتظل حقائق الهندسة أسبابا سياسية واجتماعية دعت معظم اليونانيين في تلك الفترة إلى صبغ هذا العلم بهذه الصبغة .

ومن ناحية أخرى نود أن نشير إلى تلك الفترة التي كان فيها العلم اليوناني معرضاً وعازفة عن الأخذ بعلوم الشرق، كانت هناك فترات أخرى تمسك فيها اليونانيون بالأخذ عن الشرقيين، وكان فيها العلم اليونانى يجمع بين النظرية والتطبيق، وكان هذا العلم في أثنائها يمثل أزهى فتراته .

وتعد فترة " العلم الأيوني " تلك الفترة المحصورة ما بين 600 و400 ق.م، وقد اطلق العلم " هيدل " heidel على هذه الفترة اسم : عصر البطولة " وفيها كان اليونانيون على اتصال دائم بالشرقيين وعلومهم ؛ على ان هناك فترة اخرى، وهي الفترة المحصورة ما بين 330 و120 ق. م وفى تلك الفترة عاد العلم اليوناني ينهل من علوم الشرق، والتى فيها ضمت امبراطورية الأسكندر الأكبر العلم اليوناني مرة أخرى فى اتصال مباشر مع التراث العلمى فى الشرق حتى وصلت إلى الهند، وأصبحت " الإسكندرية " بيتا للعلم ؛ حيث دعمت ماليا لأول مرة فى التاريخ من خلال إقامة المتحف والمكتبة، وأدي ذلك إلى التطور العظيم للراضيات والميكانكا والفلك، والتى ارتبطت بـ"ارشميدس" archimedes و"هيبارخوس"hipparchus وغيرهما.

ولقد كانت تلك الفترة من أكثر المراحل أهمية فى تاريخ العلم اليوناني، إلا أنها للأسف لم تستمر طويلاً بسبب تدهور العلم اليوناني، وتمسك العلماء بالعلم الأرسطى العقيم، حيث يطلق مؤرخو العلم على العصر الأول من العلم اليوناني، العصر البطولى الذي يبدأ "بطاليس " وينتهي "بديموقريطس" ويسميه الفلاسفة " العصر السابق على سقراط "، ويتميز العلم اليونانية فى هذا العصر،بانه كان يجمع بين الطابع النظري والطابع العملي، يقول " بنيامين فارتن " : ( ان القرنيين الخامس والسادس اى الفترة المعروفة بفترة ما قبل سقراط أو العصر البطولي للعلم، لم تكن متميزة بنمو الفكر المجرد فحسب، وإنما كانت كذلك فترة تقدم فني عظيم والجديد المتميز في طريقة تفكيرهم  مشتق من أنواع الطرق الفنية، كان التقدم الفني هو العصا السحرية التى تغير الشكل القديم للمجتمع المعتمد أصلاً  على الأرض إلي شكل جديد من المجتمع يعتمد إلى حد كبير على الصناعة، كان التقدم الفنى يبعث إلى الوجود طبقة جديدة من الصناع  اليدويين والتجار لم تلبث أن أمسكت سريعا بزمام السلطة السياسية  فى المدن . وفي العقد الأول من القرن السادس حاول "سولون " الذى كان يمثل الطبقة الجديدة أن يجدد اثينا التي مزقها الصراع بين مالك الارض والفلاح، يخبرنا "بلوتارخ " أن "سولون اضفي الشرف على الحرف" لكى يصل إلى تحقبق هذا الهدف . لقد حول انتباه المواطنبن الى الفنون والحرف، ووضع قانون مؤاده أن الابن لا يلتزم براعاية أبيه فى الكبر ما لم أبوه قد علمه احدي الحرف . ويقول "بلوتارخ"" فى هذا الوقت لم يكن العمل عاراً ولم تكن  مزاولة احدي الحرف تدمغ المرء بالوضاعة الاجتماعية"

وقد كان من نتيجة ذلك، أن شهدت تلك الفترة صحوة تكنولوجية، فقد كانت طرق الصناعة التي مارستها مصر فى خلال تلك الفترة، عاملاً هاماً فى لفت أنظار المستعمرين اليونانيين المستقرين فى " نقراطيس " أو المتجولين فى أنحاء البلاد، ولا بد أنها انتقلت إلى الجزر اليونانية بالسهولة التى انتقلت بها الأشياء التى أسهم اليونانيين فى ابتكارها .

