قضايا

علجية عيش: الاعتراف المتبادل

(لورنز: نظرية السمك سلوك يفيد عادة في منع سفك الدماء)

الاعتراف يعني الإقرار بالخطأ أو الجريمة المرتكبة في حق فرد أو جماعة، وهو اعتراف بالحقيقة دون محاول تدنيسها، هذا عند العامة من الناس، أما عند الفلاسفة ومنهم هيغل فهو التجربة الإنسانية المتضمنة وعي كل ذات بأن حريتها محدودة بحرية الذات الأخرى المشاركة لها في الحياة الإنسانية، فهناك صراع ذوات للحصول على اعتراف متبادل بهوية كل واحد، أما وأن الطرفان يتقاسمان نفس الهوية فالصراع يكون بأشكال مختلفة ويأخذ له طابعا معينا أكان ديني او سياسي بدل من أن يحدث تفاعلا بينهما، حيث ظل كل واحد ينتظر الآخر ليبادر بالاعتراف، والإعتراف طبعا يتبعه اعتذار.

وإن كان الصراع بين دولة وأخرى في مسألة الإعتراف/ الإعتذار (فرنسا والجزائر) فالصراع كذلك بين السلطة والمعارضة داخل الدولة نفسها أي الصراع بين السلطة والمعارضة، إذ نجد كل طرف يتعنت لموقفه من أجل البقاء أو انتزاع حق مغتصب، هو صراع تتناقض فيه الإرادات وتتحول فيه العلاقات الإجتماعية إلى نزاع واقتتال دائم بين الأفراد، يحاول الفرد أو الجماعة العمل بالنظرية الميكيافيلية أو نظرية التآمر، إنه الغرور بالذات الذي يولد الكراهية والعدائية، هذا الصراع كما يشير الفيلسوف هوبز نشأ منذ تأسيس المجتمع السياسي وظهوره في الساحة، والواقع أن هذا الصراع تولد منذ نشأة البشرية ولنا في الاقتتال بين قابيل وهابيل.

والإعتراف يختلف من مجتمع إلى آخر، فكل جماعة سعت نحو تحقيق ذاتها على نحو أنانيٍّ، فالإعتراف في المخيال المسيحي هو أن يقرَّ الإنسان بخطيئته أمام الله، هذا الإعتراف مشروط بالتطهير، تطهير الجسد من الخطيئة، والتخلي عن "العبثية"، وهذا النوع من الإعتراف هو اعتراف دينيٌّ ولذا قدم المسيح عيسى (في المخيال المسيحي) نفسه قربانا ليرفع الخطيئة عن البشرية، أما في الإسلام فقد بدأ الصراع بين الصحابة من أجل الخلافة بعد وفاة النبي صلعم، وتوارثت الأجيال هذه الصراعات جيلا بعد جيل،، حيث اتسمت حياة المجتمع المسلم أو المجتمع الإسلامي بالعنف، إن الانقسامات التي تقع في المجتمعات مردها الفهم السيئ للحقوق والواجبات للهويات، حيث لم يعد هناك اعتراف بالهويات ـ التي صبغت بصبغة سياسية، فالجماعات الإسلامية على سبيل المثال لا الحصر لا تعترف ببعض الهويات كالعلمانية، والعكس، إذ نجد العلمانية التي تحارب الإسلام وتطالب بفصله عن الدولة تكن العداء لكل ما هو إسلامي، فوقع ما وقع من تقتيل وعنف مثلما حدث في الجزائر، من هنا نشأت العدائية لأن كل طرف متثبت برأيه وموقفه.

يرى فلاسفة ومفكرون أن العدائية تعود إلى الغريزة أو للظروف سواء كانت اجتماعية، اقتصادية أو سياسية تحيط بالفرد العدائيُّ النزعة، إلا أن علماء النفس الإجتماعي اختلفوا في تحديد مفهوم العدائية، وركزوا فقط على دراسة العلاقات بين الأفراد والجماعات، والعدائية في منظورهم تؤدي إلى الاعتداء على الآخر سواء كان هذه الاعتداء لفظي أو جسدي، فيقع صدام بين الطرفين، قد يمتد الى استعمال السلاح، فهي سلوك يؤدي إلى أذية الآخر وهو التعريف الذي قدمه كثير من علماء النفس ومنهم "دافيد باس" عام 1961 الذي يرى أنه بإمكاننا دراسة السلوك وحده لمعرفة طبيعة الفرد العدائي، ما يمكن قوله هو أنه لم يولد الإنسان عدوانيا ولا يوجد إنسان عدوانيٌّ بالفطرة ولكن الظروف حولته إلى إنسان عدواني ودفعته إلى القيام بأعمال عدائية، فما وقع مثلا في الجزائر من أحداث بدءًا من الربيع الأمازيغي إلى الحراك الشعبي مرورا بالعشرية السوداء خرج فيها الشعب الى الشارع في مظاهرات تحولت إلى عمل مسلح، كان له دوافعه الخاصة، لأن النظام الجزائري لم يمارس ثقافة "الإعتراف" بالحق كسلوك حضاري، حيث لم يعترف بفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات 1990 واغتصب حقها الشرعي في إدارة شؤون البلاد، وكان على النظام أن يمنحها فرصة للقيادة وفي الأطر الديمقراطية ولا يصدر عليها أحكاما مسبقة، إن عامل التريث هنا ضروري جدا في معالجة القضايا الحساسة جدا بدلا من الاندفاعية.

قد يقول قائل لماذا يُقدَّمُ حزب الفيس بالذات كنموذج؟، والجواب هو أن الجزائر عرفت حربا أهلية قاسية جدا شهد لها الرأي العام الدولي، عشر (10) اقتتال، كانت كافية لدمار ما بني وشُيِّدَ في 28 سنة بعد الإستقلال (1962-1990)، انهارت كل البنى التحتية والمؤسسات وفشلت كل المشاريع الإقتصادية، ناهيك عن الخسائر البشرية التي حصدتها هذه الحرب، ثم أن هذه الحرب الأهلية لم تعشها باقي البلدان التي عاشت نفس التجربة وذاقت من نفس الكأس الذي شربت منه الجزائر، المسألة هنا تكمن في معرفة من هو المُعْتَدِي ومن هو المُعْتَدَى عليه، فمن واجب المعتدى عليه أن تكون له ردة فعل، ومن حقه أن يدافع عن نفسه ومشروعه .

لقد شبّه علماء السلوك ومنهم عالم النفس كونراد لورنز وهو من فيينا ويعد أحد آباء علم الأخلاق الحديث فصيلة السمك الفرنسي fish butterfly فهذا النوع من الأسماك يدافع عن نفسه ومنطقته بشراسة أما الدخلاء من غير فصيلته، وفي راي هذ العالم هناك طاقة عدائية في الإنسان يفجرها عندما تواجهه مخاطر او وجود قوى تهدده وتسعة الى طمسه، حسب نظرية لورنز فإن الخاسر في معركة ما إشارة استرضاء للمعتدي وتتضمن هذه الإشارة تعريض الخاسر لضعف جزء من جسمه للحيوان المنتصر وتنجح هذه الإشارة عادة في وقف المزيد من الاعتداء، ورأى "لورنز" أن هذا السلوك يفيد عادة في منع سفك الدماء، هذا ما وقع بين النظام والفيس، ووقع في الأنظمة العربية الأخرى (تونس ومصر ولبنان والعراق) وقد ربط بعض المفكرين ردة الفعل بالدفاع عن الكرامة التي يكتسبها الفرد عندما تكون حقوقه مضمونة يتم الإعتراف بها كعضو في الجماعة وشعور المرء بقيمته تتمثل في احترام الذات le respect de soi، فالشعب لما الت بالجبهة الإسلامية للإنقاذ واعترف بمشروعيتها وجب على السلطة إذن أن تعترف بهذا الحق.

***

علجية عيش بتصرف ( للمقال مراجع)

في المثقف اليوم