قضايا

المقامة الفكريّة لعبد الله باشا فكرى

عصمت نصارإذا ما شرعنا فى مواصلة الحديث عن خطابات التنويريين فى الثقافة العربية الحديثة، تلك التى ارتدت عباءة الأدب للتعبير عن حقيقة مشروعاتها والمسكوت عنه من أفكارها؛ فإننا سوف نتطرّق إلى أكثر الخطابات انزواءً فى دائرة الظل، ألا وهى (المقامة الفكرية فى المملكة الباطنيّة)، تلك التى كتبها العالم، الأديب، المُربي، المعلم، المترجم، الوزير، عبدالله باشا فكرى (1834 – 1890م).

ولما كان هذا العالم من الذين لم يحظو بقدر موفور من الشهرة أو الاهتمام من قبل المثقفين العرب، فسوف نترجم له قبل تحليل مقامته والكشف عمّا بها من أفكار وآراء.

هو عبدالله فكرى بن محمد بليغ، وُلد بمكة أثناء عمل والده هناك بالجيش المصري، من أب مصري وأم يونانية، فتلقى تعليمه الأوّلى فى المدارس الدينية بمكة، وبعد عودته التحق بالأزهر فى الحادية عشرة عقب وفاة أبيه حتى أتم دراسته، وخلال هذه الفترة عمل مترجماً فى قلم الترجمة، فقد ترجم العديد من القوانين من التركية إلى العربية، ثم رشحه أحد أساتذته للعمل كموظف فى معيّة سعيد باشا (1822-1863م)، وذلك نظرًا لإجادته اللغة التركية التى أخذها عن أمه، ذلك فضلاً عن أدبه الجم وسعة درايته بالآداب السلطانية والنهوج التربوية والأساليب التعليميّة. وبعد إتمام دراسته فى الأزهر ألحقه الخديوى إسماعيل (1830-1895م) بالقصر، وسافر معه إلى الأستانة عدة مرات بجانب عمله مؤدباً لأبنائه توفيق وحسن وحسين.

وفى القصر تعرف على «على مبارك» (1823-1893م)، الذى أُعجب بأفكاره الإصلاحية فى ميدان التعليم، ونشأت بينهما صداقة قويّة مفعمة بالتقدير والحب المتبادل فعينه وكيلاً لديوان المكاتب الأهلية بنظارة المعارف عام 1871م، ثم عينه وكيلا للنظارة عام 1876م ومنح لقب البكويّة. وأثناء عمله الحكومي كان يحرّر المقالات الأدبية والنقديّة والتربوية على صفحات المقتطف ووادي النيل وروضة المدارس، وقد لقبه معاصروه ببديع زمانه، وابن سهل وذلك نظراً لفصاحة شعره ودقة نثره وجمال أسلوبه فى السّرد.

ولعل أشهر مقالاته هى تلك التى كتبها رَدَّاً على الكاهن الكاثوليكي الأنطاكي جبريل جبارة (1839- 1925م)، الذى كذب فيها القائلين بدوران الأرض، زاعماً بأن كل النظريات الفلكية الحديثة باطلة شرعًا، وأنها تحث على الكفر بالكتب المقدسة. وقد أثبت عبدالله فكرى صحة دوران الأرض حول نفسها وصدق النظريات الفلكية التى شرحها يعقوب صرّوف على صفحات «المقتطف»، وقد جُمعت مقالات عبد الله فكرى فى هذا الموضوع ونشرت فى روضة المدارس عام 1876م، وبَيّن فيها فضل علماء العرب وفلاسفتهم فى علوم الفلك مثل: البتاني (858 - 929م) والطوسي (1201-1274م) والنيسابوري (933-1012م)، كما أكد أن القول بثبات الأرض لا يُرد إلى الوحى، بل إلى العالم الروماني بطليموس (327-283 ق.م)، وقد كذّبه بعد ذلك كوبرنيكوس (1473-1543م) فى كتاباته الفلكية، وعليه لا ينبغى على رجالات الدين الجهلاء بالعلوم الفلكية الزّج بالدين فى ذلك المعترك لصد الجمهور عن تعلم العلوم الطبيعية.

رَاحَ مفكرنا (عبدالله باشا فكري) يجدّد دعوة حسن العطار لإدراج العلوم الحديثة ضمن المناهج الأزهرية، ولا ريب فى أن جهود مفكرنا فى ميدان التربية والتعليم، بالإضافة إلى مقالاته الأدبية وقصائده الشعرية قد لفتت أنظار المثقفين إليه فدعاه جمال الدين الأفغاني إلى مجلسه، وتعرّف هناك على عبدالله النديم وأديب إسحاق وأحمد عرابي ومحمود سامى البارودي، وتأثر بوجهتهم الثورية فى مكافحة الفساد والتدخل الأجنبي فى شئون مصر، غير أنه كان أميل للتنوير الهادئ والإصلاح عن طريق التوعية، والتعليم شأن الأستاذ الإمام محمد عبده، ولكن ثوريّة الأفغاني وتلاميذه قد فرضت روحها على الأحداث.

وفى عام ١٨٨١، ضمّه على مبارك إلى عضويّة المجلس العالي للمعارف، وفى العام التالي اختير عبدالله فكرى ناظرًا للمعارف، ومنح لقب الباشوية، ثم جاء الاحتلال الإنجليزي واتُهم مفكرنا بمشاركته فى الثورة العرابية وسُجن بضعة أشهر، غير أن التحقيقات أثبتت براءته، ذلك بالإضافة إلى شفاعة الخديوى توفيق الذى تتلمذ على يديه.

وفى عام ١٨٨٤م، سافر إلى مكة لأداء فريضة الحج، ومنها إلى فلسطين لزيارة القدس والخليل، ثم إلى لبنان، وهناك التقى محمد عبده - أثناء نفيه فى بيروت - وتوطدت العلاقة بينهما. ولا غرو فى أن هذه الواقعات السياسية قد جعلته ينصرف تمامًا عن مدرسة الأفغاني ونهجها الثوري ويمضى مع على مبارك ومحمد عبده فى خطتهما لتجديد الفكر الإسلامي، وقد انصبت معظم جهوده لإصلاح حال التعليم بداية من المنشآت التعليمية إلى المناهج والمواد الدراسية وتدريب المعلمين لرفع كفاءتهم.

وفى عام ١٨٨٩م، قبيل وفاته اختير رئيسا للوفد العلمي فى مؤتمر استوكهولم، والتقى هناك بكوكبة من المستشرقين على رأسهم الروسي جوتولد، والألماني فون كريمر، والهولندى دى خويه، وقد قدم فى هذا المؤتمر بحثين أولهما فى شرح القصيدة الهمزية لحسان بن ثابت، بيّن فيها العلاقة بين اللغة والأخلاق والتاريخ عند العرب، أما البحث الثانى فخصه بالحديث عن التعليم فى مصر والمدارس الأميرية وتطورها، وقد حرص أثناء إقامته فى السويد على القيام بزيارات قصيرة لمعظم عواصم الدول الأوروبية المجاورة. وقد دوّن مشاهداته فى كتاب من أروع كتب أدب الرحلات المبكرة فى العصر الحديث، وعنونه: (إرشاد الألبَّا إلى محاسن أوروبا)، وقد تولى نجله أمين فكرى نشره عام ١٨٩٢م.

برنامجه الإصلاحي:

أمّا عن برنامجه الإصلاحي، فيمكن تلخيصه فى عدة نقاط:

- الدعوة إلى تعميم التعليم الأولى فى شتى ربوع مصر، وقد وضع خطة لتطوير المكاتب الأهلية وتحديث مناهج الكتاتيب، وحثّ الأعيان على بناء المدارس، وترغيب الجمهور فى إرسال أبنائهم لدور العلم.

- تحديث أساليب الإنشاء سواء فى الصحف أو فى الدواوين الحكومية وتدريب المترجمين ومحرري الأخبار والقرارات على استخدام الأسلوب العلمي المتأدب فى الكتابة والابتعاد عن الركاكة اللغوية من جهة، والأساليب المقعرة المفعمة بالمحسنات البديعية والصنعة البلاغية من جهة أخرى.

- الدعوة إلى إنشاء مجمع للغة العربية لضبط المصطلحات المعربة ووضع قواعد للاشتقاق لاستيعاب المعارف الثقافية الوافدة وتصنيف معاجم لغوية وفنية حديثة، وقد تأثر فى ذلك بدعوة أحمد فارس الشدياق.

- إخضاع مدارس الإرساليات الأجنبية التى يلتحق بها المصريون لرقابة الوزارة للإشراف على مناهجها وطرائق تدريسها للمعارف المختلفة، موافقا فى ذلك الإمام محمد عبده.

- نشر الثقافة العلمية بين شبيبة المثقفين ونقض الصراع المتوهم بين الدين والعلم والتراث التليد والفكر الوافد الجديد. وقد تجلى ذلك فى نقده الكتب المسيحية والخطب الأزهرية المعادية للروح العلمية الحديثة مسايرا يعقوب صروف.

- العزوف عن التعصب الملى والطائفي والدعوى للحوار بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وإزكاء روح المواطنة بين المصريين.

- الدعوة لتأسيس لجنة من كبار العلماء والأدباء لمراجعة الكتب قبل نشرها، ولم يقصد من ذلك الحجر على الأقلام والحد من حرية المفكرين، بل ثقل الملكات الإبداعية ورفع مستوى الكتاب والناشئين وإنقاذ الرأى العام من ضلالات الجهلاء والحمقى والرجعيين.

أمّا عن كتاباته الأدبية النثرية، فكانت تجمع بين رصانة الصياغة وسلاسة الأسلوب وبساطة العبارات وعدم المبالغة فى البديع. أمّا من حيث المضمون؛ فكانت أنموذجًا أصيلًا يجمع بين الهزل والجد والأخلاق والعلم والفلسفة فى سياق واحد، فقد كتب مفكرنا ثلاثة أعمال أقرب إلى القصص القصيرة منها إلى المقامات أو الروايات المطولة، وهى:(قصة حُسن الوفاء)، والثانية (قصة العمّال والبطّال)، أمّا الثالثة فهى أقرب إلى المقامة فى ثوبها اللغوي، وهى (المقامة الفكرية فى المملكة الباطنية) التى سوف نقوم بتحليلها.

