قضايا

ملاحظات إيمانية.. تجربة ورؤية

احمد راضي الشمريإن ما أقصده من ملاحظات إيمانية هو مراقباتي الذاتية وإنعكاساتي الفردية النفسية على تجربتي كوني إنسانا متدينا عشت وتربيت في بيئة دينية وكنت أرى وأتطلع إلى معظم أبعاد العالم/الكون، إن لم يكن كله، من خلال نظارات هذه البيئة. ومن هنا فقد تجانب مقالتي الموضوعية شيئا ما وربما تنحدر الى وديان الذاتية أحياناً. ومن بعض هذه الملاحظات كان الآتي:

أولاً:  إن من عاش أو تربى أو تعلم في بيئة دينية أو في عائلة دينية، بإعتباره فرداً/عضواً من هذا الكيان، فإن عقله غالبا مايتركب بطريقه يكون فيها التعامل مع المعلومة، وخصوصا منظومة التشريعات التي تشمل كل الأفعال والنواهي، يكون فاقدا للحرية؛ حرية الأخذ وحرية الرد أو الرفض. فيصبح تلقي ألاحكام الفقهية، وماسواها من العادات الدينية التي لها قوة إجتماعية، يصبح أمراً مفروضاً مفروغاً منه إذ لا محل فيه لنقاش أو جدال. فليس للمشاعر الإنسانية أو الأحاسيس العاطفية فسحة تناقش من خلالها أثار هذه المنظومة عليها وفوائدها المرجوة لها. كما إن ليس للواقع المعاش وتعقيداته ومتغيراته من حساب في آثار تلك المنظومة أيضاً. فالأحكام هي الأحكام كما فُهمت وليس للواقع أن يردها أو يرفضها حتى لو أن اضرار تلك الأحكام كانت ظاهرة للعيان وغير مقبولة من غالبية المجتمع. وبذلك يصبح الهدف من الدين والتعبد الأيماني ليس هو تحقيق المصلحة الإنسانية الاجتماعية أو تحقيق سعادة الفرد، بل يصبح الهدف المفرد والأسمى والأوحد هو السير تحت ظلال هذه المنظومة وتطبيقها بحذافيرها ما استطاع الفرد إلى ذلك سبيلاً. وذلك بغض النظر عن نتائجها حتى ولو كانت بلا فائدة أو كانت سلبية في أحيان كثيرة. بل إن بعض نتائجها السلبية قد يصنف "روحانياً" ضمن دائرة الصبر والتحمل للبلاء وضمن دائرة البلاء والفتنة والإختبار الالهي، وقد يفقد الانسان في هذا الإطار نفسه وهو يتحمل الأذى ويصبر عليه. ولا عجب أن يَرِدَ تعليق على هذه الفقرة الآنفة بالشكل التالي: وما قيمة حياة الإنسان وهو في صبر وتحمل من أجل الله؟ والجواب ليس بيد أحد انما بيد من وقع في بطن المآساة والمشكلة، فهل كان ذلك بإختياره ورضاه؟ أم إنه كان مفروضا عليه؟ مفروضاً عليه بإعتباره جزءاً لاينفك من واقع يعيش تحت تأثير منظومة تسير كما تسير الماكنة الحادلة على الرمل من أجل تسويته فهي لا تسمع صراخ الحصى.

ثانياً: إن الدين، كما يفهمه المؤمنون، بإعتباره منتج سماوي ومنهج تام ومتكامل يراد منه صلاح المجتمعات، لابد ان يمتلك نظرة متكاملة لكل زوايا المجتمع وأن يحيط بكل أبعاده. فالمجتمعات فيها سياسة وإقتصاد وأخلاق وبطالة وفقر وروحانيات ومعنويات وعلاقات عامة الخ . إن أي تشريع سماوي، يُعتقد بكونه شاملا  كاملا، لا بد أن يأخذ بنظره كل هذه الأشياء حين فرض التشريعات وحين تطبيقها. فلماذا يتوجب على المؤمنين الإعتقاد بان التشريعات تأتي مفصلة على قياس واحد ينطبق على الجميع من الشرق الى الغرب ومن الأزل الى الأزل؟ ولماذا ينبغي التصديق بأن  فهمها يكون فهما جامداً غير متحرك مع متحركات المجتمعات آنفة الذكر؟  إن المرونة اساس لاستمرار التشريعات، الدينية وغير الدينية، و إثبات قدرتها على التكيف مع المتغيرات، وبدون المرونة تفقد التشريعات قابليتها على الحياة وتتكسر كما تتكسر الاغصان اليابسة. وهذا ما قد يفسر عزوف شرائح كبيرة من الجيل المعاصر عن الإسلام وانتشار الإلحاد في العالم العربي، المؤمن بطبيعته على مر العصور.

