قضايا

اخلاق الخوف واخلاق القناعة (2)

سليم جواد الفهدمن يحدد القيم؟

انتهينا في الورقة السابقة الى أن القيم هي التي تحدد السلوك فكيف ما كانت منظومتك القيمية ستكون منظومتك السلوكية لكن من يحدد القيَم؟

الكل يتفق على أن المجتمع – المجموعة البشرية + البيئة -هو المسؤول عن تحديد القيم وهو المسؤول أيضا عن تربية وتنشئة الأفراد بمنظومة قيمية هي في الواقع مجموعة من الأوامر والنواهي في شتى مجالات الحياة التي ستصير فيما بعد ضميرا للفرد داخل مجتمعه. وهنا يتبرعم سؤال هو: إذا كان الأفراد يعيشون في مجتمع واحد ويتلقون نفس التربية فمن أين ينتج الاختلاف في تفاوت سلوك الأفراد؟

والجواب: اولا: صحيح أن المجتمع يتسم بوحدة بشرية لكنه في الحقيقة منقسم الى طبقات وفئات ومؤسسات ومهن وأديان ومذاهب وطوائف حيث لكل طبقة تقاليدها الأخلاقية ولكل فئة قواعدها الاخلاقية ولكل مهنة أيضا أخلاقيتها.

ثانيا: إن قابليات الأفراد غير متماثلة حتى لو عاشوا في بيئة واحدة وتعلموا في مدرسة واحدة وتخرجوا من نفس الجامعة وحملوا نفس الشهادة في نفس التخصص لن يتماثلوا وهذه نتيجة حتمية بسبب اختلاف القابليات الفردية لكل فرد. فالإنسان يتكون ويتطور بما يضاف إليه من علم ومعرفة وتوجيه أخلاقي وقيمي كما أن ما يضاف لقابليات كل فرد من مهارات يكون بالضرورة مختلفاً عما يضاف لقابليات كل الآخرين ولذلك فإن النتيجة الحتمية هي اختلاف الشخصيات والمعارف والمهارات والمفهوم والتصورات والآراء والمواقف والمعالجات.

يقول الطبيب والفيلسوف أليكسيس كارليل الحائز على نوبل في الفسيولوجيا: "إن النشاط العقلي رهينٌ بالسيرورات الدماغية والوظائف العضوية الأخرى إنه يعطينا طبْعنا المتوحِّد إنه ما يجعلنا نحن حقٍّا وليس شخصًا آخر". بل حتى التوأمين المتطابقين في نفس البويضة ويمتلكان نفس التكوين الجيني يكون لكل واحد منهما شخصيته الخاصة به فالطباع النفسية هي بمثابة كاشف للتفرد فالناس يتميزون عن بعضهم البعض في الشكل والمضمون وليس هناك شخصين متشابهين تمام التشابه لأن هذا معناه نفي التفرد وبذلك تنعدم الكثرة الطبيعية. وكلما كانت الشخصية غنية كانت الفروقات الفردية كبير مما يجعل من المستحيل معرفة تكوين الفرد مسبقا وهذا ما دعى سارتر الى القول: أن الماهية في الإنسان تسبق وجوده على عكس كل الكائنات الأخرى.

ويقول المفكر السعودي إبراهيم البليهي : "ومادامت بنية الشخصية الذهنية بنية مركَّبة جدا فمن المستحيل تقديم تصنيف دقيق للكائنات الإنسانية ولكن للأسف الناس يجهلون هذه الحقيقة المهمة والعميقة عن أنفسهم وعن غيرهم فيسوء الفهم ويشتد التنافر من دون أن يعلموا بأن كلّا منهم مرتهنٌ بمعايير وقوالب وأنماط ونماذج تختلف عن معايير وقوالب ونماذج كل الآخرين".(1) فالإنسان بطبيعة تكوينه العقلي يقع أحيانا فيما يسمى "الجهل المركب" وهو أن يجهل الإنسان أنه جاهل أي لا يعلم أنه لا يعلم أي لا يعرف جهله وهذا هو قمة الجهل فيبادر في أغلب الأحيان لرفض وتسفيه مالا يتفق مع الأنماط التي تشكَّل بها عقله ووجدانه وهذه معضلة كبرى لم تنل اهتمامًا يتناسب مع نتائجها المدمرة وليس ذلك محصورًا في الفروق والحواجز بين الأفراد بل إن المعضلة تتعقد ويشتد ضررها ويعظُم خطرها في التعامل والعلاقات بين الأمم بل حتى بين المذاهب والطوائف والجماعات والاتجاهات المختلفة داخل الأمة الواحدة أو المجتمع الواحد لذلك تُحَتِّم المصلحة البشرية أن تكون معرفة أساسيات الطبيعة البشرية هي أهم ما يجب أن يتعلمه كل الأفراد في كل مراحل أعمارهم في كل المجتمعات.

تفكيك أخلاق الخوف الدينية

تقوم أخلاق الخوف الدينية على أساس:

أن الله هو صاحب المعرفة المطلقة للحكم على ما هو خير وما هو شر بحيث يتعين على الإنسان أن يحتكم الى الله مقرا بالجهل المطلق وبالعجز التام بمعنى أنه يجعل الأخلاق في النهاية هي طاعة الله وتنفيذ وصاياه- وهذا هو في الواقع الدين الموروث للفرد-أو أحكامه وهذا يعني أن أساس الأخلاق الدينية هو الإيمان. والإيمان الديني هنا يعني نسبة المعرفة كلها الى الله مما يجرد الإنسان من أي معرفة أخلاقية وعلى هذا الأساس تجب طاعة الله والتسليم له مطلقا.

فالله يريد طاعة الإنسان له مقابل ضمان بأن تكون نتيجة سلوك الإنسان وأفعاله نتيجة خيرة. وغاية الخير في هذه المعادلة ليست غاية الخير الذي يفعله الإنسان من أجل الإنسان الآخر وإنما الغاية النهائية للخير في المفهوم الديني للأخلاق هي (الأنا) ذاتها فأنا أفعل الخير أساسا الآن في هذه الدنيا لأحصل خيرا لي (أنا) في "الآخرة" لأن فعلي ليس نتيجة مباشرة لفعل الخير للآخر-لأن الآخر هنا هو وسيلة لا غاية-وإنما هو نتيجة مباشرة لطاعة الله. وهنا يكمن التناقض والتهافت في الأخلاق الدينية وتختل المعادلة  حيث لا تنتهي المسيرة الى المفهوم الحقيقي للأخلاق ذاتها وهو مفهوم الخير للآخر باعتباره غاية وإنما تنتهي الى مفهوم آخر لا علاقة له بالأخلاق هو مفهوم الطاعة ومفهوم الطاعة في حقيقته علاقة بين طرفين طرف ضعيف بغير حدود هو الإنسان وطرف قوي بغير حدود هو الله وهذا معناه أنها علاقة خوف قائمة في الأصل والأساس على منافقة الله تجنبا لبطشه ووصفها بالنفاق هنا يأتي من كونها تبدأ بالادعاء بإقامة أخلاق غير أنانية وتنتهي الى صيغة نفعية للأخلاق تتمثل في سعي الإنسان الى ذلك العائد المؤجل لفعل الخير في الآخرة. تبدأ بمفهوم المعرفة المطلقة لله بما هو خير وتنتهي بمفهوم (قوة) الله التي تستطيع أن تفعل وتفرض كل شيء وأي شيء وبدون مفهوم القوة هذا يسقط أي معنى للأخلاق الدينية التي تدعي انها أخلاق مبنية على الخير والحقيقة انها مبنية على نفاق الأنانية التي تتجنب أذية الإله لأنها تخاف من القوي المؤذي ولولا هذا الخوف لفعلت ما تريد وترغب. والنتيجة النهائية لهذه الأخلاق هي لو لم يكن الله قويا لما خافه أحد لأنه بمجرد تصور إن الله ضعيف لا يستطيع إيقاع الأذى بالإنسان تنهار قيمة الأخلاق الدينية المبنية على هذا الخوف من الأذى وهذا هو جوهر الوضاعة والنفاق في الأخلاق الدينية.

 

سليم جواد الفهد

..............

1- إبراهيم البليهي، تلقائية وحتمية تعدُّد الآراء بتعدد الأفراد.

 

 

في المثقف اليوم