قضايا

هكذا فهمت الرسول محمد في القرآن (1)

نحن كمسلمين لا نرى في الذات الآلهية الا كنه يصعب أدراكها، وهي ذات لايمكن لقدرة الأنسان أن تستوعبها، لا من حيث الجوهر، ولا من حيث القدرة (ليس كمثله شي...)(الشورى:11)، وهنا نذكر رأي للفيلسوف الألماني كانط رأيه في مسألة الله ومدى أمكانية العقل في أدراكه فأشار الى أن العقل يسبك التجربة وينظمها في أطار الزمان والمكان وينظمها وفق مقولاته. لكنه لا يستطيع تجاوز الظواهر والمحسوسات. فالعقل مسوق الى التصور بأن وراء كل حد شيئاً أبعد منه، وهكذا الى مالا نهاية،  ومع ذلك فأن اللانهاية في حد ذاتها شي لايمكن أدراكه. محصلة ذلك أن العقل مصمم ألهياً للتعامل مع الطبيعة ومحسوساتها فقط، ولابد من ترك أمور ماوراء الطبيعة (الميتافيزيقا) للقلب والشعور الذين هما أسبق من العقل. هذا رأي كانط في محدودية العقل في أدراك الخالق، مما حول أمره الى الشعور والقلب ليلتقط نفحاته وتلمس وجوده، والسبب يرجع الى أختلاف الطبيعة الأنسانية عن الطبيعة الألهية فالذات الألهية والذات الآنسانية ذات طبيعتين ذاتيتين مختلفتين يمتنع التواصل بينهما، ولكن حتمية التواصل بين الخالق والمخلوق، أختار الله وسيلة النبوة، والتي أمن لها وسيلة الوحي، وهذا ما جعل لوجود الوسيط بينهم أمر ضروري للتواصل والتخاطب بين المخاطِب والمخاطَب، بين الآمر والمأمور، وهذه ضرورة حتمية، لأن الخالق لم يترك مخلوقه سدى، فكما جعل الله للقوانين الطبيعية مرشداً للطبيعة ينظم أمرها بها، فلابد من أن يجعل للأنسان كمخلوق لخالق أن يجعل له نظام من نوع آخر يتناسب وطبيعته العقلية، وما يملكه من أرادة حرة، فما كان الا أن يكون هناك رسول من طبيعة هؤلاء المخلوقين (لقد مَنٌ الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسول من أنفسهم يتلو عليهم آياته)(ال عمران:164). أذن تقتضي الضرورة أن تكون حلقة الوصل من نوع الأنسان فتجتمع أدوات المعرفة، وهي العقل والقلب والرسول ۞ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(الشورى:51)

فهذه الأدوات الثلاثة مجتمعة تكمل بعضها بعضاً لتأمين التواصل مع الذات الألهية، لأيصال خارطة طريق للأنسان، وهو الكائن الذي سيتخذ من الأرض مسرحاً حياتياً له.