ثالثاً: يَفترضُ كثيرٌ من المؤمنين ان علاقة الله بعباده أو بالخلق أو بالمؤمنين أو بالناس عامة هي علاقة فوقية وتتصف دائما بالعلو والتعالي والفوقية. وفي حين انها تتصف احيانا بهذه الأوصاف،  الا انها ليست كذلك في كل الاحيان؛ فالله قد يكون صديقا او رفيقا او انيسا او حبيبا او كل ذلك او بعضه في آن واحد. وهذا المعنى موجود في أدبيات الأخلاق الدينية وخصوصاً عند الامتحانات والبلائات والشدائد حيث يتصف الله بكل هذه الصفات حسب الظروف، الا انه يغيب عن أذهان المؤمنين حين تطبيق التشريعات فيصبح الله قاضيا فحسب. ومن هنا فإن التشريعات وإن كانت طبيعتها عمودية فوقية، الا إن واضعها لابد ان يكون فاهماً للعلاقات الأفقية مع خلقه وعباده و يدرك خصوصياتها وخصوصياتهم. لذلك انا اعتقد ان كل التشريعات الدينية المفروضة ينبغي ان تحتوي على جنبات انسانية تراعي مشاعر الانسان واحاسيسه، خصوصا في العبادات الفردية وتحاول ان تمنحه الخيار حيثما وجد مجال لذلك. كما ان تلك التشريعات لا بد لها ان تهدف ايضا الى الحرص على استقرار الانسان نفسيا وسعادته جسديا وروحيا عن طريق عدم سلب الخيار منه وجعله مسلوب الارادة، و بإشعاره بسيطرته على نفسه وقراراته في أمور كثيرة.

رابعا: يعيشُ كثيرٌ من المؤمنين تحت الإعتقاد السائد بأن كل التشريعات الدينية/الاسلامية لها طابع إالزامي وهي فرض إجباري يستلزم تركه العقوبة، سواء كانت عقوبة عينية أو من نوع آخر.  كما انهم يخلطون بين التشريعات العامة، التي تؤثر في المجتمع ككل، وبين تشريعات اخرى تخص العبادات الفردية. ومن تلك التشريعات مثلا الصيام او إرتداء الحجاب أو الحج أو الصلاة. ولا أعلم حقيقة ماهو الفرق بين التشريعات الإلزامية عما سواها من التشريعات الاخرى (الاختيارية او الاستحبابية)، الا ان الفرق بينهما قد يتحدد بالعقوبة المخصصة؛ فما كان تركه او فعله يستوجب العقوبة فقد يبدو انه الزامي او اجباري، اما مالم تخصص له او تذكر له عقوبة فهو لا يبدو الزاميا ولا يرى له ضرر اجتماعي مباشر او غير مباشر. ومن هنا فإن للمؤمن الحرية الكاملة في فعله أو تركه وهذا الامر لن يسلب عنه صفة الايمان.هذا بالإضافة الى أن هناك خلطا واسعا وكبيرا وشاملا لمعاني كثيرة في القرآن تتعلق بالمنظومة التشريعية والاحكام الفقهية. ففي حين نجد أن القرآن يستخدم عبارات والفاظا مختلفة متباينة ومتشابهة من آياته في اماكن متعددة وظروف متنوعة، لا نرى إن المنظومة التشريعية تقيم لهذا التنوع والإختلاف في الالفاظ والتعابير أي وزن يذكر. فالمؤمن لايعلم، وإن المنظومة لاتكترث بأن تبين، ما هو الفرق بين :كُتِبَ عليكم وبين فَرَضَ وبين عبارات مثل إجتنبوا، لا تقربوا، يُحذركم، ينهاكم الخ. فكل هذا الأوامر والنواهي تمتلك نفس القوة من الفرض وليس فيها أي مفهوم للخيار الشخصي بالأخذ او الرفض. نعم قد تختلف فيها العقوبات فتكون شديدة في مواضع وأخف في مواضع أخرى، إلا انها تتميز جميعا بكونها فرضا على الأتباع وليس لهم بأن يعتقدوا أن رفض بعضها قد يندرج ضمن الحريات الشخصية، المسموح به دينيا، وبأنهم عندما يرفضونها فإنهم لن يفقدوا العلاقة الأيمانية مع الله وإنهم سيكونون مسؤولين عن تحمل نتائج أفعالهم.

 

أحمد راضي الشمري

 

في المثقف اليوم