للنقد ضروب ومقاصد:

إذا كان للشك ضربان، أولهما منهجي علمي، ومقصده هو التثبت للوقوف على حقيقة ما، أو إثبات واقعة أو وضع قاعدة، فالثاني ارتيابي ومذهبي مطلق، ومقصده هو إنكار المطروح ورفض المعروض ونقض الثوابت وهدم كل أشكال وآليات الاستدلال، فللنقد ضربان أيضًا، أولهما مباشر ومرسل وأقرب إلى التقارير العلمية فى صياغته ومضمونه منه إلى الأساليب والقوالب والخطابات الأدبية التى يتميز بها الضرب الثانى، الذى يتخذ من النهوج الفنية والتصورات الإبداعية للخطابات النقدية- غير المباشرة- تلك التى ترمى إلى التقويم والإصلاح وتوعية الأذهان من جهة، وحمل هموم وعذابات وصرخات وآراء أصحابها تجاه الواقع والأغيار من جهة أخرى، أى إن النقد فى ضربيه يسعى إلى البناء انطلاقًا من معايير وقواعد وأسس علمية أو قناعات الأنا الناقدة المبدعة وميولها وانتمائها، وقد ينتهج الناقد فى أعماله الفنية والأدبية وكتاباته الفلسفية أسلوب الرمز والتعمية رغبة منه فى حماية خطابه من السلطات المحيطة، أو حجب مضامينه عن أعين العوام الذين تحول ثقافتهم بين فهمه على الوجه الصحيح أو مناقشته أو قبوله، وقد حاول مفكرنا عبدالله فكرى الجمع بين دربي النقد فى صياغة مقامته بعد اختبار آرائه وعرضها على مائدة الشك المنهجي والتأكد من صلاحيتها فى الميدان التطبيقي.

أما عن المقامة الفكرية التى نحن بصددها فهى عبارة عن رسالة مترجمة عن اللغة التركية مجهولة المؤلف، ويرجع أصلها إلى نصوص مترجمة إلى التركية من بعض اللغات الأجنبية، فهى ترجمة عن ترجمة، وقد قرأها عبدالله فكرى -على حد زعمه- وأعجب بما حوته من أفكار وآراء، غير أن كاتب هذه السطور يشك فى ذلك التأصيل، أى رد النص لمؤلف مجهول ولغة مجهولة.

وعندي أن عبدالله فكرى ادعى ما ادعاه اتقاء وتحسبًا لما قد يحدث من الجامدين أو الحاقدين، فيحرفون الكلم عن موضعه ويتهمونه بما لم يقل، وعلى أى حال؛ فقد أعاد مفكرنا صياغة تلك الرسالة المجهولة، وأضاف وعدل وحذف من نصوصها بالقدر الذى يوافق رؤيته وبغيته والثقافة العربية التى يريد نقلها إليها. كما راق له أن ينشئها فى قالب المقامة لتكون أكثر سهولة على القارئ من جهة، وجاذبة لأواسط المثقفين الذين يحلو لهم هذا اللون من ألوان الأدب الجامع بين الهزل والجد وقوة البيان فى التعبير ودقة المعانى والدلالات فى صياغة الأفكار من جهة أخرى. ولا ريب فى أن عبدالله فكرى قد تأثر تأثرا كبيرا بنهج أحمد فارس الشدياق (١٨٠٤-١٨٨٧م) فى الإحالات المعرفية والتعمية الرمزية التى تحتاج إلى قدر من الحصافة وإمعان العقل لتأويل الألفاظ، وكشف ما تستره من مرامي وأغراض، ولعله كتبها على هذه الصورة اتقاء للسلطات القائمة «القوة الرجعية أو سلطة القصر»، الأمر الذى يعفيه من الحرج والمساءلة، لا سيما لكونه رجل دولة من الطراز الأول، فقد كتبها أثناء عمله وكيلا لنظارة المعارف.

أما السياق القصصي الذى نسج به مقامته؛ فقد انتحله من السابقين عليه بداية من ابن المقفع ونهاية بعلى مبارك، ولعل عمله بالتدريس وتهذيب الأمراء فى القصر- كما أشرنا- هو الذى رغبه فى محاكاة أسلوب المقامة فى النقد والتوجيه والتوعية والإصلاح، وقد ظهرت طبعتها الأولى سنة ١٢٨٩هـ/ ١٨٧٢م، ثم أعيد طبعها فى مجلة (روضة المدارس) فى العام التالي.

ومن أقوال عبدالله فكرى عن منهجه فى صياغة هذه المقامة، يقول: «كنت عثرت فى بعض أسفاري سابقا إلى القسطنطينية، دار الخلافة السنية، بكتاب لطيف الأسلوب باللغة التركية، يعرف بالمملكة الباطنية، وأصله من بعض الألسن الأجنبية، فنقلته إلى اللغة الشريفة العربية، بصورة مقامة أدبية، وضممت إليه بعض زيادات أظنها لا تخرج عن المطلوب، وتصرفت فى عباراته على أصل والأسلوب».

لعل أول ما نطالعه من هذه الرسالة هو عتبتها أى عنوانها الذى يشير منذ البداية إلى مناحها الرمزي (المقامة الفكرية فى المملكة الباطنية) فالمقامة الفكرية تعنى نسبتها إلى عبدالله فكرى وذلك ما ينبأ عنه المعنى الظاهر، أما المعنى الخفي فيدل على رغبة المؤلف فى تنبيه القارئ إلى أن هذه المقامة تحتاج إلى تدبير وتفكير وتأمل، ويعبر الشطر الثانى من العنوان (فى المملكة الباطنية) عن عالم التصوف وما فيه من كشف وخيال وإلهام وغير ذلك من دلالات ومعانى تناقض مملكة الظاهر والمحسوس، أما الدلالة الخفية فتعبر عن رحلة فى جوهر الأنا الإنسانية، ذلك العالم المغلق الشاغل بالكهوف والأنفاق والأسرار والأحاديث التى لا يسمعها أو يفقه مغزاها إلا ذلك المتربع على عرش تسيسها، ألا وهو العقل - إن شئت - أو قل القلب أو الضمير.

ولعله أراد بحث الأمور السياسية للدولة فهى بمثابة القلب والأحشاء ومكمن الأسرار والقوى الصانعة للقرار.

أما عن أبطال المقامة فيتمثلون فى القوى العلوية التى سمحت للمؤلف بالسياحة فى تلك المملكة، والمرشد الذى يصحبه وقد جعله فى علم (الخضر) ولى الله الذى ارتشف من بحر العرفان الحقائق اليقينية، وحكمة لقمان المستنبطة من الدربة والدراية والخبرة والتجريب، ذلك بالإضافة إلى عصبة من النسوة تمثل قيم الاستقامة، العفة، الجمال والفتنة، التى تلعب دور اللذات والشهوات المادية الحسية، بالإضافة إلى البصيرة والعدالة وقد جعلهما أعلى سلم القيم المؤثرة فى صنع القرار وتسيير أمور الدولة وفق المعمول به فى المدن الفاضلة، وهناك شخصيات ثانوية كثيرة تكشف عنها الأحداث، شأن (الحرص، الشجاعة، التردد، التهور) التى تجسدت فى صور بشرية تسوس الحكومة ويشاورها السلطان فى اتخاذ القرار.

ويمكننا أن نلاحظ من التعريف بأبطال المقامة شجاعة مفكرنا وسعة أفقه ورؤيته التقدمية، ويبدو ذلك فى مشاركته النساء فى أمور الحكم، وجعله أعلى درجات الإلهام والعرفان والآراء الصائبة والأفكار النيرة على لسان (البصيرة) وهى بين القيم تشغل مقام الريادة، ومن الملك تجلس على كرسي الوزارة ورأس الاستشارة.

وأعتقد أن ما ذهب إليه عبدالله فكرى فى هذا السياق لا يتعارض مع أصول الموروث، ولاسيما ما كان عليه النبي وصحابته فى الثقافة الإسلامية، فكانت للمرأة مكانتها فى البيت وفى المسجد وفى دور العلم وأمور الحرب أيضًا، وذلك على النقيض مما نجده فى القصص الرمزي اليوناني، على وجه الخصوص والحكايات الغربية على وجه العموم، فعلى الرغم من رفع الأساطير الإغريقية من مكانة المرأة فى سلم الأرباب وجعلها ربة للحكمة، إلا أنهم فعلوا النقيض فى أقاصيصهم، وألقوا بالمرأة من فوق درك السفالة والخسة، وجعلوا أفروديت أساس كل شر. ولعل هذه المقابلة تؤكد أن عبدالله فكرى لم يكن مترجمًا فى صياغة أفكار مقامته، فلو كان كذلك ما حدثت هذه المفارقة فى توزيع أداور أو شخصيات حكايته.

وأول ما يصادفنا من متن المقامة تلك الإشارات الرمزية التى يحيلنا المؤلف فيها إلى أن أفكاره وآراءه وتصوراته لم تخرج عن كونها بنات شرعية للذاكرة والخيال والعقل وحسن الأسلوب، وأن وجهته النقدية مقصدها هو الإصلاح وتسوية الأنفس وتقويمها من النواحي الذوقية والأخلاقية، وذلك بالتزام الوسطية الشرعية والموضوعية العقلية فى تقدير الأمور والفصل فى القضايا العملية والحياتية.

ويستهل مفكرنا خطابه بمخاطبة الأنفس وإرشادها إلى ضرورة الاحتكام إلى العقل والانتصار لمحمود الأخلاق والابتعاد عن الهوى واللذات المذمومة والشهوات المحرمة وذلك بقوله «إن العقل فى المملكة الإنسانية كالملك الكبير والبصيرة له بمنزلة الوزير الناصح المشير، والهوى كالجليس الخائن والصاحب المداهن، فيستعين العقل برأي البصيرة فى الأمور، فترشده إلى الخيرات وترده عن الشرور، إلا إذا غلب الهوى على العقل باعه للشهوات والجهل، فإنه يحسن له القبائح ويدعوه إلى ارتكاب الفضائح وإهمال ما تبديه البصيرة من النصائح.. فمن غلبت بصيرته على هواه فاز بالمني والسلامة، ومن غلب هواه على بصيرته وقع فى الغواية والندامة».

ويناقش مفكرنا قضية التحسين والتقبيح وحرية الإرادة الإنسانية، نازعا مع الصوفية إلى أن العقل ليس فى مقدوره وحده عصمة النفس عن الهوى وحمايتها من الغواية والمطامع وزينة الشهوات، فما أكثر الوقوع فى المهالك من جراء التقديرات الخاطئة والخيارات الفاسدة، وينصح مفكرنا بالبحث عن الحل والخروج من دائرة التردد إلى تحكيم القلوب والاحتكام إلى العلوم الربانية والإلهامات الروحية، والقيام برحلة سياحية فى الممالك الباطنية.

لم يقنع عبدالله فكرى بتلك المشاهدات المثيرة والمواقف الخطيرة التى عايشها خلال سياحته داخل النفس الباطنية، فأراد أن يشاهد بنفسه كيف يمارس الملك (العقل) مهامه فى حكم دولته، وأن يقف بالتفصيل على مراكز القوى فى حاشيته أو معيته، ثم يراقب عن قرب كيفية صناعة اتخاذ القرار والدروب التى تسلكها المناقشات بين الحضور بإقناع الملك بالرأي الأصوب، فقد تصور بطل المقامة أن كل القيم المحمودة والمذمومة قد تحولت إلى شخصيات تتساجل وتتحاور حول القضايا المعروضة على الملك الذى يعرضها بدوره على وزرائه وعماله طالبًا المشورة والقرار الصائب، فيروى بطل القمامة أن العين والأذن قد نبهت الملك وأخبرته عما رأته وسمعته عن ذلك الطامع الغادر الذى جاء معتديًا ومحتلًا.

وراح بطل المقامة يحدث نفسه: هل يمكن للنظام الجمهوري والممارسة الديمقراطية أن تصل إلى البصيرة والحكمة وغير ذلك من القيم العليا التى لا تفارق العقل وتعينه على اتخاذ القرارات وتأتى بالرأي الصواب حيال هذه المسألة؟ ويبدو أن بطلنا كان أقرب للشك فى قدرة هذا النظام على تباين ثقافة أفراده وطبائعهم على الوصول إلى الرأى السليم، ولعله تأثر بأفلاطون الذى ذهب إلى أن جهل الجمهور وقلة خبرة العوام لن تمكنهم من تدبر المسائل وانتخاب الحلول المقترحة، ثم المقابلة بينها وانتقاء الأصلح للتطبيق، أضف إلى ذلك افتقار معظم أفراد الشعب إلى قيمة الاعتدال، وذلك لأن طبائعهم الحسية والمادية هى التى تقودهم وتحول بينهم وبين الاتفاق على قرار واحد، فالأحاسيس والمشاعر نسبية ومتغيرة ولا ضابط لها يحكمها ويعصمها عن الوقوع فى عثرات الهوى وحبائل الشهوة، وعليه لا ينبغى الاحتكام إلى رأى العوام فى أمور الحكم والسياسة، بل البحث فى الطبائع البشرية عن ذلك الحكيم العاقل الفطن المجرب الذى تقوده حكمته وخبرته وأخلاقه إلى تسييس أمور المدينة أو الدولة على نحو يوفر لمواطنيها الحياة الكريمة الآمنة العادلة، ويحقق لهم السعادة. فالحكم الأمثل عند أفلاطون هو حكم الفاضل العاقل المستنير، وذلك على العكس من الساسة الديمقراطيين الذين أتت بهم الصناديق والعصابيات والمصالح الشخصية إلى كرسي الحكم دون أدنى وجه استحقاق، فالكثرة العددية هى التى انتخبتهم فحسب، فخطر المواطن الجاهل على الدولة محدد، أما خطر السياسي الجاهل فعليها عظيم المآل، فالسياسي الديمقراطي الجاهل ينحاز دوما إلى قيمة الحرية غير عابئ بمقاصدها أو مآلات ممارستها، فى حين أن الفيلسوف ينظر للقيم جميعها نظرة الطبيب إلى الأدوية ليختار منها المناسب لعلاج الواقعة أو الحالة أو المرض، ذلك على الرغم أن من بينها أو فى بعض تراكيبها المر والسم، أضف إلى ذلك أن المتعصب للحرية لديه دوافع لممارسة الأنانية والرعونة والجنوح والتطرف أكثر من ذلك الحكيم العاقل.

وها هو عبدالله فكرى يحاول البرهنة على ذلك من خلال تلك الجلسة التى حضرها فى المملكة الباطنية. فذهب إلى أن معية الملك جمعت بين الجاه والنخوة والغضب والحسب، وجلسوا بجوار البخل والجمود والكسل والخنوع، فراق للفريق الأول مجابهة العنف بالعنف بغض النظر عن معوقات الواقع وملابساته، فالحماسة هى التى كانت تقودهم، وذهب الفريق الثانى إلى الحديث عن تكلفة الحرب ومدى استعداد الجيش والمخاطر والأهوال التى تخلفها الحروب وقيمة الصبر التى يجب على الشعب انتحالها عند مجابهة الشدائد، وجاء على لسان الجبن والرعونة «لم تأتِ هذه المملكة الأجنبية بما يغضبنا، وإن كانت أيضا لم تجيء فى الحقيقة بما يعجبنا، وهب أنها أساءت إلينا وظلمتنا، فالأولى أن نصبر على أمرها ونطويها على غرها ونتغافل عن شرها»، وجاء على لسان الحلم والخوف «من جبن سلم، ومن تهور ندم، ومن غرس الحلم شجرًا جنى العز ثمرًا».

وقد أراد عبدالله فكرى من ذكر هذه الأقوال على ألسنة الممثلين للقيم لإثبات تهافت منطقهم وزيف أقوالهم وخطورة آراءهم على سياسة الدولة، وكل ذلك من جراء ممارستهم للديمقراطية المزعومة. وينتقل بطلنا إلى شخصيات أخرى مثل المال والكرم والسخاء الذين رفعوا شعار «من جاد بالمال نال الآمال واستمال الرجال وسلمت نفسه من الأوحال»، بينما ذهب الشح والبخل والحرص على المال إلى رفع شعار «من رشى عدوه أعانه عليه، وبقاء المال للأقارب خير من الاحتياج للأجانب». ورغم ذلك نجد بطلنا يمتدح المشورة ومحاورة الأغيار واحترام رأى الآخر، غير أنه يشترط أن تكون المشورة فى أهلها، يقصد الحكماء والعلماء والخبراء، ومن ثم فهى لا تصلح للعوام أو الدهماء، وذلك لأن جميعهم يحكم بمقتضى قناعاته الفردية، فالأناة ترغب فى التمهل فى حين أن الحسم والجرأة والإقدام يرغبون فى العجلة. ولم تفكر الأناة أو العجلة فى طبيعة الواقعة وملابساتها أى أن قرارهما لم ينبع من دراية بل من عاطفة. وإذا ما قابلنا شعارتهم برأي (شخصية العدل) «إن مقتضى الاعتدال النظر فيما نقل عنه ونتأمل لفظه ومعناه ونعامله بما يقتضيه من سلم وقتال، فنسير مع كل أحد من الناس حسب سيره». سوف ندرك الفارق بين الحكيم الفيلسوف العاقل المستنير وبين العوام من الناس.