ويذكر " سارتون " أن هناك شخصيات علمية برزت فى تلك الفترة مثل " انا كارسيس الاسكنذى"Anacharsis the scthen الذى استحق المجد لأنه أدخل تحسينا على الهلب واخترع الكور وعجلة الفخارى، أو مثل "جلوكس الكيوسى"Glaucus of chois الذى اخترع آلة الحديد اللحام أو "تيودور الساموسي" theodorus of samos صاحب الفضل فى اختراع قائمة طويلة من المخترعات الفنية : الميزان المائي، والزاوية، والمنجلة، والمسطرة، والمفتاح، وطريقة صب البرونز .

ومن ناحية اخرى، فقد كانت الكلمة الاغريقية للحكمة sophia ما زالت تعنى فى ذلك الوقت المهارة الفنية لا التكهن المجرد، أو على الاصح لم يكن التركيز بينهما قد برز لأن  أفضل التكهنات كانت تعتمد على المهارة الفنية .

فلقد كانت فترة ظهور أولى مدارس الفكر اليونانى – وهى المسماة بالمدرسة الايونية – تبشر بتضافر مثمر بين النشاط الفكري النظري والنشاط  العملي الألى : إذ كان كثير من فلاسفة هذه الفترة، أعنى من يسمونه بـ" الطبيعيين الاولين "، مهتمين بالمسائل العملية بقدر اهتماهم بالمسائل النظرية، وكانت جهودهم تنصب على الميدانين معاً، دون تعارض فى تلك الفترة، كان هناك اتصال رائع بين حضارات الشرق الاوسط وبين الحضارة اليونانية الناشئة، وكانت الخبرات والمعلومات والتجارب تتبادل إلى جانب المحصولات والمصنوعات، وثمر ذلك كلة تفكيراً يجمع الى الممارسة التطبيقية القدرة على البرهان العقلي .

ولقد كان طاليس الذى يقال عنه " أبو الفلسفة " والذى عاش فى القرن السادس قبل الميلاد – كان مفكرا نظريا ومخترعاً فى الوقت ذاته، فلقد كان نسب إليه مؤرخو الفكر أول نظرية متكاملة حاول بها الذهن البشري تفسير الكون كله، من خلال مبدأ واحد وهو أن الماء قوام الموجودات بأسرها، فلا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة، وذلك الحجر إلا الاختلاف فى كمية الماء الذي يتركب منها هذا الشئ، أو ذاك .. أليس الماء يستحيل إلى صور متنوعة فيصعد فى الفضاء بخاراً، ثم يعود فيهبط فوق الارض مطراً، ثم يصيبه برد الشتاء فيكون ثلجاً ؟ وإذن فهو غاز حيناً وسائل حيناً، وصلب حيناً، وكل ما يقع في الوجود لا يخرج عن إحدى هذه الصور الثلاثة .

كان الماء عند طاليس هو المادة الأولي التي صدرت عنها الكائنات، واليها تعود، وقد ملأ عليه الماء شعاب فكرة، حتى خيل إليه أن الأرض قرص متجمد، يسبح فوق لجج مادية ليس لأبعادها نهاية، ويرجح أرسطو أن يكون طاليس خلص إلي هذه النتيجة لما رأى أن الحياه تدور مع الماء وجوداً وعدما فتكون الحياه، حيث الماء وتنعدم حيث ينعدم .

واذا كان طاليس يعد أول يوناني أدرك أن هذه الكائنات المتباينة لابد أن تكون قد صدرت عن أصل واحد، ثم أخذ يبحث عن ذلك الاصل، فشق ذلك الطريق، وأخذت الفلسفة تدور حول هذه المشكلة وتجيب على سؤاله : رأى طاليس أن الماء أصل الوجود، وقال " انكسنمدر " بل هو مادة لا تحدها حدود، وأعلن أنكسمينس " أنه الهواء، وذهب " الفيثاغوريين " إلى أنه العدد، وأجاب " هرقليطس " بل هو النار، وذهب " امبذوقليس" إلى عناصر أربعة، وقال " ديموقريطس " : إنه ذرات ... وهكذا لبث الفلاسفة يقتفون أثر زعيمهم طاليس فى جوهر البحث أساسه، وإذن فطاليس هو الذى صبغ الفلسفة فيما قبل سقراط بتلك الصبغة الفنية التى عرفت بها .

وإذا كان طاليس قد حاول تفسير الكون كان من خلال مبدأ واحد مقنع عقلياً لا من خلال أسطورة أو خرافة، ولكنه كان فى الوقت ذاته عقلية علمية وعملية من الطراز الأول، فروي عنه أنه حول مجرى نهر " هاليس " لكى يتيح لجيوش " كروسيوس " أن تعبره، ونسبت إليه كشوف عديدة فى الفلك والملاحة، فعن طريق قاعدة المثلثات المتماثلة استطاع طاليس أن يبتدع وسيلة لتحديد أبعاد السفن وهى فى البحر، ويقال أنه أخذ عن الفينيقيين تحسين فن الملاحة  بالاستعانة بالنجوم، واستطاع ان يتنبأ بكسوف الشمس فى عام 585 ق.م بمساعدة اسطرلابات (جداول فلكية ) مصرية وبابلية، ويقال أنه أحرز كذلك تقدماً على الهندسة المصرية فى أمر كبير الاهمية، هو زيادة فهم شروط البرهان العام، فلم يعرف أن قطر الدائرة يقسمها إلى قسمين متساويين فحسب، بل إنه فضلاً عن ذلك أثبته . وتبين شهرته المزدوجة كفيلسوف وكرجل أعمال في القصة التي تروى عنه وهى أنه عندما رأى نقادة يتهكمون عليه، ويتزعمون انعدام القدرة العلمية لديه، لم يلبث أن اشتغل بتجارة الزيتون، وحصل منها على مال كثير فسقط فى أيدي هؤلاء النقاد.

إذن أول فليسوف يوناني يذكره التاريخ هو " طاليس "، والذي كان يمثل أعظم شخصية تكنولوجية فى آنا واحد ..  فهو لم يكن ذلك الرجل المنعزل الذى يتأمل السماء فتتعثر مشيته ويقع فى الوحل، كما تصوره القصة المشهورة ؛ وبعبارة أخرى فإن بداية ظهور الفلسفة كانت مرتبطة بالجمع بين الفكر النظري والعلم التطبيقي  معا، بل ربما جاز القول أن الاهتمام بالأمور العلمية هو الذى أوحى إلى فلاسفة هذه الفترة آراءهم النظرية .

خلاصة القول لقد كان كل شئ يوحى بأن التقدم الفكرى التقدم التكنولوجي سيسيران إلى جنب فى العصر اليونانى الكلاسيكى، وخاصة فى فترة (فترة ما قبل سقراط) وكانت الوسائل كلها ميسرة لذك : فالعلم اليوناني قد أخذ يزدهر وأسرار الرياضيات بدأت تتكشف للعقل اليونانى والاتصالات بالحضارة القديمة لا تنقطع والمناخ السياسي والاجتماعي يساعد على ذلك دون شك، وفضلاً عن ذلك ففي تلك الفترة، بعينها وضعت أسس النظرية الذرية من جهة، وظهر مذهب (أبقراط) العلمي التجريبي فى الطب من جهة أخرى، وهما كشفان يساعدان على تمهيد الطريق للكشف والاختراع الآلى . الأول إذ يصور الكون كلة على أنه آلة ضخمة والثاني إذ ينظر الى جسم الإنسان نفسه على انه آلة معقدة .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم