قضايا

قلولي بن ساعد: من يحرر المثقف؟

لم يعد ممكنا انتظار معجزة من نخب هشة منقسمة على نفسها، لم تستطع لحد الآن أن تتفق على الحد الأدني الذي يمكنها من أن تكون قوة رمزية فاعلة تستمع لها السلطة، وتأخذ بآرائها وتعود إليها لجس نبض الشارع والمجتمع الذي تدعي أنها تمثله وتنوب عنه في التفكير في المسائل والقضايا الثقافية والإجتماعية والتاريخية، خصوصا بعد الفراغ الذي عرفه الفضاء الثقافي والإجتماعي والسياسي في جزائر الديمقراطية والتعددية ولو في شكلها الواجهاتي .

أو تتخذ منها شريكا ثقافيا مهما يقدم رؤيته النقدية  للسياسة الثقافية الكفيلة بإخراج الفعل الثقافي المدني الجزائري من وضعه النمطي البائس إلى رحابة الإنفتاح الثقافي على محتلف الحساسيات الثقافية والأدبية، المشكلة للتنوع الثقافي الجزائري بمرجعياته المختلفة في إطار الوحدة الوطنية، قبل الشروع في المساهمة في تقديم مقترحاتها بشأن بنود المشروع الثقافي الوطني الذي لم ينجز منذ إستعادة السيادة الوطنية سنة 1962 .

بعيدا عن بعض أشكال الشراكة الثقافية بين المثقف والمؤسسة الثقافية الرسمية الشراكة السلبية التي تمثلها بعض مشتقات السلطة الجمعوية وشبه المدنية في تكتلاتها الفئوية والثقافية وآفاقها المحدودة النظر والرؤية.

منذ تشتت ما كان يسمى بالمدرسة السوسيولوجية الجزائرية بفعل الهجرة إلى دول عربية وأخرى غربية، أو الموت التي مثلها علي الكنز وعمار بلحسن وهواري عدي وجيلالي اليابس ومحمد بوخبزة وعبد القادر جغلول  التي تكونت وتشكل مسارها الفكري والمعرفي في أفق اليسار الجامعي الجزائري في نهاية الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم .

المنشغلة آنذاك بما كان يسمى المسألة الثقافية في الجزائر من المنظور السوسيو ثقافي، وعدم انبثاق نخبة أخرى بديلة عنها تستلم منها المشعل وتواصل المسيرة .

يحدث كل هذا في ظل استحداث ما أصبح يسمى في أقسام العلوم الإجتماعية بعلم الإجتماع الديني لتزييف حقل العلوم الإجتماعية المصدر الأساسي لفهم الحراك الإجتماعي الشعبي والإنتباه لدبيب وإنصهار المثقف النقدي في قلب وهموم الطبقات الإجتماعية خاصة منها الفقيرة أو المتوسطة الدخل .

علما أن إفرازات العلوم الإجتماعية هي كلها إفرازات ماركسية، ولا علاقة للرؤية الدينية بها وتاريخ الشعوب مثلما يقول ماركس هو" تاريخ الطبقات والصراع الدائر بينها "

من هنا يتبين الهدف الذي من أجله لجأت النخب الحاكمة في البلدان العربية إلى إستحداث ما يسمى بعلم الإجتماع الديني في الجامعات العربية، لإفراغ العلوم الإجتماعية من جدواها وفاعليتها وثوريتها في تماسها مع صيرورة المجتمع وتحولاته المفصلية على الأصعدة الإجتماعية والمهنية والسياسية وتحول المثقف النقدي إلى مجرد موظف يؤدي خدمة مهنية ليس إلا ..

هذا ما يؤكده الواقع وقد سبق للسوسيولوجي الجزائري عبد القادرجغلول أن نبه لعدم وجود إنتلجانسيا أو نخبة مثقفة بالمعنى الصحيح، وكل ماهو موجود في نظره "مجرد سديم ضبابي يتشكل من مجموعة من الأفراد بدون أي نسيج فكري أو ثقافي يربط بينهم" .

وبالتالي خلو الجزائر الثقافية والجامعية من " مثقفين عضويين" بالمعنى الغرمشوي للكلمة نسبة إلى أنطونيو غرمشي المفكر الماركسي الذي أعدمته الفاشية الإيطالية التي مثل لها غرامشي إزعاجا كبيرا، وهو الذي كان يهدف من وراء نحته لمفهوم " المثقف العضوي " على ما يرى المفكرالفلسطيني البارز أدوارد سعيد في كتابه (الآلهة التي تفشل دائما) " إلى بناء ليس فقط حركة إجتماعية بل تشكيلة ثقافية مرتبطة بهذه الحركة " .

وعليه ليس غريبا أبدا أن يستشرف مفكر بارز بحجم علي حرب في كتابه الشهير (أوهام النخبة أو نقد المثقف العربي ) ما سماه " بنهاية المثقف "، بعد أن لاحظ عدم جدوى أي دور للمثقف العربي وفشله الذريع في أداء الرسالة التي يتوهم أنه حاملا لها لتنوير الجماهير والنيابة عنهم في التفكير والتدبر،  يستوي في ذلك عنده الإسلاميون والعلمانيون واليساريون والقوميون وغيرهم.

والدليل على ذلك أن ما يعرف بثورات "الربيع العربي" بصرف النظر عن القوى المدعومة من طرف الإمبرياليات الغربية التي كانت تقف وراءها وموقف البعض منها أشعل شرارتها الأولى صاحب عربة لبيع الخضر والفواكه هو " البوعزيزي " وليس أركون ولا الجابري ولا أدوارد سعيد ولا عبد الكبير الخطيبي ولا نصر حامد أبوزيد .

وهم الذين غادروا الحياة قبل أن تحدث، على ما يستنتج ذلك الروائي الجزائري الخير شوار في مقال صحفي كان قد كتبه منذ سنوات، فكل هؤلاء لم يستطيعوا إحداث ثغرة في بنية المجتمع العربي بالرغم من الأهمية الكبيرة لمشاريعهم الفكرية في جانبها التحرري من الوعي العربي القائم .

ولذلك يدعوا علي حرب إلى محاولة التخلص من "أوهام النخبة " لإرتباطها بالنهاية الحتمية للمثقف الأمر الذي جعل علي حرب يتعرض لحملة إدانة واسعة وبعض ردود الأفعال المجانية والمتنشنجة .

فهناك من إعتبره نوع من الإستسلام والخضوع وتراجعا عن الدور المنوط بالمثقف، فيما هو شكل من أشكال "النقد الذاتي" الذي لا يزال المثقف العربي بعيدا عنه ويتهيب من طرحه لأنه يطال الذات العربية التي كان يرى محمد عابد الجابري أنها على الصعيد النفسي " لاتقبل النقد إلا في صورة مدح أو هجاء " .

لقد كان صعبا على المثقف العربي المستسلم لثقافة الوثوق الأعمى وللأوهام التي عششت في ذهنه ومخياله بسبب بعده واغترابه عن روح وجوهر " النقد الذاتي " وإعتبار ذاته بعيدة عن نقد الأنا، إن لم يكن يرى نفسه فوق النقد وفوق التاريخ أن يقبل بنوع من التفكيك والمساءلة الصادمة " لوعيه الشقي " بمفهوم عالم النفس الشهير جان بياجيه .

الوعي الذي لا يبدوا أنه سيمكننا من الإجابة عن ذلك السؤال المهم

وهو من يحرر المثقف...؟ .

***

قلولي بن ساعد / كاتب وناقد جزائري

في المثقف اليوم