قضايا

تأملات في الفكر السياسي الإسلامي (10)

سليم جواد الفهدانتهينا في التأمل التاسع الى تحديد منافذ الجبرية الاجتماعية وكانت كالتالي:

1- الدين ويمثل الحرام.

2- العرف ويمثل العيب.

3- القانون ويمثل الممنوع.

 وهذه الضوابط الثلاثة (الحرام) و(العيب) و(الممنوع) تمثل ضوابط السلوك الاجتماعي في اي مجتمع قديما وحديثا ومعاصرا وتتفاوت هذه الضوابط شدة وضعفا حسب مراحل التطور التاريخي للمجتمعات الإنسانية. إلا أن الأكثر ثباتا من بينها هو الحرام وسبب ثباته هو ارتباطه بالمقدس فقد يتغير العيب وما كان عيبا في الامس القريب لم يعد الآن عيبا وقد يتغير القانون أو حتى الدستور بالكامل حسب ما يقتضيه الوضع السياسي او الاجتماعي إلا الحرام يبقى حرام لأن أرادة المقدس شاءت ذلك وارادة المقدس خالدة كخلود المقدس نفسه.

اضافة الى الجبرية الاجتماعية الذي أكدنا فيها أن التصورات والأفكار والأفعال الصادرة عن الفرد راجعة إلى تأثير المكتسبات الاجتماعية من عادات وقيم وأخلاق التي تشكل في مجموعها الضمير الجمعي كذلك يخضع الإنسان الى ما يسمى بالحتميات الطبيعية مثل:

- الحتمية الفيزيائية: الإنسان كائن طبيعي له جسم مادي مثله مثل جميع المخلوقات ويخضع للقوانين الطبيعية فإذا دخل النار احترق وإذا سقط من شاهق تحطم وهو يخضع أيضا لعوامل الزمن فخلاياه تتهدم تدريجيا بتقدم العمر ثم يهرم ثم يموت.

- الحتمية الجينية: وتتمثل في تأثير المعطيات الوراثية بواسطة الجينات على الإنسان فهي التي تحدد جنس الإنسان من ذكر أو أنثى ولون البشرة ولون العينين وكانت نظرية الحتمية الوراثية أحد المسلمات العلمية التي دافع عنها علماء الوراثة وخصوصا واتسون وظهرت وقتها المقولة الشهيرة "مورثاتنا هي قدرنا".

- الحتمية النفسية: وتتمثل في تأثير الجانب اللاشعوري أو ما يسمى باللاوعي على توجيه السلوك وما يختزنه الإنسان في لا وعيه من تجارب كقسوة الأب أو الأم أو الإهمال العائلي أو قسوة المعلم في المدرسة منذ الطفولة الى الممات وهذا ما بينته نتائج التحليل النفسي في علم النفس الحديث.

صار الآن من الصعب القول بوجود حرية في غياب كل إكراه داخلي أو خارجي ومن يتبنى القول بوجود حرية بلا اكراه داخلي أو خارجي يجد نفسه في موقف لا وجود له في حياتنا الواقعية؟ فأرادتنا مقيدة بقيود لا يمكن الخلاص منها إذ لا يمكنها أن تقول للشيء كن فيكون لأنها لا تستطيع أن تنفلت خارج الحتميات وتتحدى قوانين الطبيعة والنفس.

كل ما تقدم من إيضاح حول القيود التي تحيط بالإنسان يضعنا أمام الإشكالية الكبرى المطروحة عن الحرية ألا وهي العلاقة بين الحرية والحتمية والجبرية والتي ستقودنا إلى فهم العلاقة بين الحرية والمسؤولية في شكلها النهائي الذي رسمه القرآن بين ثناياه.

 لا نريد الإطالة في شرح العلاقة المعقدة والمتشعبة بين الحرية والجبرية والحتمية وإلا خرج الموضوع عن أصل المراد ودخل مدخل آخر ويكفيك التفريق الواضح بين هذه المفاهيم ومردانا منها ومن يريد أن يطلب المزيد يراجع مضان هذه الأمور من مصادرها المتعددة.

 الجبرية والحتمية:

تقدم الحديث عن الحرية وعلاقتها بالمسؤولية وزيادة في الإيضاح نقدم شرحا مختصرا للجبرية وفرقها عن الحتمية.

الجبرية مذهب فلسفي يرى أن إرادة الإنسان العاقلة عاجزة عن تغيير قدره وأن كل ما يحدث للإنسان قد قدر عليه منذ الأزل فهو مسيّر لا مخيّر في كل تفاصيل حياته منذ ولادته حتى مماته. وهنا تختلف الجبرية عن الحتمية لأن الجبرية تضع ضرورة حدوث الأشياء على مبدأ متعالي مطلق هو (الله) يسيرها كما يشاء فهي إذن ضرورة متعالية لا يمكن معارضتها أو الوقوف بالضد منها. وحتى مذهب (وحدة الوجود) ليس فيه أي إنكار لهذا التعالي لأن اللّه عند أصحاب هذا المذهب هو الطبيعة وقوانينها والعالم وعلاقاته. وكل الأديان بدون استثناء ومعتقداتها الدينية تدور حول الإنسان باعتباره مركز الكون وسبب الخلق ولذلك تجد أنها جهدت في تحديد علاقة الله بالإنسان وبيان علة خلقه وسبب وجوده فصارت ثنائية (خالق ومخلوق) هي محور الوجود الدنيوي والأخروي علاقة بين خالق مطلق يمتلك العلم الكلي والإرادة الأزلية ومخلوق يمتلك أيضا فعل وإرادة فإذا أراد الله شيئا قال له كن فيكون فهل يستطيع الإنسان أن يريد ويفعل غير ما أراد الله؟ الجبريون يقولون الإنسان لا يستطيع أن يعارض إرادة الله وهو عاجز تماما عن ردها.

