قضايا

الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان: بين القبول والرفض

احمد محمد بكرلماذا ننشد أسسا فلسفية لحقوق الإنسان؟

هل تساعد الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان على تعزيز هذه الحقوق؟

هل لدارسة الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان فائدة أكاديمية فقط أم لها فائدة عملية أيضا؟

هل توجد حاجة إلى بذل وقت وجهد في تبريرات فلسفية لحقوق الإنسان في حين يمتلئ العالم بالفظاعات؟

أصبحت فلسفة حقوق الإنسان مادة دراسية ضمن مقررات الدراسات العليا في حقوق الإنسان في الجامعات العربية، وبالطبع سبقتها الجامعات الغربية إلي ذلك بفترة طويلة. ولكن وضع قبول أو رفض فلسفة حقوق الإنسان موضع دراسة لم يحدث عربيا على حد علمي، وباستعمال محركات بحث الإنترنت حول هذا الموضوع باللغة الإنجليزية وجدت ما يتعلق بهذا الموضوع مباشرة نادرا، وكذلك الدراسات ذات الصلة بالموضوع قليلة جدا. لذلك لا أزعم أنني قد أحطت بالموضوع إحاطة تامة، وإنما انتهجت المقاربة من خلال ما أتيح لي من أدبيات، وهدفي لفت انتباه الباحثين في مجال حقوق الإنسان إلى هذا الموضوع البكر، وهو موضوع يستحق الدراسة على ما سيتضح من عرضي السريع له.

لحقوق الإنسان روح وجسد، لا بد للروح من جسد ولا يعيش الجسد بلا روح. فروح حقوق الإنسان هي فلسفة حقوق الإنسان، وتلك الفلسفة ذات ثلاث شعب: القانون الطبيعي، النزعة الإنسانية، والعقد الاجتماعي. فيؤسس القانون الطبيعي مجموعة الحقوق الجسدية مثل الحق في الحياة، الحق في سلامة الجسد، الحق في السلامة من التعذيب، الحق في الغذاء. والنزعة الإنسانية تؤسس مجموعة الحقوق الفكرية مثل حرية العقيدة، حرية الرأي، حرية التعبير. والعقد الاجتماعي يؤسس مجموعة الحقوق السياسية مثل حق الترشح للمناصب العامة، حق التصويب، حق تكوين الأحزاب السياسية. وجسد حقوق الإنسان هو مواثيق حقوق الإنسان وإعلاناتها ومعاهداتها واتفاقياتها، ولكي نحدد تاريخ ميلاد هذا الكائن لا بد من معرفة متى سكنت الروح الجسد. فلقد ساد مذهب القانون الطبيعي في زمن النهضة الأوربية، والنزعة الإنسانية ظهرت تاريخيا مرارا، واقتنع الناس بفكرة العقد الاجتماعي, وبالرغم من ظهور هذه الفلسفات لم تظهر حقوق الإنسان وذلك لغياب جسدها، إذ لم تتم صياغة هذه الفلسفات في صورة نصوص قانونية واضحة يمكن عن طريقها حماية حقوق الإنسان. وإنما كان كلاما عاما حول الحرية، المساواة والعدالة وما إلى ذلك مما يدخل في مفهوم الكرامة الإنسانية.

إعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789م الذي أصدرته الثورة الفرنسية، صدر عن فلسفة إنسانية وهذه الفلسفة لم تكن من إبداع فلاسفة القرن الثامن عشر وحدهم، وإنما تأثر مونتيسكيو، فولتير، ديدرو، روسو وكونرورسيه بفلاسفة عصر النهضة ( فلاسفة القرن السادس عشر والقرن السابع عشر) وهؤلاء وأولئك تأثروا جميعا بالإنسانيات اليونانية والرومانية، "فمن أثينا في عهد بركليس حتى فرنسا أيام الجمعية التأسيسية نرى الرجال و الأفكار يكونون سلسلة متصلة"(1)، فجهود هؤلاء الرجال وخلاصة هذه الأفكار صيغت في مواد هذا الإعلان فكان أول مولود لدعوة حقوق الإنسان.(2)

اتجاه الرفض

يرفض هذا الاتجاه الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان ويرى أننا لسنا بحاجة إليها، وذلك للأسباب التالية:

إن تأسيس حقوق الإنسان على أسس فلسفية ثابتة، يجعل لهذه الحقوق طبيعة أبدية ثابتة غير قابلة للتغيير أو التبديل. ولكن مايستحق الحماية من حقوق الإنسان يتغير عبر الزمان والمكان، فهل ما نحوزه من حقوق الآن هو نفس ما كان يحوزه أجدادنا في مرحلة القنص والجمع. فالمفهوم الثابت لحقوق الإنسان غير منطقي، فبعض الحقوق التي نتمتع بها الآن من المسلم أن البشر لم يكونوا في حاجة إليها في السابق وذلك مثل حق طلب اللجوء إلى الدول الأجنبية وحق المشاركة السياسية، فهذه الحقوق لم تظهر الحاجة إليها إلا بعد ظهور الدول القومية ذات السيادة(3).

ينتقد وليام سمونس William Simmons طريقة بناء قانون حقوق الإنسان، ويرى أن الطريقة الاستنباطية لبناء هذا القانون، حيث يتم النزول من أعلى إلى أسفل، فتستنبط الحقوق من النظريات الفلسفية؛ قد أضرت قانون حقوق الإنسان. فالفلاسفة من هوبز حتى وقتنا الحاضر تبنوا طريقة استنباطية مستعملين طريقة الرياضيين، فانطلقوا من مبادى أولى مستمدة من تجارب فكرية لفلاسفة واستنبطوا الحقوق من هذه الأسس الفلسفية، متخيلين حالات مجردة للإنسان، واضعين التأثيرات الاجتماعية والثقافية جانبا. و يقترح سمونس في كتابه " قانون حقوق الإنسان و الآخر المهمش" طريقة أخرى لبناء قانون حقوق الإنسان، وهي الانطلاق من أسفل إلى أعلى؛ حيث يتم البناء بطريقة استقرائية و ليس استنباطية، فننطلق من الأسفل من أحوال المهمشين فننظر احتياجاتهم وأوضاعهم وباستقراء هذه الأحوال ننطلق إلى أعلى فتتم صياغة التشريعات الحقوقية وفي ذلك ضمان نجاح قانون حقوق الإنسان(4).

حازت حقوق الإنسان على إجماع عالمي، وبالرغم من دعاوى النسبية الثقافية، إلا أن هذه الدعاوى من باب القليل الذي لا ينقض الإجماع (5). ولكن إن صح هذا القول بالنسبة للحقوق كنصوص، إلا أنه لا يصح بالنسبة للأسس الفلسفية للحقوق(6). ولكون الأسس الفلسفية غير مستقرة المعنى وهناك من يقتنع بها ومن لا يقتنع. فيرى المعارضون للأسس الفلسفية، أن التمسك بهذه الأسس يقوض القبول العالمي لحقوق الإنسان، فقد تنفر هذه الأسس أولئك الذين لا يقتنعون بها، "فرزم حقوق الإنسان مع الأسس الفلسفية يعني إجبار الأشخاص على قبول تلك الأسس مع قبول حقوق الإنسان؛ حتى لو كانوا غير مقتنعين بهذه الأسس وفي ذلك خطر على إمكانية تنفيذ الحقوق ذاتها"(7).

اتجاه القبول

يؤيد هذا الاتجاه الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان ويراها ضرورية ويدعو إلى دراستها وفهمها، واستند إلى الحجج التالية:

كان القرن العشرون قرن حقوق الإنسان، وصارت مفاهيم حقوق الإنسان جزءا أساسيا من مفردات لغات الشعوب في جميع أنحاء العالم، وخاصة الشعوب التي كانت تناضل ضد الطغيان والقهر. وهذه المفردات التي تشكل لغة حقوق الإنسان تولدت من خلال التفكير في الأسس الفلسفية وفهمها. ويساعد فهم الأسس الفلسفية على ترجمة نصوص حقوق الإنسان بطريقة مبتكرة تساعد الشعوب على فهم الحقوق والتواصل بشأنها رغم فجوات العقيدة والثقافة، وبدون الأسس الفلسفية يصعب فهم لغة حقوق الإنسان وتصعب الترجمة الدقيقة التي توحد الفهم بين الشعوب. ويؤكد كونور جريتي Conor Gearty  في كتابه "هل تستطيع حقوق الإنسان البقاء" أن هذه اللغة ولدت بالفعل وأنها ستكون أحد عوامل بقاء حقوق الإنسان(8). فلن يستطيع نشطاء حقوق الإنسان ولا المواثيق الحقوقية الاستغناء عن لغة الأسس. وسيستمرون في استعمال كلمات قوية مثل "الكرامة الأصلية" و"الحقوق غير القابلة للتصرف"(9).

للأسس الفلسفية لحقوق الإنسان أهمية كبيرة في تفادي تفكك الحقوق وتشرذمها. فكما قلنا يؤسس القانون الطبيعي مجموعة حقوق مترابطة مثل الحق في الحياة، الحق في سلامة الجسد، الحق في السلامة من التعذيب، الحق في الغذاء. والنزعة الإنسانية تؤسس مجموعة مترابطة مثل حرية العقيدة، حرية الرأي، حرية التعبير. والعقد الاجتماعي يؤسس مجموعة مترابطة مثل حق الترشح للمناصب العامة، حق التصويب، حق تكوين الأحزاب السياسية. وهذا التقسيم مفيد؛ فمن زاوية أكاديمية تعطي هذه الأسس منطقا للتقسيم أفضل من التقسيمات الأخرى كتلك التي تقسم الحقوق إلى أجيال تبعا للتسلسل الزمني للظهور، أو تلك التي تقسم الحقوق إلى مدنية وسياسية وأخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية، أو تلك التي تقسم الحقوق إلى حقوق أساسية وأخرى ثانونية، وغيرها من التقسيمات التي يراها أغلب المتخصصين تحكمية وغير مفيدة. ومن زاوية قانونية يسهل هذا التقسيم وضع نظام قانوني يتلائم مع طبيعة كل مجموعة حقوق.

للأسس الفلسفية لحقوق الإنسان أهمية قصوى كرادع أخلاقي للدول التي لم تنضم إلى مواثيق حقوق الإنسان(10). فهذه الدول غير ملتزمة قانونا بالمواثيق التي لم تنضم إليها، ولكن ليس معنى عدم الالتزام القانوني إطلاق يد الدول للعبث بحقوق مواطنيها أو الأجانب. وإنما عليها التزام أخلاقي طبقا للأسس الفلسفية لحقوق الإنسان، فعليها توفير الغذاء والرعاية الصحية طبقا لنظرية القانون الطبيعي، وعليها ضمان المشاركة السياسية للمواطنين طبقا للعقد الاجتماعي، وعليها ضمان حرية العقيدة طبقا للنزعة الإنسانية، إلى غير ذلك من الحقوق.

تظهر الحاجة إلى الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان في حالة الأمور المستجدة التي نقف أمامها فلا نجد مواثيق حقوق الإنسان قد نصت عليها(11). وذلك مثل فتوحات البيوتكنولوجي وغيرها من الأمور التي يقف الإنسان أمامها حائرا لا يدري ما الخطأ وما الصواب، فهنا لا مفر من الاستعانة بالأسس الفلسفية وبالنظر المتعمق في هذه الأسس يمكن سن التشريع الحقوقي السليم الذي يحكم هذه المستجدات.

تعلن المنظمات الدولية مواثيق متعلقة بحقوق الإنسان، وتسن الدول تشريعات دستورية وتشريعات عادية ولوائح. فكيف يمكن تقييم هذه التشريعات، كيف نفرق بين مايتفق منها مع حقوق الإنسان وما يختلف، هنا "يمكن استدعاء الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان لتعمل كمعايير نقدية نستطيع بواسطتها الحكم على القوانين"(12). فالفلسفة تعد معيارا للصواب والخطأ، فهي قانون غير مكتوب يعلو على كل القوانين التي يسنها البشر وينبغي على صناع القانون عدم مخالفة هذا القانون غير المكتوب(13). وبذلك تقوم الأسس الفلسفية بدور كابح السلوك التشريعي الخاطئ.

إذا فهم المرء الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان صار سهل الإنقياد لقانون حقوق الإنسان، وهذه الطاعة الاختيارية مطلوبة لهذا القانون الذي لا يزال يفتقر إلى آليات التنفيذ الجبري، وبمعنى آخر فإن المرء يكون أكثر إخلاصا للقانون عندما يفهم المبررات الأخلاقية والفلسفية التي بني عليها هذا القانون(14). فتوضيح الأسس الفلسفية للحقوق يقوي التزام المؤيدين لحقوق الإنسان بهذه الحقوق، ويحول المعارضين لها إلى مؤيدين(15).

خاتمة

عرضت الموضوع عرضا موجزا، وأدعو المهتمين بفلسفة حقوق الإنسان إلى التوجه إليه، فهو يحتاج إلى بحث واسع، وإذا كان لي أن أكون مع أحد الإتجاهين، فإنني من مؤيدي الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان، وذلك لقوة حجج المؤيدين التي عرضتها، ولذلك فإنني أتفق مع محمد سبيلا في قوله :"تبلور مفهوم حقوق الإنسان في الغرب عبر مسارين كبيرين: أولها التجارب السياسية الغربية المتمثلة في الصراع ضد الحكم المطلق من أجل الحد من صلاحياته الواسعة... أما المختبر الثاني لهذه الأفكار فهو اجتهادات المفكرين وتنظيرات الفلاسفة، وهذه الاجتهادات الفكرية، التي كانت بمثابة مختبر آخر تبلورت فيه حقوق الإنسان، لم تكن إسهامات معزولة عن سياق التاريخ الفعلي. بل كانت تفكيرا في هذه الصراعات والتحولات من جهة وإنارة وتوجيها لها من جهة ثانية. وهذا ما يبيح لنا القول بأن مفهوم حقوق الإنسان قد تبلور عبر تفاعل تجربتين تاريخيتين: تجربة الواقع وتجربة الفكر، وأنه قد يكون من التبسيط اختزال هذه الجدلية التاريخية الحارة في أحد طرفيها فقط"(16).

ومما يدعو إلى التمسك بالأسس الفلسفية، أنه بالنظر إلى نظرية القبول الاجتماعي أو غيرها من النظريات التي يدعوا إليها رافضو الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان؛ بالنظر إلي هذه النظريات نجد أنفسنا أمام نظريات فلسفية أخرى، فمهما حاولنا البعد عن القانون الطبيعي، النزعة الإنسانية، والعقد الاجتماعي، نعود إلى نظريات فلسفية أخرى، ولذلك أقول: لا مفر من الفلسفة.

 

احمد محمد بكر

...............................

الهوامش

(1) لمزيد من التفاصيل حول المصدر الفلسفي لإعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789, انظر الفصول الثاني, الثالث, والرابع من كتاب ألبير بابيه. المصدر السابق.

(2) هناك عدد من المفكرين اعتبروا الإعلان الفرنسي أول ميثاق لحقوق الإنسان لعل أبرزهم محمد أركون انظر مؤلفة الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد - مصدر سابق - ص 316.

(3) Alasdair Cochrane, In Defense of Traditional Theories of Human Rights, Working Paper Series, The University of Sheffield, May 2013, P 18.

(4) William Simmons, Human Rights Law and the Marginalized Other,(Cambridge, Cambridge University Press, 2011), P3.

(5) Human rights: The Hard Questions, Editors, Cindy Holder and David Reidy, (Cambridge University Press, New York, 2013) P80.

(6) Euan MacDonald, Review of Upendra Baxi's the Future of Human Rights, German Law Journal, Vol. 05, No. 08, P.970

(7) Robert Shapiro, The Consequences of Human Rights Foundationalism, Emory Law Journal, special edition, Vol. 54, 2005,P172.

(8) Conor Gearty, Can Human Rights Survive (Cambridge, Cambridge University Press, 2006) p42.

(9) Maria Granik, The Human Rights Dialogue Foundationalism Reconsidered, Theoria, Issue 135, Vol. 60, No. 2 (June 2013) p8.

(10) In Defence of Traditional Theories of Human Rights, op. cit., p10.

(11) Ibid., P 12.

(12) Charles Beitz, The Idea of Human Rights (Oxford, Oxford University Press, 2009), P49.

(13) Alex Wallin, John Finnis’s Natural Law Theory and a Critique of the Incommensurable Nature of Basic Goods, Campbell Law Journal, V.35, Issue1, and fall 2012.

(14) Jerome Shestak, The Philosophic Foundations of Human Rights, Human Rights Quarterly, Vol.20, No.2 (May, 1998) P202.

(15)Robert Shapiro, The Consequences of Human Rights Foundationalism, Emory Law Journal, special edition, Vol. 54, 2005,P184.

(16) محمد سبيلا – الأصول الفلسفية لمفهوم حقوق الإنسان      http://www.mohamed-sabila.com/maqal3.html

 

في المثقف اليوم