قضايا

كيف تعامل الفقهاء والأطباء المسلمون مع الطاعون والأوبئة؟

محمود محمد عليشهدت الإنسانية عبر تاريخها الطويل سلسلة كبيرة من الأزمات والابتلاءات والمحن التي نزلت بالناس صنوف شتى من الابتلاء؛ كالطواعين والمجاعات والفيضانات والزلازل والجفاف وغير ذلك، وبالطبع، فقد نال المسلمين من ذلك الأوبئة والجوائح الكثير، حيث شكلَّت تهديدًا كبيرًا للحضارات الإسلامية في العصور المختلفة، بل حصدت أرواح الناس حصدًا، تاركةً وراءها ما يمكن وصفه بكوارث ديموغرافية كبرى تركت بدورها آثارًا سلبية بالغة القسوة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والعمراني، ومن ثم السياسي في نهاية المطاف، فكانت موجات متتالية من أوبئة الطاعون قد ضربت منذ العصر البيزنطي الشرق الأوسط وصولًا إلى شمال أفريقيا، ومن ثم أوروبا حتى أنه لا يكاد يخلو قرن من القرون من هذه الأوبئة ومن أثارها المدمرة لأوجه الحياة.

وقد احتلت الأوبئة والطواعين مكانة مرموقة في كتب التراث الإسلامي، حيث حفلت بالحديث عنه مؤلفات الحديث والفقه والفلسفة، فضلًا عن مجال الاختصاص وهو الطب، ولو تصفحنا كتب السنة لوجدنا بعض المحدثين كالبخاري ومسلم والترمذي وغيرهما قد أفردوا في كتبهم أبوابًا تضم ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في شأن الطاعون ومنها ما جاء في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك

كما قدم الفقهاء والأطباء المسلمون الذين عاصروا تلك الأحداث صوراً متنوعة عن تلك الأوبئة وآثارها وعواقبها في سائر أرجاء الأرض، مثل ابن حجر العسقلاني وجلال الدين السيوطي  وأبو بكر الرازي وابن سينا واين النفيس وهلم جرا، ونظراً لما تركت تلك الأوبئة من آثار في تراثنا الفقهي والطبي على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية للمجتمع الإسلامي والإنسانية ككل، فلا بد من تناولها والاهتمام بدراستها.

والسؤال الآن: كيف تعامل الفقهاء والأطباء المسلمون مع الأوبئة والطواعين؟

نبدأ بطائفة الفقهاء ورجال الدين، حيث نجد أن موقفهم ينطلق من النصوص الدينية إزاء انتقال العدوى، حيث تضاربت أقوالهم بشأنها ما بين الإثبات والنفي، وذلك لما ورد من نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم يُفهم منها إثبات العدوى كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبو هريرة كما ورد في صحيح البخاري " لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ"، وورد أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم نصوص يُفهم منها نفي العدوى كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبو هريرة الذي ورد في صحيح البخاري أيضًا ": لا عدوى، ولا صَفر، ولا هَامة . فقال أعرابي يارسول الله فما بال إبلي تكون في الرمل كأنهّا الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها ؟ فقال: فمن أعدى الاول؟.. وهناك أحاديث في نصِّها نفي العدوى وإثباتها في نفس الوقت ومنها حديث " لا عدوى ولا طيره ولا هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد" (رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه)... وحديث " لا عدوى وإذا رأيت المجذوم ففر منه كما تفر من الأسد" (أخرجه ابن خزيمه عن عائشه رضي الله عنها).، وهنا وجدنا الفقهاء في تعاملهم مع الأوبئة والطواعين أنهم يأخذون موقفين:

الموقف الأول: الهروب من الطاعون: ويتمثل في ذُكر أن المسلمين تحركوا في إطار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون: «إِذا سمعتم به بأرضٍ؛ فلا تقدموا عليه، وإِذا وقع بأرضٍ، وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فراراً منه »، وهذا الحديث النبوي فيه إشارة واضحة إلى ما يطبق اليوم علمياً وعملياً من الحجر الصحي بهدف مواجهة الأوبئة المنتشرة، فرسول الله لم يكتف بأن يأمرهم بعدم القدوم إلى الأرض الموبوءة، بل أتبعها بأن أمر من كان في أرض أصابها الطاعون أن لا يخرج منها، وذلك لمنع انتشار العدوى فينتقل الوباء إلى مناطق أخرى، وبذلك فإن هذا الحديث لفتة إعجازية تضاف إلى سجل الطب النبوي..

وقد رجع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بناء على هذا الحديث إلى المدينة ولم يدخل الشام بعد أن كان قد قصدها، ولم يكن ذلك هرباً من الموت المقدر أن عمر أجاب أبا عبيدة بن الجراح، عندما سأله عن سبب رجوعه إلى المدينة، قائلاً: أفراراً من قدر الله؟، فأجاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو غيرك يقول هذا، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله… وعليه فقد أباح بعض العلماء الخروج على ألا يكون الخروج فراراً من قدر الله، والاعتقاد بأنَّ فراره هو الَّذي سلَّمه من الموت، أمَّا مَنْ خرج لحاجةٍ متمحِّضَةٍ، فهو جائزٌ، ومن خرج للتَّداوي فهو جائزٌ، فإِنَّ تَرْكَ الأرض الوبئة، والرَّحيل إِلى الأرض النَّزهة مندوبٌ إِليه، ومطلوبٌ. وقد طلب الفاروق بعد ذلك من أبي عبيدة أن يرتحل بالمسلمين من الأرض الغمقة الَّتي تكثر فيها المياه، والمستنقعات إِلى أرضٍ نزهةٍ عالية، ففعل أبو عبيدة. وفي ذلك درس في الأخذ بأسباب الوقاية من المرض والوباء والابتعاد عن مصادره وأماكن استفحاله.

الموقف الثاني: معالجته الأوبئة والطواعين بالأدعية والصلوات والابتهالات والتضرع إلي الله؛ حيث استشهد الفقهاء هنا بما جاء في صحيح البخاري تحت ترجمة: باب الدعاء برفع الوباء والوجع، ومن الأحاديث الواردة هنا كما فى دعائه صلى الله عليه وسلم برفع الوباء والوجع رد على من زعم أن الولى لا يكره شيئًا مما قضى الله عليه، ولا يسأله كشفه عنه، ومن فعل ذلك لم تصح له ولاية الله، ولا خفاء بسقوط هذا لأنه قال: (اللهم حّبب إلينا المدينة وانقل حماها) . فدعا بنقل الحمى عن المدينة، ومن فيها، وهو (صلى الله عليه وسلم) داخل فى تلك الدعوة، ولا توكل أحد يبلغ توكله، فلا معنى لقولهم.. ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: "وقد استشكل بعض الناس الدعاء برفع الوباء لأنه يتضمن الدعاء برفع الموت والموت حتم مقضي فيكون ذلك عبثا وأجيب بأن ذلك لا ينافي التعبد بالدعاء لأنه قد يكون من جملة الأسباب في طول العمر أو رفع المرض وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة من الجنون والجذام وسيء الأسقام ومنكرات الأخلاق والأهواء والأدواء فمن ينكر التداوي بالدعاء يلزمه أن ينكر التداوي بالعقاقير ولم يقل بذلك إلا شذوذ والأحاديث الصحيحة ترد عليهم وفي الالتجاء إلى الدعاء مزيد فائدة ليست في التداوي بغيره لما فيه من الخضوع والتذلل للرب سبحانه بل منع الدعاء من جنس ترك الأعمال الصالحة اتكالا على ما قدر فيلزم ترك العمل جملة ورد البلاء بالدعاء كرد السهم بالترس وليس من شرط الإيمان بالقدر أن لا يتترس من رمي السهم والله أعلم"... وهكذا سار الناس على هذا المنهج، وهو الدعاء برفع البلاء والصدقة والصلاة والصيام تقربا لله من أجل رفعه

وبرغم الموقفين السابقين فنجد أن الفقهاء المسلمين قد انتهوا في نهاية الأمر نهاية واحدة، وهو أن الأوبئة والطواعين عقاب إلهي جماعي يصيب الناس جراء انشغالهم بالدنيا وانهماكهم في اللذات والمعاصي وإهمالهم الفروض والطاعات، وبسبب المنكرات التي يقترفونها .. علاوة علي أنها تمثل عذاب للكافرين وشهادة للمسلمين، وأن سبب تمكن الطواعين من الناس وفتكها بهم، يرجع إلى كونها تمثل وخزة من وخزات الجن، وذلك اعتمادًا على الحديث الذي يستشهد به الكثير من الفقهاء مما ورد في مسند أبي يعلى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ذُكر الطاعون، فذكرتُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" وَخْزَة تُصيب أمتي من أعدائهم من الجن". ... إن هذا الكلام خطير جدا ومدمر..

وهذا الرأي اعترض عليه معظم الأطباء المسلمين من أمثال أبو بكر الرازي وابن سينا وابن النفيس، حيث رأوا بأن لو كان مبدأ الطاعون وخز الجن، فلم يقع أحيانًا في شهر رمضان، حيث الجن والشياطين مصفدة في أغلالها، لا تسطيع نفعًا لغيرها ولا ضرًا.

من هذا المنطلق شرع الأطباء المسلمين يؤكدون لنا بأن معرفة الأوبئة والطواعين لا تتضح من خلال النصوص الدينية ولا من أزمة الواقع كما هو شأن المؤرخين من أمثال المقريزي (الذي تكلمنا عنه في مقال سابق )، وإنما من المعرفة والخبرة الطبية وهنا وجدنا الرازي في كتابه " الحاوي " يميز لنا بين الأمراض البلدية والأمراض الوافدة، كما ركز علي ضرورة طبيعة الأجسام والمأكول والمشروب ... حيث يبدأ كلامه عن الأوبئة من أبقراط وجالينوس؛ أي يبدا من العلم، ولذلك يقدم لنا الرازي تفرقة في رساله له عن الأوبئة، حيث يتكلم عن أنواع الأوبئة والحميات وارتباطها بالمكان وطرق علاجها، ومن وصفاته أنه كان ينصحنا برش منزلنا بالماء والخل، وأن نقطن في المسارب التي يوجد بها هواء نقي، وأن نخرج من المدن المزدحمة .. وهلم جرا..

ويقول الرازي في الحاوي " الطواعين ورم حار يعرض في الأربيات والابط، ويقتل في أربعو أيام أو في خمسة . والطاعون الردئ أسود واطلاعون الأحمر أقل شرا علي أنه ربما قتل، ولا يكاد ينجو من الأسود والأخضر أحد ".

ونفس الشئ ذهب إليه الطبيب المصري ابن النفيس 687هـ في شرح كتاب أبقراط في الأوبئة يقول إنا نشرع الأن في عرض مقدمة الكتاب؛ حيث يقول: قال الشيخ الحكيم المتقن الضابط المحقق العالم العلامة علاء الدين ابن أبي الحرم القرشي .. إنا نشرع الآن في شرح الكتاب المعروف بكتاب أيبدينيا للأمام أبقراط وتفسيره المرض الوافد وهو الحاجز عن فساد كيفيات الهواء.. وأما الحدث عن فساد جوهر الهواء فيختص باسم الموتان .. ثم يستطرد فيقول [انني سأركز هنا علي ما قاله أبو قراط ولن أغوص في التفاصيل ... وفي النهاية يقول ابن النفيس لا بد أن نعرف من أين أتي هذا الوباء وما مصدره ولا بد من معرفة طبيعة الأبدان والمكان الذي يوجد به الناس  ويفهم من هذا النص بأن الواسطة الرئيسية لنقل الأوبئة هو الهواء الذي يمثل عنصر لازم للحياة فاسد ولذلك الأطباء العرب سموا الوباء المرض الوافد لنه ينتقل من مكان إلي مكان وسموه فساد الهواء لأن الهواء هو الصلة الرئيسية .. وقال ابن النفيس في " الموجز في الطب":" الوباء فساد يعرض لجوهر لأسباب سماوية أو أرضية كالماء الآسن والجيف الكثيرة كما في الملاحم، إذا لم تدفن القتلي، ولم تحرق، والتربة الكثيرة النز (أي الرطبة)، فإذا كثرت الشهب والرجوم في آخر الصيف وفي الخريف أنذر بالوباء.