الحتمية:

الحتمية مذهب فلسفي يرى أن كل ما يحدث في الكون على الإطلاق بما في ذلك كلّ قرار وفعل بشري خاضع لقانون ما أو حادث ضمن علاقة سببية ما أو هو تسلسل صارم بين سبب ونتيجة يتلازمان تلازما منطقيا وقانونها يقول: (لكل حادث سبب) لكنها لا تعلق ذلك على كائن مطلق (الله) بل ترى أن لكل حادث هناك سبب أو مجموعة أسباب ضرورية وكافية - لا علاقة لها بأي كائن مفارق للطبيعة- تفسر سبب حدوثه وفي حالة عدم وجود تفسير مكتمل يعتقد أصحاب النظرية أن جملة من الأسباب لازالت في حيز المجهول وهذا يعني أن في الفلسفة الحتمية ليس هناك وجود للصدفة.

والخلاصة الجبرية هي المذهب الذي يرادف بين قوانين الكون والقضاء والقدر فلا يبقي للإرادة الإنسانية أي فرصة للفعل. والحتمية تقول بسلسة من القوانين يتلو بعضها بعضا ويسبب بعضاها بعضا في دورة أزلية لا تنتهي.

نفي الحرية واستقلال الانسان في القرآن

القدر والقضاء:

يظن الكثير متوهما أن القضاء يسبق القدر وشاعت على الألسن عبارة (القضاء والقدر) خطأ والحقيقة أن القدر سابق للقضاء سبقا منطقيا وزمانيا وإليك الدليل من القرآن نفسه يقول القرآن في سورة سبأ (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ. (14سبأ).

لاحظ قال قضينا ولم يقل قدرنا لماذا؟ لأن الموت قدر الجميع منذ الأزل مقدر على سليمان وغيره والقضاء هو إمضاء للقدر وتنفيذ له فالمشيئة الإلهية قدرت قدرا عام هو ("إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ") (30 الزمر). والقضاء هو لحظة وقوع الموت وتنفيذه في الزمن الجاري ولذلك تسمى المحاكم بدور القضاء لأنها تنفذ الحكم المسن قبل وقوع الجريمة فقانون (القاتل يقتل) سابق منطقيا وزمانيا على تنفيذ حكم القتل بالقاتل. ف(القاتل يقتل) قدر وتنفيذ الحكم هو القضاء.

ومن القدر نستنتج أن القرآن ينفي بشكل قطعي استقلال إرادة الاِنسان في سلوكه عن قدر الله وفي هذا جبرية صريحة وواضحة فالأقدار بيد الله وتغييرها بيد الله.

الآيات الجبرية:

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) الأحزاب / 72.

الآية تعني أننا خيرنا بين خلافة الأرض –على اختلاف المفسرين في مفهوم الأمانة فلقد شرقوا وغربوا ولم يتفقوا على قول لحد الآن- وحرية الاختيار وعليه لم نوفق لاختيار الأنسب لنا؟ وهل صحيح أن الأمانة عرضت علينا قبل أن نوجد ثم بعد أن أتينا إلى الوجود محي ذلك من ذاكرتنا؟ هل يعني ذلك أنني سئلت ذلك وأجبت بنعم قبل أن أوجد في هذه الحياة؟

فان قلت: "ما بال الحكيم العليم حمل على هذا المخلوق الظلوم الجهول حملا لا يتحمله لثقله وعظم خطره السماوات والأرض والجبال على عظمتها وشدتها وقوتها وهو يعلم أنه أضعف من أن يطيق حمله وانما حمله على قبولها ظلمه وجهله وأجرأه عليه غروره وغفلته عن عواقب الأمور فما تحميله الأمانة باستدعائه لها ظلما وجهلا الا كتقليد مجنون ولاية عامة يأبى قبولها العقلاء ويشفقون منها يستدعيها المجنون لفساد عقله وعدم استقامة فكره". (تفسير الميزان، السيد الطباطبائي ،ج ١٦، الصفحة ٣٤٩)

ـ (قُلْ لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً إلاّ ما شاء الله) (يونس 10: 49).

ـ (وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بإذن الله) (يونس 10: 100).

ـ (ولو شاء الله ما فعلوه) (الاَنعام 6: 137).

ـ (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكنّ الله يفعل ما يُريد) (البقرة 2: 253).

ـ (وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله إنّ الله كان عليماً حكيماً) (الاِنسان 76: 30).

ـ (وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله ربُّ العالمين) (التكوير 81: 29).

ـ (ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعل ذلك غداً * إلاّ أن يشاء الله...) (الكهف 18: 23 ـ 24).

 هذه أمثلة وهي غيض من فيض ومن أراد فليراجع القرآن يجد العجب العجاب.

والآن أين حرية الإرادة وفعلها؟ الإرادة فعلها هو(أريد) و(لا أريد) فاذا كان كل فعل بإرادة الله ومشيئته وتحيط بنا الحتميات والجبريات من كل جانب وصوب أين هي الحرية لنؤسس عليها المسؤولية؟

للحديث بقية.

 

سليم جواد الفهد.

 

في المثقف اليوم