قد يسأل سائل، ماضرورة الرسول والرسالة للأنسان، فلماذا لا يدعه الخالق ونفسه، هنا نحن نسأل، هل الشركات المصنعة للأجهزة بكل أنواعها وأشكالها، وخاصة المنتجات البالغة التعقيد أن تكون بدون مندوب بيع وتسويق وأرشاد للمستهلك والمشتري لها؟!، كما هل من المعقول أن تسوق منتوجاتها بدون أرشادات وتعليمات في كيفية الأستعمال الصحيح؟!، أي ما يٌسمى بال(كتلوك)، فأكيد الشركة التي لا تزود منتجاتها بهذه الأشياء تُعتبر شركة غير رصينة، ولا يمكن الركون أليها، فهذه المستلزمات تكفل الأستخدام الحسن لها، وتجنب الوقوع بالضرر، كما من مستلزمات التسويق الناجح لهذه المنتجات، أن يكون هناك مندوب تسويق لهذه المنتجات التابعة لهذة الشركة، يشرح للمستهلك تعليمات التشغيل الصحيح، وكيفية تجنب الوقوع بالخطأ، وهنا يكون المندوب هو رسول الشركة والشارح عن منتجاتها. السؤال الذي يطرح نفسة، وهو هل من المعقول أن تهتم شركة وترعى مستهلكي منتجاتها؟!، ولا يرعى الله مخلوقاته مع الفارق الكبير بين أنتاج منتوجات مادية وبين خلق الأنسان سيد الكاىنات، هذا الأنسان الذي هو خليفة الله بالأرض، وهو مقام ومسؤولية تتطلب تأهيله لها بأحسن مايمكن من ناحية التكوين وكذلك التوجية والتعليم (علم الأنسان مالم يعلم)(العلق)، وهكذا يكون الرسول محمد (ص) بوصفه مندوب الله الى خلقه، حيث هو حلقة الوصل بين صاحب الخطاب والمخاطب، فهو ليس أكثر من ناقل للخطاب ومبلغ له (وما على الرسول الا البلاغ المبين)(النور:54)، ومن خلال هذه الآية تتضح مهمة الرسول (ص) وتتحدد وظيفته من قِبل الذات الألهية بمهمة التبليغ، وأكيد للتبليغ أدواته التي ينبغي عليه القيام بها، كما أن وظيفة التبليغ يُختار لها شخص على قدر أهمية ووزن الرسالة التي يحملها، وخاصة أذا كانت بمقام عالي من التقديس، وهذا ما حتم على صاحب المهمة أن يتصف بالثقة والأمانة والذكاء، والشعور العالي بالمسؤولية، وأن يتمتع بقدرات وطاقات تستوفي المهمة الملقات على عاتقه، فالله هو المشرع، والرسول هو المشرع اليه، أذن مسألة التشريع مناطة بالذات الألهية، وهو من يختص بها حصراً، وما على الرسول الا البلاغ المبين، أي لا حق له بالتشريع، والآية واضحة في هذا الأمر (ليس لك من الأمر شي) (آل عمران-128)، فمنطوق الآية تمنع الرسول من أن يضيف أو يحذف شيء مما كُلف بتبليغه، بل ويحذره من حتى تأخير التبليغ (بلغ ما أُنزل اليك من ربك وأن لم تفعل فما بلغت رسالته)، فهو ليس مطلق الحرية، بل محكوم بأوامر مشددة، وهذه العملية تحتاج الى مصداقية عالية، بحيث ينسى المكلف في نقل الرسالة حتى  ذاتيته، لكي ينقلها بحذافيرها، والى شخصية غاية بالألتزام العملي والأدبي، وهذا ما جعل الله أن يختار محمد بن عبد الله (ص) لهذه المهمة الخطيرة لما يتمتع به من تلكم الصفات التي تأهله لذلك، وقد وصفه الله نظراً لأمتلاكه لهذه الصفات ( وأنك لعى خلق عظيم)(القلم:4)، أنها عملية نقل لأمانة عظيمة، وهي نقل الرسالة المعدة للبشرية، ولكل الأجيال وعبر العصور والأزمان، وهذا التخطي للبعدين الزماني والمكان هو ما جعل الرسالة خاصة بخالق الأنسان، لأن الذات الألهية، هي الوحيد القادرة على تخطي هذين البُعدين، وهي القادرة الوحيدة بمعرفة كينونة الأنسان بحقيقتها المطلقة، لذلك حصر الله الأمر به، ولا يتعداه الى غيره، وهذا ماتوضحه الآية الكريمة (ماينطق عن الهوى أن هو الا وحي يُوحى)(النجم:3، 4).