وقبل ابن النفيس كان الشيخ الرئيس "ابن سينا" قد أكد في كتابه "القانون" تحت عنوان "فصل الطواعين":" كان أقدم القدماء يسمون ما ترجمته بالعربية الطاعون ورم يكون في الأعضاء الغددية اللحم والخالية، إما الحساسة مثل اللحم الغددي في البيض (المبايض) والثدي أصل اللسان، وإما التي لا حس لها اللحم الغددي الذي في الإبط والأربية ونحوها . ثم قبل من بعد ذلك لما كان مع ذلك ورما حاراً . ثم قيل لما كن مع ذلك ورماً حاراً قتالاً . ثم قيل لكل ورم قتال لاستحالة مادته إلي جوهر سمي يفسد العضو ويغير لون ما يليه . وربما رشح دماً وصديداً ونحوه . ويؤدي كيفية رديئة إلي القلب من طريق الشرايين، فيحدث القئ والخفقان والغشي . وإذا اشتدت أعراضه قتل.. واسلم الطواعين ما هو أحمر ثم الأصفر، والذي إلي السواد لا يفلت منه أحد . والطواعين تكثر في الوباء وفي البلاد الوبائية".

وثمة نقطة مهمة نود الإشارة إليها، وهي أن ابن سينا استفاد من كلامه في الأوبئة والطواعين بما كتبه أستاذه في الطب وهو الطبيب "أبو سهل المسيحي"، وهو من الأطباء المسلمين المشاهير، وله رسالة بعنوان " رسالة في تحقيق أمر الوباء والاحتزار منه وإصلاحه إذا وقع " وهذه الرسالة قد حققها الأستاذ "لطف الله قاري"، ونشرت بمحلة تاريخ العلوم العربية بجامعة حلب المجلد 13 في عام 2005م.. وهنا نجد الطبيب "أبو سهل المسيحي"،  يعتمد علي نظرية الطبيب اليوناني جالينوس في سبب شيوع الأوبئة إلى الرطوبة وفساد الهواء الذي يؤدي إلى فساد الأمزجة والأبدان، ومن ثم أكد الأطباء المسلمون على أن التوسع في العمران يؤدي إلى إحداث العفن والرطوبة الفاسدة في الجو، وبالتالي يتسبب في وقوع الأوبئة المهلكة كالطواعين والحميات.

واستنادًا إلى تلك النظرية فسَّر الأطباء المسلمين طبقا لكلام ابن خلدون ظهور الأوبئة الناجمة عن كثرة السكان وانتشار العمران، وما يصاحبه من كثرة العفن والرطوبة الفاسدة، فإذا اشتد فساد الهواء وقع المرض في الرئة، في حين أنَّ ابن سينا من دون التخلي عن نظرية جالينوس ألمح إلى أنَّ فساد الهواء هو السبب المباشر للوباء.  أما ابن النفيس فربط حدوث الوباء ببعض المسببات الأرضية والسماوية، أمّا الأرضية فمنها كثرة وجود البرك والمستنقعات، أو ما سمّاه الماء الآسن في المدن مع انتشار الجيف الكثيرة.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم