قضايا

كيف عرت كورونا المجتمعات الرأسمالية؟

محمود محمد عليعرف التاريخ أحداثاً مفصلية غيرت مجراه، معارك طاحنة، ملاحم بطولية، أفكار إبداعية، اختراعات مذهلة وأناس عظام... لكننا اليوم نتحدث عن ميكروبات طُبعت في ذاكرة التاريخ، وصنعت لنفسها مكاناً في صفحات كتب التاريخ والطب على حدٍ سواء.. حولت النصر إلى هزيمة، الغنى والرفاهية إلى فقر وعنت وفي أوقات أخرى إلى العكس تماماً.. ومن انتاج وازدهار إلى عجز واندثار.

عجباً لتقلبات الزمن فمن يصدق أن أوربا والمجتمع الغربي، والذي شهد في القرن 18 عصر الحداثة، والذي استطاع أن يطرح مركزية الإنسان علي كوكب الأرض، واحترام الإنسان لأخيه الإنسان، بل إن البعض أدخل في هذا الأمر مناحي دينية غير مقبولة، لتبرز تعظيم الإنسان في عصر الحداثة.. ثم فوجئنا بعد عصر الحداثة بوجود صواريخ عابرة القارات، وبعيدة المدي، ومتوسطة، بل فوجئنا أكثر وأكثر باكتشاف الأمريكان والسوفييت لقنابل نووية، ثم توصلوهم إلي اكتشاف سلاح كيماوي، ثم سلاح بيولوجي، ثم فوجئنا بوصولهم إلي كوكب المريخ وكوكب الزهرة، بل وصلوا إلي مجموعة شمسية أخري، ومخلوقات فضائية، ثم تضع أمريكا أكثر من 20 مليار لوكالة ناسا .

كل هذا الانجاز في العلم حتي وجدنا أن كورونا تكشف وتفضح كل ذلك ؛ خاصة عندما وجدنا السياسيون يقولون "ودعوا أحبابابكم، وأنه لا توجد سراير، ولا نظم صحية، ولا أجهزة تنفس اصطناعي، ولا كمامات"..  والسؤال هنا : كيف أن الأموال الطائلة التي انفقت في الصواريخ، وسلاح نووي، وسلاح كيماوي، وبيولوجي، والوصول إلي المريخ، كل هذا وتعجز الولايات المتحدة الأمريكية عن كمامات، وكما قال أحد الكتاب عندما نشاهد الأفلام الأمريكية نتوقع لو أنه هناك غزو فضائي للمرخ، فإن الولايات المتحدة سترد علي الفور. الآن جزء كبير من الهيبة الأمريكية تراجع .. لماذا!.. لأن أيقونات أمريكا اهتزت .. جامعة هارفارد أيقونة أمريكية للأسف رئيس جامعة هارفادر أصيب بفيروس كورونا .. نيويورك أيقونة مدن العالم هي الأكثر وباءً الأن .. حاملة الطائرات فخر البحرية الأمريكية الآن مصابة .. إذن الأيقونات الأمريكية سقطت تحت عرش كورونا .. الكل يهتز، حتي حلف الناتو لأول مرة من 70 عاما يجتمع عبر الفيديو كونفرانس والفيديو.

كورونا أثبتت أن التاريخ الحديث والمعاصر هش وقابل للكسر، والانحناء نتيجة تأثير عوامل ومؤثرات عديدة ومتداخلة من ضمنها الأمراض والأوبئة والعدوى؛ ففي التاريخ الإنساني كم من بلاء ووباء أفرز تغييراً في موازين القوى السياسية، وأسقط إمبراطوريات عتيقة، وأقام ممالك جديدة. بل الأعجب من ذلك، كم (محنة) أمراض معدية شنيعة أثمرت (منحة) عظيمة وخير كثير في تطوير مهنة الطب مثلاً، أو تغيير أساليب التجارة، أو حتى التأثير على جودة الأعمال الأدبية والفنية والمعمارية.. إن الجراثيم الممرضة والميكروبات المعدية شيء مخيف، ولهذا لم تفلح محاولة عالِم الجراثيم الفرنسي المعروف "لويس باستور" في تلطيف الشعور السلبي نحوها، عندما قال (ليست الجراثيم هي من نحتاج أن نقلق منها ولكن ضميرنا الداخلي). التاريخ الإنساني مثخن بكوارث الأوبئة المميتة التي تسببت في زوال إمبراطوريات وممالك كانت يوماً ما مسيطرة ومزدهرة.

لقد فرض كورونا على النظم السياسية المختلفة امتحاناً مفاجئاً خرجت منه الديمقراطية منحنية الرأس، راسبة.. لم تستطع الولايات المتحدة بقدراتها العلمية، ونظمها الصحية، وأبحاثها الطبية، أن تواجه الوباء دون أن تفرض إجراءات توصف بالديكتاتورية لو طبقت من قبل لخرج الأمريكيون جميعاً إلى الشوارع غاضبين رافضين غير مصدقين.. لجأ الرئيس الأمريكى ترامب إلى قانون الإنتاج الدفاعى الذى يمنحه سلطات استثنائية تسمح لحكومته بتغيير السلع التى تنتجها المصانع، وتأميم الشركات ووضع إمكانياتها تحت سيطرة الحكومة الفيدرالية. ونسيت أوروبا مهبط الديمقراطية وقيم الحرية والمساواة والحقوق الإنسانية، وحرمت كبار السن من العلاج فى المستشفيات، وتركتهم يموتون فى أماكنهم.. وتذكرت بعض الدول الرأسمالية (مثل إسبانيا) جينات أجدادها القراصنة واستولت على شحنات طبية لم تكن لها وبعد أن هدد رئيس الفلبين بإلقاء تجار المخدرات من الجو، قرر إطلاق النار على كل من يخالف الحظر.. والمؤكد أن مزاج الشعوب تعكر وتغير، مما يعنى تغير اتجاهات التصويت فى الانتخابات المقبلة. وفى الوقت نفسه نجحت الصين التى لا تزال تؤمن بديكتاتورية البوليتاريا (الطبقة العاملة) فى تحجيم الأزمة وتحملت آثارها الاقتصادية.. لم تطرد الصين عاملاً واحداً، بينما خسر خمسة ملايين عامل فى الغرب وظائفهم حتى الآن، وثبت أن نظام إعانة البطالة لا يفى باحتياجاتهم، وذلك حسب قول عادل حمودة في مقاله بصحيفة الفجر المصرية بعنوان "الكورونوفوبيا".