وصرح كل من العفة والبصيرة والاستقامة والحياء والخيال بتأييدهم لرأى العدل وحذروا فى الوقت نفسه العقل من دهاء الشهوة والغفلة والمداهنة مبينين أنهن يملكن القدرة على قلب الأشياء إلى ضدها وتبرير الآثام وتجميل القبح والرذيلة فى عيون الغافلين «إنهن يصورن كل شئ بغير صورته، فالمداهنة تجلى الحق فى صورة الباطل، والصدق فى صورة الكذب، وتضل الشهوة بسحرها القلوب، وتخرج الغفلة العقول عن نهج الاستقامة المطلوب».

أما مثال الخيال - وهو المشخص لقيمة الإبداع - فقد أدرك أن نجاة الملك فى نصرة البصيرة لكى يسود رأيها ويقوى على كل المفسدات والشرور، ولما تحقق ذلك انطلق الخيال مبتهجا معلنا بأنه علة استقرار المملكة، فأصابه غرور وضله ظنه، فحسب سرير البلاهة عرش الحكمة العقلية والاستقامة العدلية، وأراد أن يتربع عليه، فوقع من فوقه وصار أضحوكة وصارت حكايته من بين الحكايات مصكوكة، ثم أدرك أن كل ما رآه محض خيال، فرجع وتاب عن ذلك الحال، وأراد أن يحكى تجربته لتصبح مثلًا وفصلًا بين عظيم الأقوال.

السياسة والديوان:

لا أعرف على وجه الدقة من بين فلاسفة الثقافة الإسلامية أول من ربط بين صلاح الحاكم وفساده، وخصال أعوانه ووزرائه ومعاونيه، ولا تلك الرؤى السياسية الأخلاقية التطبيقية التى أكدت أنه إذا جمعت حاشية السلطان بين العالم الخلوق، والمبدع الورع، والناصح الأمين، والمحنك الرزين، انعكس ذلك بالإيجاب على سلوك المملكة والدولة وأخلاقيات الرعية وبرهنت على دُربة الحاكم وفلاحه فى قيادة أمته وتسييسه لشئون الحكم ورعايته لصالح العباد، أما إذا تصدر معيته أراذل الناس وأسافلهم من المتملقين والمنتفعين والناقمين والحاسدين والطامعين وتجار الكلمة والمتآمرين، أنبأ ذلك عن فساد السلطان وعجل بزوال ملكه وحكمه وفساد الأمة.

ولعل ابن المقفع والثعالبي (٩٦١- ١٠٣٨م) وابن جماعة (١٢٤١-١٣٣٣ م) من أوائل الحكماء فى الثقافة العربية الإسلامية الذين طرقوا هذا الباب، وأكدوا ضرورة توخى الحاكم الحذر فى اختيار وزرائه وندمائه ومستشاريه والقائمين على القضاء والجيش وبينوا أن أثرهم على قرارات السلطان وتدابيره وأحكامه وتقييمه للمسائل المطروحة عليه لا يمكن إنكاره، فيأخذ من بعضهم العلم والخبرة والدربة والدراية فيما خفى عليه من أمور، ويلتمس عندهم المشورة ويستعملهم فى إنفاذ أوامره، ويسمع منهم أخبار الرعية. وقد توسع فلاسفة الأخلاق والسياسة المسلمون فى تبيان أهمية معية الحاكم، وأفردوا فى كتبهم فصولا للحديث عن صفاتهم وخصالهم والآداب التى يجب أن تتوفر فيهم، وانتهى معظمهم إلى أنه إذا اجتمع الملك الفاضل والوزير الصالح الناصح، أحرى بالمملكة أن تكون ساكنة، هادئة وأحوالها وأعمالها على النظام جارية، وطرق التجارة والمواصلات آمنة، والأسعار مناسبة وفى متناول الجميع، ونفوس الرعايا هادئة وراضية، وفى السلم والأمن والعدل مطمئنة.

وأعتقد أن عبدالله فكرى قد تأثر بهذا الطرح أثناء كتابته للشق السياسي الذى عالجه فى مقامته، فقد صور الصفات الحميدة والخصال الدميمة فى الشخصيات المحيطة بكرسي الحكم، وبين مبلغ أثرها على السلطان ومدى تأثره بها، وذلك بأسلوب تمثيلي لا يخلو من بصمة إبداعية.

وحسبي أن أؤكد أن مقامة عبدالله فكرى لا يمكن إدراجها ضمن الآداب السلطانية المباشرة، وحجتى فى ذلك أن متنها خال تماما من أى إشارات توجيهية للحاكم أو الأمراء الذين تولى تربيتهم وتعليمهم فى القصر الخديوى – كما أشرنا سلفًا -.