هذا البحث يركز على أنسانية الرسول (ص)، والذي سوف يتخذ من القرآن كمصدر وحيد للتعرف على شخصيتة وصفاته وأمكانيته كبشر يحمل مهام أبلاغ وتبشير لرسالة سماوية، وقد أعتمدنا في كشف هذه الصفات، على القرآن الكريم، كتاب الله، المصدر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي لا يمكن التشكيك في سلامة نصوصة من الأضافة والطرح، وهو النص الذي حمله رسول الله للناس، فعندما يكون الله هو الواصف لنبيه يكون هنا هو فصل الخطاب، ومادام الميزان الألهي هو من يوزنه، فلاينبغي أن نَزنه بميزان غيره، فلامقارنة نجريها بين الله الذي أنتخبه نبياً، وأميناً لرسالته، وبين غيره من البشر لأعتبارات كثيرة.، المهم في بحثنا أن أختيار الله له كرسول لا يخرجه عن كونه بشر، ولا يعطية أمكانات تخرجه عن دائرة باقي البشر، وأنه لا يختلف عن غيره من البشر في الأمكانيات الذاتية، ولا يتميز عليهم بقدرات خارقة، خارج قدرات البشر، ولا يتميز بصفات تجعل منه فوق البشر (أنما أنا بشر مثلكم يوحى الي....) (الكهف:110)، وهناك حديث نبوي يؤكد هذا المعنى، عن أم سلمه (أن رسول الله (ص) – سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج اليهم فقال: "ألا انما أنا بشر مثلكم، وانما يأتيني الخصم، فعل بعضكهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فأنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها). هذه الآية، وهذا الحديث النبوي تعني بشكل واضح ان الرسول هو أنسان بكل ماتعني الكلمة من معنى، وان لا خوارق ولا أسطرة في سلوك الرسول (ص)، وأن الرسالة يكون المخاطبين بها على مقدار سعة أستيعابهم. عن أبن عباس عن النبي قال (نحن معاشر الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم)، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسول من نوع المُرسل أليهم، وغاية ذلك بأن ما أرسله لهم يقع ضمن قدراتهم، وسعة أمكانياتهم، وأنه يمكن أن يكون نموذج عملي لغيره من بني البشر، لأن الله سبحانه وتعالى ليس من المنطقي أن يرسل لهم رسول ونموذج أيماني خارج نطاق قدراتهم، وبالتالي لا يمكن أن يكون عليهم حجة بأعتباره ذو قدرات خارجة عن المالوف، فشخصية الرسول (ص) لم تخرج تكوينياً ولا نفسياً عن مألوف البشر، فهو يأكل، ويشرب، وينام، ويتزوج النساء، ويتعب ويمرض ويفرح وينزعج (عبس وتولى...)(عبس:1).

وظيفة الرسول محمد (ص):

لاشك أن وظيفة الرسول (ص) واضحة ومحددة، وقد أفصح عنها القرآن بالآية (فهل على الرسول الاالبلاغ المبين) (النحل:35) (ما على الرسول الا البلاغ...)(المائدة:99)، والا هنا جاءت كصيغة استثناء، وتكون مسبوقة بكلام مثبت، ويُخاطبه الله ب (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك...)(المائدة: 67)، وأن النبي محمد (ص) يقر على لسان القرآن بأنه لا يتبع أحد ولا حتى نفسه الا ما أمره الله به (ان أتبع الا ما يوحى اليَّ) (يونس:15)، وهذا دليل واضح على العلاقة التشريعية التي مرجعها الله، والوظيفة التبليغية التي يقوم بها رسول الله محمد (ص)، كما أنه ينفي أي علم الا ماعلمه الله به، وفي حديث للرسول (ص)(واني والله ما أعلم الا ما علمني الله). فمصدر العلم الذي يبلغه للناس والمتمثل بالشريعة هو علم ألهي المصدر، وليس هناك ما أضيفه من عندياتي، فأنا لا أعدو أكثر من ناقل ومبلغ لهذه الرسالة التي كلفني الله بمهمة النقل وشرف التبليغ بها، وقد وضح ذلك ابن حيان الأندلسي في تفسيره الكبير المسمى بالبحر المحيط، حيث ينقل عن الرسول (انما أنا متبع ما أوحى الله تعالى غير شارع شيئاً من جهتي ولا أعلم ماوراء هذا الجدار الا أن يعلمني ربي)، وهذا يتضح بأن الرسول مقيد تماماً بقيد الوحي، وأن لا سلطان له في التشريع، وليس له الا الأمتثال والطاعة المطلقة لله، وخير دليل على ذلك، هو عندما سُئل عن معنى الكلالة، قال للسائل (هذا ما أُتيت، ولست أزيدك حتى أُزاد) (من أسلام القرآن الى أسلام الحديث ص23). يتبع

***

أياد الزهيري

في المثقف اليوم