كورونا الفايروس الذي لن ينساه الأحياء، وسوف يسجل في صفحات التاريخ كحرب عالمية ثالثة، ليس بها دول المحور والحلفاء، كل العالم تحالف لصد حرب كائن ميت لا يريد إلا الوصول إلى خنق (الشهيق والزفير) وليس لديه أفضلية في قطف الأنفس، يعامل ضحاياه بالتساوي، لا تعنيه الرتب، ينخر أي رئة تصادفه.. ومن مميزات هذه الحرب، تعرية دول عظيمة (قبل مجيئه)، حتى إذا أدام المكوث في جغرافية الدولة العظمى، برهن أن الستار الذي تقف خلفه، ستار من كرتون.. كان مروره - وما زال- العاصف، على جميع دول العالم، محل حيرة وارتباك، فطارت الألباب واحتار الجميع، ولأنها حرب عالمية، لا تزال كل دولة تحاربه من خندقها.. ولأنها حرب حقيقية: إما أن تنتصر، وإما التحفز، لدفن مواطنيك في قبور جماعية، أو منفردة، فالخسارة هي ذاتها في ظل تعرية النظام الصحي لتلك الدول.. وقد أجاد فايروس كورونا تنبيه الشعوب لما هي عليه دولهم، فالأخطار الجسيمة تفرز القوى الحضارية المتقدمة دون سواها، وتكشف مقدار استعداد الدولة في إدارة الأزمة الطارئة من خلال جميع أجهزتها، وتناسق الخطوات بين تلك الأجهزة، بحيث يكمل كل منهم الآخر.. ولأننا ما زلنا في هذه الحرب العالمية، أبصارنا معلقة بقنوات فضائية تنقل -في كل لحظة- أخبار هذه الحرب، وما يحدثه الفايروس من خسائر في الأرواح، وفي المنظومة الصحية، وفي الاقتصاد، ويكشف أيضاً وعي المواطنين بالالتزام بما تسنه الدولة من قوانين وأنظمة لمواجهة عدو شرس.. كما أن كورونا كشف أنواعاً مختلفة من الوعي الذي تحول الفرد فيها إلى جندي، لا تريد منه الدولة سوى المكوث داخل البيت، لكي تفوت على الفايروس تسجيل نقاط انتصار على الدول، وذلك حسب قول عبده خال في مقاله بعنوان حرب عالمية ثالثة.. من يفوز ؟..

كما كشفت كورونا أن للعولمة سلبياتها فنرى أن مناطق من العالم تعيش مستوى مرتفع من الرخاء والرعاية الصحية، في حين أن مناطق أخرى من العالم تعاني الفقر والتهميش، وتصبح مناطقهم تربة خصبة لتكاثر الفيروسات، ونشأة الاوبئة، ويتنقل البشر وسفرهم إلى باقي دول العالم تنتقل معهم الأوبئة، وتصل إلى البلدان الغنية التي تتمتع برعاية صحية متقدمة، وهكذا يستغل الفيروس، ويستفيد هو الآخر من حرية الحركة، والسفر بين الدول، كإحدى ميزات العولمة... "كورونا" الذي لا تتجاوز نسبة الوفاة بين مصابيه 2 %،  يشبه كلّ ألاعيب العصر من الهجمات السيبرانية، إلى حرب السوشال ميديا وخطاب الكراهية المفتعل، إلى اقتصاد الشبكات والتجارة الإلكترونية.

من المفارقات التى كشفها فيروس كورونا المستجد، أن تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات بعد التوقف الاجبارى، أصبحوا مستعدين وقادرين ومتعاونين مع التكنولوجيا، ومثلما خففت مؤسسات كثيرة الحضور لموظفيها ونجحت فى تنفيذ العمل من المنزل، نجحت خطوات التعليم عن بعد، وظهرت حلول كثيرة للدروس والمحاضرات «أون لاين»، وأصبحت تطبيقات «فيس بوك»، ويوتيوب قادرة على نقل العملية التعليمية، وليس فقط للدردشة، والنميمة، والكوميكس الذى يسخر من تطوير التعليم. وبدا أن ما كان الكثيرون يقاوموه ويهاجموه ممكناً وقابلاً للتطبيق. وفى ظل تهديد كورونا تقبل المجتمع ما كان يقاومه مختاراً، وذلك حسب قول أكرم القصاص في مقاله باليوم السابع مفارقات كورونا.. التعليم عن بعد انتصار لمشروع طارق شوقى.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

 

في المثقف اليوم