أضف إلى ذلك أن أسلوب المقامة الملغز لا يتفق مع لغة النصح والإرشاد والتوجيه الذى آلفناه فى كتابة هذا اللون من المؤلفات الأخلاقية.

أما وجهته الإصلاحية ونزعته التربوية الأخلاقية التى روج لها فى الصفحات الأولى من المقامة فهى لا تخرج عن كونها سنة أو نهجا متبعا فى كتابة المقامات، ولاسيما الحديث منها الذى اتخذ من نقد الواقع المعيش سبيلا لتقويم السلوك والأخلاق والمعتقدات.

وإذا ما انتقلنا إلى الموضوع الثانى الذى طرحه عبدالله فكرى فى مقامته فسوف نجده هو السياسة وشئون الحكم. فقد انتقل مفكرنا بذكاء ودهاء وحنكة وحرفية متقنة الى ميدان السياسة فنألفه يفاضل بين الحكومات القائمة على النظام الجمهوري فى الحكم والديمقراطية فى التشريع، ويرى أنها لا تخلو من مواطن الجور والاستبداد والزور والاستغلال، وأن أفضل منها هو الحكم الملكي الذى يكون الأمر فيه لذلك المستبد العادل (المفقود) الذى يغلق بحكمته أبواب الانقسامات والخلافات والفتن، ويقود بصدق نيته الأمة إلى ما فيه خيرها، ويقول: «ظننت أن إدارة الحكم فى المدينة بالجمهورية لا بالملك والاستقلال، وزعمت أن ذلك سبب ما أراه فيها من الفتنة والاختلال، كما يقع عادة فى الممالك الجمهورية من مثل هذه الأحوال بسبب ما يظهر فيها من الفرق المتعارضة وما يكون لهم فى أحكامهم من الآراء المتناقضة، فهذا ما ذهبت بادئ إليه وعولت فى توجيه أحوال المملكة عليه، ولكن لم يتيسر لى فهم ما رأيته بحقه، ولم أعرف من بينهم أحدا أثق به وأعتمد على صدقه فبقيت متفكرا مضطربا متحيرا».

وأعتقد أن عبدالله فكرى ينتحل فى هذه المقامة نهوج التورية والتعمية ورمزية عكس الدلالة، فظاهر القول يفيد بأنه ضد الجمهورية أو ضد النظام الجمهوري الديموقراطي ومؤيد للملك العضوض والنظام الفردي الأوتوقراطي الذى يتفق مع المنحى الصوفي، غير أنه ينبه القارئ بذكاء شديد على أن حديثه لا يعبر عن اليقين أو ينطلق من فوق منبر الحق، ويبدو ذلك فى قوله هذه الإشارات (ظننت - زعمت - لم يتيسر لي فهم - متحيراً) وكلها أساليب تفيد الارتياب والشك فى صحة الاستنباط والاستدلال، ويضيف عبدالله فكرى أنه وجد فى هذه المملكة الخيالية الباطنية رجلا يتميز بالفراسة وإتقان علوم السياسة، فأخبره أن ما رآه من أوضاع ونظم وأحوال لا يعبر عن الحقيقة، بل إن واقع الأمر أن هذه الدولة تحكم بسلطان عاقل مُلهم ساقته الأقدار إلى أن يتولى أمور تسييسها، ليقود الرعية بحكمة الباري والعدالة الإلهية، وأن جزاءه عند الله وحسابه موكل إليه عند السؤال عن تلك الأمانة التى ألقاها على كتفيه. وأعلم أن ذلك السلطان أو الحاكم ليس معصوما، وذلك لأنه ليس من الأنبياء ولا الأولياء، وأنه يستمد الحق من رجاحة عقله ومن قدرته على حنكته فى تسييس أمور مملكته، ومن ثم فالصواب والخطأ فى الاجتهاد محتملان، والذى يغلب إحدى الكفتين هو حسن الإدارة والتدبير واتصاله بالجماهير ونزاهة المشورة والوزارة.

يروى مفكرنا أنه أراد التيقن من صدق حوار ذلك الدليل - الذى اصطحبه من بداية الرحلة - فسأله عن البرهان، فطلب منه أن يتبعه ليصلا معا إلى مقام السلطان، وفى الطريق وقف بطل الحكاية (أى عبدالله فكري) ليستمع إلى أحاديث العوام – إن شئت أو قل المغرضين من مزيفي الوعي - الذين أدركوا غربته وقلة خبرته بأمور السياسة، فأرادوا أن يضللوه وصرحوا له بأن كل ما سمعه من الدليل وهم وخيال، وراحوا يشككوه وبالبلاهة والسذاجة يتهموه، غير أنه لم يجنح عن سبيله وراح يتعقب الدليل، ويتبع خطاه ليظفر من الحق بالقليل، فقابلته جماعة أخرى من الظرفاء - تجار الكلمة - يلتف حولهم جمع كثير، فظنهم بطل حكايتنا أرباب الحكمة ورجالات التدبير، غير أن الدليل أشار إليه بأنهم أصحاب هرج ومرج، وأن فى الإصغاء لهم مضيعة للوقت وعطلة عن بلوغ الهدف، فتركهم بطلنا وانصرف إلى أن وصل مع الدليل إلى بهو شاغل بالأنوار والرايات ومزدحما بالجمهور من رجال ونساء وشيوخ وأولاد وأكابر ونبلاء وصعاليك وعباد، وحال الزحام بين عيون بطلنا ورؤية ذلك الحاكم الهمام، ويقول: «لم أميز شكل العقل الحاكم فى ذلك القطر بوجه اليقين وعلى صورة التعيين، لكن رأيت كثرة ماله من الأنوار فوق ما لغيره من الحصار، وما يعلوه من الهيبة والوقار، فأخذت بالظن والتخمين أنه العقل المشهور، وتأكيد ما فهمته من ذلك بأخبار دليلي المذكور، ثم نظرت إليه فرأيت عنده امرأتين ظريفتين عفيفتين قد زانهما الحسن والجمال وعلاهما الأدب والكمال (هما العدالة والفضيلة)».

ويمضى مفكرنا فى وصف معية العقل أو إن شئت قل حاشية ذلك الملك، فوقع بصره على امرأة ذات دلال ظاهر تسحر العقول بألفاظها وعلى رأسها تاج من الورود وتنطق بلسان معسول لا يلاقى من سامعيه إلا الرضا والقبول، فمال بطلنا إليها، غير أن الدليل نزع الستائر المسدلة عليها، وأخبره أنه افتتن بنظراتها الحميمة وهى فى الحقيقة نموذج للشهوة الدميمة. ومن الذين رآهم حول العرش نماذج للغب (أى البعد والشقاق) والحسد وحب الجاه، وجميعهم يمثل معاول الهدم لأركان الملك لا يقل خطرهم وأذاهم عن السيف والرمح والجهل والفقر والشح، ولا خطرهم عن النسيان والهرم (أقصى الكبر والضعف) على الذاكرة وغيبة الدليل على النفوس الحائرة، وعلى مقربة من هؤلاء أبصر بطل الحكاية الكبر والدناءة وجها إلى وجه، أما العدل فوجده وسط الكرم والبراءة والشرف والنزاهة جالسين يتهامسون فى أناة ووقار بجوار الأمن يفصل بين الحضور ويكون للنظام حارسا، وعلى مقربة منه امرأة يحيطها الجمال والكمال والجلال، فتأكد له أنها البصيرة، وذلك لأن الملك يعتبرها منبع الحكمة ونعم المشيرة، ويقول على لسان الدليل: «سألت الدليل عن خبرها، فقال هى البصيرة المعروفة بحسن آرائها، وهى أعظم أمرائنا، وسلطاننا يوقرها ويخشاها ويحذرها، ويستنهض العامة والخاصة لموافقة آرائها، وقد يقع بينهما الشقاق وتنحل روابط الإتقان، فيظهر كل منهما لصاحبه الخصومة، فتختل عند ذلك أمور الحكومة، ويتغلب فى خلال ذلك الاختلال طائفتا الأغراض النفسية والخصال المحمودة».

وأعتقد أن عبدالله فكرى قد استطاع إلى حد كبير التصريح بأمرين: أولهما: أن المجتمع المصرى المتطلع للحرية غير مستعد لتطبيق الديمقراطية فى ميدان السياسة، وأن ذلك لا يرجع لعجز فيه، بل يرجع إلى قلة وعيه وتسلط المغرضين على العقل الجمعى، وتعمدوا تجهيله وحرمانه من الأناة والتريث وآليات النقد الفاحصة للأمور قبل تقييمها وإنفاذها. بالإضافة إلى خلو معية الحاكم من المختلفين المتعاونين، أو إن شئت قل التضاد المثمر، وعليه فهو يفضل الحكم الأوتوقراطي المحاط بمعية أرستقراطية تجمع بين العلم والفضيلة والحسم والأناة والعدالة والرحمة وعين الواقع وآفاق الخيال. ولعله أراد بذلك التصور التأكيد على أن قيادة الصفوة المستنيرة العاقلة هى الأفضل لحكم البلاد فى متنفس يجمع بين الحرية الواعية والأخلاق العملية الناجعة.

أما الأمر الثانى، فيتمثل فى حثه المفكرين على تعويد الحاكم على منطق الحوار الذى يحتكم إلى التجربة والبرهان فى الفصل بين الأمور المتشابكة والآراء المتعارضة والقضايا المطروحة، وتنبيهه فى الوقت نفسه على ضرورة غربلة معيته من الندماء والوزراء والمستشارين، فمحاربة الفساد يجب أن تبدأ من الرأس بنفس القوة التى تُقلم بها أظافر صغار العمال.

وعلى الرغم من دراية مفكرنا بأصول كتابة المقامات؛ فإنه قد أخفق فى حبك مقامته من الناحية الشكلية، فالبداية ضعيفة ومشوشة وملغزة والنهاية غير مباشرة، يعوزها الحسم والنتيجة المستخلصة من العظة المتضمنة فى المقامة. والأحداث غير مثيرة. والشخصيات محدودة الأدوار، بداية من شخصية البطل إلى الشخصيات الثانوية، ناهيك عن الدور المزدوج الذى قامت به الأنا الباطنية والراوي السائح فيها. كما أن العقدة الدرامية غير محكمة والحل غير واضح.

وعلى أية حال؛ فإن مقامة عبدالله فكرى قد حركت المياه الراكدة فى الثقافة السياسية المصرية آنذاك. والسؤال المطروح: هل فى مقدور مفكرينا قراءة الواقع السياسي المعيش بعين تجمع بين البصيرة العقلية والمسحة الأخلاقية العملية؟ وهل نحن مؤهلين لما نطلق عليه الديمقراطية فى مؤسستنا السياسية؟ وهل لدينا غربال نضعه فى يمين الحاكم لاختبار عماله؟

 

بقلم: د. عصمت نصّار

 

 

في المثقف اليوم