قضايا

منظومة القيم في مواجهة فيروس كورونا المستجد

رشيد كهوسإن القيم الإيمانية والإنسانية والاجتماعية تسهم بشكل كبير في التخفيف من الآثار السلبية الناجمة عن فيروس كوفيد 19،  ذلك بأنها تحقق السلم النفسي والأمن الصحي والتضامن الوطني، والتكافل الاجتماعي، والإحساس بالوطنية والإنسانية، وغير ذلك.

ذلك بأن ترسيخ القيم في المجتمع تسهم في حفظ أمنه الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والصحي في جميع الحالات التي يمر بها، والمراحل التي يتقلب فيها.

وإن الفترة الحرجة التي تمر بها مجتمعاتنا اليوم تحتاج إلى استحضار هذه القيم المتنوعة (إيمانية، أسرية، اجتماعية، وطنية، إنسانية..)، من أجل التخفيف من التبعات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية لفيروس كورونا المستجد.

وبناء على ما تقدم يمكن تفصيل تلك القيم فيما يأتي:

1- القيم الإيمانية:

عَنْ أَبِي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤمنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». [رواه مسلم].

انطلاقا من هذا الحديث النبوي الشريف، فإن التحلي بالقيم الإيمانية يحقق للإنسان الأمن النفسي والاستقرار الروحي، وذلك من خلال تعميق الشعور العقدي الذي يقوم على الإيمان بالقضاء والقدر، وحسن الظن بالله، حيث يرجع الإنسان إلى ربه بالدعاء ليصرف عنه وعن أمته الوباء، ويحميه من البلاء.. ثم بعد ذلك يتخذ المؤمن الأسباب اللازمة ليواجه هذا القدر (الوباء) بقدر آخر (العلم) وذلك باتخاذ الإجراءات اللازمة، والأخذ بالأسباب الصحية والوقائية من الوباء.. هذا وقد خطب عمرو بن العاص الناس بالشام، لما حل بها الوباء، وقال لهم: (أيُّها الناس! إِنَّ هذا الوجع إِذا وقع إِنما يشتعل اشتعال النَّار، فتجنَّبوا منه في الجبال)، فخرج، وخرج النّاس، فتفرقوا حتّى رفعه الله عنهم، فبلغ عمر ما فعله عمرو، فما كرهه(1).

وهذا توجيه مهم ينطبق على الحجر الصحي في زماننا هذا، حيث تنصح وزارات الصحة المصابين بأن يتفرقوا عن بعضهم ولا يتجمعوا، حتى تقل من نسبة انتقال العدوى بينهم.. ومن ثم مخالفة توجيهات الجهات الرسمية الصحية والأمنية تؤدي بالإنسان إلى التهلكة، والله تعالى يقول: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة:195).

وهذه كلها قيم إيمانية يجب على الناس أن يتحلوا بها، حتى يتحقق لهم الأمن النفسي والطمأنينة والسكينة في ظل هذه الأجواء التي يعيش فيها العالم كله ارتباكا وخوفا وهلعا.

2- القيم الاجتماعية:

عن النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ (ص) قَالَ: «مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا»(2).

إنه تصوير نبوي محكم للمجتمع الذي تسود فيه قيم التعاون والتكافل والتعاطف والرحمة ونكران الذات والوحدة الاجتماعية، حيث تنجو سفينته من الغرق والهلاك.. والمجتمع الذي تسود فيه الأنانية وتغيب فيه القيم، وينتشر فيه المنكر، حيث ستنتهي سفينته بالغرق والهلاك..

كما يوجه الحديث النبوي الشريف إلى المسؤولية المشتركة الملقاة على عاتق جميع الناس في المجتمع الواحد، والوطن الواحد.. فالجميع في سفينة واحدة يواجهون خطرا واحدا لا يفرق بين غني وفقير، وحاكم ومحكوم، وكبير وصغير، ورجل وامرأ، و عالم وجاهل، ومن ثم فإن أي خطأ يصدر من أي راكب على متن سفينة المجتمع في ظل هذه الظروف الحرجة سيضر بالجميع..

ومن ثم فإن النجاة من الغرق يكون بالتطبيق الصارم للإجراءات الاحترازية والوقائية والصحية الصادرة عن الجهات الرسمية (الأمنية والصحية) تحقيقا لسلامة جميع ركاب السفينة، ومن ذلك عدم خرق حالة الطوارئ الصحية، والالتزام بالعزل المنزلي والحجر الصحي والتباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات الوقائية والالتزام بالنظافة الشخصية، وكل ما يساعد على رفع المناعة النفسية والجسدية...

وهكذا فالقيم الاجتماعية تسهم في التخفيف من الآثار الاجتماعية السلبية الناجمة عن هذا الفيروس.

3 - القيم الإنسانية:

إن هذا الوباء فرصة لانهزام قيم الفردانية وإحياء القيم الإنسانية، لكن للأسف فضحت القيم الوجه القبيح للكثير من زعماء الغرب ومثقفيه، حيث نجد عددا من المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم الرئيس ترامب اقترحوا إعطاء الأولوية للشباب في مقاومة كورونا فيروس على حساب المسنين، وإعطاء الأولية للاقتصاد والحفاظ على فرص الشغل على حساب صحة المواطنين..

وكذلك فيما وقع مع إيطاليا حيث قررت بعض الدول الأوربية عزلها بدل مساعدتها ولو بالكمامات الواقية.. مما دفعها وشعبها إلى توجيه انتقادات لاذعة لدول الاتحاد..

وعلاوة على ذلك فقد اعتبر الطبيب جون بول ميرا، في تصريح لقناة "LCI" الفرنسية، القارة الإفريقية حقل تجارب لاكتشاف لقاحات لكورونا، في إجابته على سؤال عن "إمكانية تجريب اللقاح في إفريقيا على غرار تجارب سابقة".. وهذا يعبر عن الوجه الاستعماري القبيح لهؤلاء الذين رفعوا شعارات إنسانية جوفاء منذ عقود..

في حين نجد الكثير من الدول العربية والمسلمة سارعت إلى تقديم المساعدات لبعض الدول الأوربية وغيرها، انطلاقا من القيم الإنسانية التي لا تفرق بين بلد وبلد، وجنس وآخر، ودين ودين.

كما ظهرت هذه القيم الإنسانية جليا في التضامن الشعبي بين بعض الفئات الميسورة والفئات الفقيرة، والجهود التي تقوم بها الأطقم الطبية والأمنية والتعليمية وغيرها..

وتأسيسا عليه، فإن هذه الظرفية الحرجة التي تمر بها مجتمعاتنا اليوم، لا يمكن أن نتجاوزها خارج دائرة القيم، ولا يمكن أن نخرج من دهليزها بالأنانية والجشع والهلع ونشر الإشاعات.. وإنما بالقيم نتخطى الصعاب ونقتحم العقبات ونواجه هذه الجائحة حتى ترتفع بإذن الله.

اللهم اصرف هذا الوباء عن الإنسانية جمعاء.

 

أ. د. رشيد كهوس

جامعة عبد المالك السعدي-المغرب

........................

(1) تاريخ الطبري، 2/488.

(2) صحيح البخاري، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، ح2361.

 

 

في المثقف اليوم