قضايا

دور الإسلام في اهتمام العرب بالقضايا الاجتماعية

يسري عبد الغنيهل اهتم العرب قبل الإسلام بالقضايا الاجتماعية ؟

لقد اهتم العرب قبل الإسلام بقضايا وأمور المجتمع اهتماماً كبيراً، فهم لم يعتنوا بأمور معيشتهم، ومشكلات حياتهم، وظروف بيئتهم الطبيعية فحسب، بل اعتنوا واهتموا بالعلاقة بين البيئة والمناخ، وطبيعة النظم الاجتماعية التي تحدد اتجاهات ومسارات حياتهم العامة والخاصة، كما اهتموا بأنظمة السياسة وأساليب الحكم على الرغم من بساطة الحياة القبلية التي كانوا يحيونها، وركزوا على شئون العبادة والتدين بعد أن استنبطوا إصول التفكير الديني القديم.

في نفس الوقت الذي نظم العرب مراسم وتقاليد الزواج، والطلاق، ووضعوا الأسس الاجتماعية والإنسانية التي ترتكز عليها العائلة والقرابة العربية.

كما أنهم عرفوا نظم التربية والأخلاق، وحقيقة الطرائق التي من خلالها يكتسب الأبناء سجايا وخصال وقيم آبائهم، وميزوا بين القيم الصالحة، والقيم السيئة. (1)

وقد كان العرب يقدسون العصبية، والمروءة، والشجاعة، ويمجدون القوة، ويميلون إلى القتال، ويعتبرون الحرب هي الحد الفاصل الحاسم، والإجابة الصريحة بصدد المشكلات التي تعن لهم، وتجابههم، وغني عن البيان أن ميل العرب إلى الحرب وإن كان لأتفه الأسباب في بعض الأحيان، نتيجة طبيعية لظروفهم الحياتية.

الإسلام والوحدة:

ولما انتشر الإسلام حقق في فترة وجيزة، الوحدة في بلاد العرب وفي غيرها من البلاد التي انتشر فيها الإسلام، وهي الوحدة التي لم يستطع العرب أو غيرهم قبل الإسلام أن يحققوها بالرغم من توافر ركائزها كوحدة العادات والتقاليد، والتاريخ واللغة، والأصل المشترك (2).

والإسلام إنما هو دين اجتماعي جاء لإنقاذ البشرية من الفساد والتداعي، والتخلف، والهيمنة، والتبعية، والعمل على بناء المجتمع العادل والمستقر، القائم على الإخاء والمساواة.

كما أن النظام الاجتماعي في الإسلام جزء لا يتجزأ من الدين، فقد اهتم الدين الإسلامي بالمعاملات، كما اهتم بالعقائد والعبادات، والتشريعات المنظمة للكثير من النظم الاجتماعية مثل: الزواج، والطلاق، والمواريث، والمحارم، والزكاة، والرق، والصوم، والضوابط الاجتماعية، والعدالة (بجميع أنواعها)، والمساواة، والحرية، والتكافل الاجتماعي، وحقوق الإنسان. (3)

الإسلام وطبيعة الإنسان:

إن الإسلام لم يهتم بالقضايا الدينية، واللاهوتية، والغيبية فقد لا غير، بل اهتم أيضاً بكل ما يتعلق بطبيعة الإنسان، وحيثيات المجتمع مهما تكن دقيقة ومعقدة. (4)

فقد اهتم العرب وغيرهم في ظل الإسلام الحنيف بضرورة تهذيب أخلاق المؤمن، وسلوكه، وتحريره من الأدران والأمراض والعقد الاجتماعية والنفسية.

كما اهتموا بضرورة تقوية علاقة المسلم بأخيه المسلم في كل مكان وزمان من أجل تحقيق وحدة المسلمين التي بها خيرهم وسعادتهم، هذه الوحدة التي تقودهم إلى قوتهم، وإلى دحر أعدائهم، وأعداء الحق والخير والجمال.

وركز الإسلام على أمور الحياة والمجتمع، إذ حث الأغنياء والقادرين على إنفاق جزء من أموالهم على الفقراء، واليتامى، والمحتاجين، وأبناء السبيل.

كما دعا الإسلام إلى التقيد بالاقتصاد في النفقات، وعدم التبذير والإسراف، واحترام المال العام، والتزام الأمانة في القول والعمل.

وأقر الإسلام ضرورة احترام الآخر، وقبوله، وعدم الإساءة إليه بأي شكل من الأشكال، حتى لو اختلفنا معه في الدين أو العقيدة أو الفكر، لقد خلقنا الله تعالى من أجل أن نتعارف، نتبادل الآراء والأفكار والخبرات والتجارب، بغية واقع أفضل لنا ولذوينا، والطريق الأمثل إلى ذلك هو الحوار الإيجابي الفعال.

كذلك طالبنا الإسلام بالالتزام بالعمل الصالح، والطاعة، والصبر، وقوة الإرادة، وعدم الاندفاع، والتأني، ونبذ النزاع والخصام، واحترام الوالدين، واحترام الكبير والعطف على الصغير، والصدق في القول والعمل، وإنكار الذات، وحب الآخرين، والتفاني في خدمتهم بنفس راضية.

وعليه فإن العرب وغيرهم بوحي من مبادئ وعقيدة الإسلام، اهتموا كل الاهتمام بشئون العلم، وطلب المعرفة، والوقوف ضد الاستبداد والعبودية والفساد والإقطاع، وعتق المرأة وتحريرها من القيود، والمظالم الاجتماعية.

الفكر في عصر الحضارة الإسلامية:

أما مجالات الفكر في عصر الحضارة الإسلامية، فكانت واسعة النطاق، نظراً لفاعلية حركة النقل والترجمة،،زيادة العناية والاهتمام بكل روافد العلم والثقافة. (5)

إن حركة العلم والأدب والثقافة، شملت في الحضارة الإسلامية العلوم الكونية، والفلكية، والرياضية، والطبية، والكيمياء، والفنون الجميلة، كما شملت الدراسات السياسية، والقانونية، والإدارية، والاجتماعية، والفكرية بوجه عام.

** وفي هذا الصدد نطالب أهل البحث والفكر بضرورة عرض وتحليل الهبات الفكرية، والإسهامات النظرية التي قدمها المفكرون الاجتماعيون المسلمون، الذين ظهروا في فترة القرون الوسيطة، عندما كانت الحضارة الإسلامية في أوج نهوضها، وتقدمها، ورقيها، وازدهارها، وعطائها، في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في سبات عميق، إنعكست على أجزاء ومفاصل وميادين حياتها.

نقول: إن المفكرين الاجتماعيين المسلمين الذين ظهروا في فترة القرون الوسيطة اعتنوا بدراسة ما يمكن أن نسميه (داينميائيات) الحياة الاجتماعية المعاشة، وتحليل عوامل التطور والطفرة التي أدت إلى عملية التغير الاجتماعي السريع، والذي لم تشهده أمة أخرى في تلك الفترة التاريخية.

حقيقة الاجتماع البشري:

لقد اهتم هؤلاء بدراسة حقيقة الاجتماع البشري، وعلاقته بطبيعة الإنسان، ومعطيات البيئة، والعوامل المؤثرة فيها.

كما أنهم وصفوا مكونات التحضر أو العمران البشري، وحللوا طبيعة الفعل، ورد الفعل بينها.

كما شخصوا العوامل الموضوعية والذاتية التي تؤدي إلى تكامل مكونات الحضارة الإنسانية، واستقرارها على مر الأزمان، كما درسوا خصائص المجتمع المثالي (اليوتوبيا)، وأثر القيادة الواعية الصالحة في نموه، ورقيه، وتطوره، واستقراره.

وتطرقوا إلى صفات ووظائف القائد أو الحاكم، ودوره في وحدة، وتفكك الأمة.(6)

منهج الحقائق والقيم:

درس الاجتماعيون المسلمون منهج الحقائق والقيم، ذلك أنهم أشاروا إلى حقيقة مفادها: أن على الباحث أو المفكر الاجتماعي أن يهتم بوصف وسرد الحقائق مجردة كما هي.

وعليه لا يصح بحال من الأحوال أن يمزج بين الحقائق الاجتماعية التي يهتم بجمعها، ووصفها، وتدوينها، كما هي مجردة، وبين أهوائه الشخصية ونزعاته وميوله الذاتية.

فالمزج المتعمد بين الأهواء ـ التي هي جزء من النزعات الشخصية ـ والحقائق، يشوهها، بحيث لا تقع في مستوى الحقيقة، ولا ترتفع إليها، في نفس الآن لا ترقى إلى مستوى فهم واستيعاب الحياة الاجتماعية بمضامينها الجوهرية، وأبعادها الإنسانية.

كما اهتم المفكرون الاجتماعيون المسلمون بالمبادئ والقيم، وأثرها في تحديد سلوك وميول واتجاهات الإنسان، ورسم السمات الحضارية التي تميز المجتمع.

فالإنسان الصالح يميز عن الإنسان الطالح بطبيعة القيم السلوكية التي يحملها، كما أن المجتمع المثالي يمكن تمييزه عن المجتمع الضال والمنحرف، وذلك بطبيعة القيم والمثل الأخلاقية التي يؤمن بها، ويعتمدها في مسيرته الحضارية والروحية.

الدراسات الاجتماعية بين الفلسفة والاجتماع:

إن الدراسات الاجتماعية عند المسلمين الأوائل تنتظم في مظهرين أساسيين هما:ـ

المظهر الأول: {المظهر الفلسفي الديني}، والذي يمثله: أبو نصر الفارابي في كتابه: [آراء أهل المدينة الفاضلة]، وإخوان الصفاء وخلان الوفاء في رسائلهم الـ (51) أو الـ (52).

المظهر الثاني: {المظهر الاجتماعي والأنثروبولوجي }، والذي يمثله العلامة / ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، والرحالة الجغرافي / ابن بطوطة في رحلاته.(7)

والأنثروبولوجي عرفه علماء المسلمين باسم (الدراسات البشرية )، وهذا أفضل وأعم من تعريفه بأنه (علم دراسة الإنسان) فقط.

دعوة واقتراح:

إننا نطالب أهل البحث الاجتماعي بضرورة توضيح الإسهامات الفكرية والعلمية التي قدمها هؤلاء الاجتماعيون المسلمون الأوائل، في تمهيد السبل لظهور علم الاجتماع، وتطور دراساته، وأساليبه البحثية، ومناهجه العلمية.

مع الأخذ في الاعتبار أن الهبات الفكرية لتطور النظرية الاجتماعية التي قدمها الاجتماعيون المسلمون، تعتبر بمثابة حجر الأساس لنشوء علم الاجتماع الإسلامي.

إن علم الاجتماع الإسلامي بما له من أطر، وأطروحات، وطروحات، ونظريات، ومفاهيم، وضعها أقطابه الأوائل، كانت له خصوصياته، ومزاياه، وأسسه، والتي اعتمد عليها الكثير من المفكرين الاجتماعين الغربيين في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، من أمثال: (أوجست كونت)، و(إميل دور كايم) و(فيكو)، و(هوبز)، و(لوك)، و(جان جاك روسو)، و(هيجل).. وغيرهم، وغيرهم.

وعلينا أن نضع في الاعتبار كذلك أن الدراسات الاجتماعية التي قام بها كل من (روسو)، و(هيجل)، كانت بمثابة المحفز المباشر لظهور علم الاجتماع كعلم مستقل له خصوصيته عن الفلسفة، واللاهوت، والتاريخ، وسائر العلوم الاجتماعية. (8).

هذا، وقد تم ظهور العلم الجديد (علم الاجتماع) واستقلاليته عن العلوم الأخرى على يد العلماء الاجتماعيين التقليديين مثل: (أوجست كونت)، و(هربرت سبنسر)، و(كارل ماركس)، و(كارل مانهايم)، وغيرهم، وغيرهم..

وفي هذا المجال يجدر بالباحثين والدارسين أن يبحثوا انطلاقاً من المنهجية العلمية في أهم الإسهامات التي قدمها علماء الاجتماع المسلمين، والتي تمخض عنها، بلورة الأسس والمفاهيم لعلم الاجتماع الإسلامي.

ويمكن أن يمثلوا لهؤلاء العلماء بمجموعة من المفكرين المسلمين الذين طوروا الدراسات الاجتماعية، تاركين الباب على مصراعيه لكل باحث أو دارس أراد أن يعرف بجهود أعلام آخرين، كان لهم دورهم في نفس المضمار، مضمار تطوير الدراسات الاجتماعية.

ومن المفكرين المسلمين الذي يمكن أن يبدأ بهم أي باحث أو دارس، كبداية للتعريف بجهود مفكرين آخرين، كان لهم إسهامهم في مجال الفكر الاجتماعي: ـ

1ـ أبو نصر الفارابي صاحب (آراء أهل المدينة الفاضلة).

2 ـ جماعة إخوان الصفاء وخلان الوفاء في رسائلهم.

3 ـ ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.

4 ـ الرحالة ابن بطوطة في مجموعة رحلاته.

وغير هؤلاء، المهم أن نبدأ بجدية واجتهاد، فنعود إلى التراث الاجتماعي الإسلامي الذي يتجسد فيه أفكار ونظريات الرواد الأوائل، معتمدين على هذا التراث في تفسير حقيقة الواقع الاجتماعي، مع مراعاة المتغيرات والمستجدات والمستحدثات التي طرأت على علم الاجتماع في ضوء المساهمات الحديثة لعلماء الاجتماع في عالمنا المعاصر.

كما ينبغي أن يكون التراث الاجتماعي الإسلامي هو المرجع الأساسي للملامح الحديثة التي يتسم بها أي بحث حديث في علم الاجتماع الإسلامي.

علم الاجتماع الإسلامي الذي ندعو إليه ونطالب به، لا يرفض فكر الآخر أو رؤاه أو تصوراته، بل يأخذ منها أفضل ما فيها، بحيث لا يتعارض مع خصوصياته، وهويته، وحضارته، وهذا ما يميز علم الاجتماع الإسلامي عن علم الاجتماع الغربي.

 

...................

الهوامش والأسانيد

(1) زيدان عبد الباقي، التفكير الاجتماعي: نشأته وتطوره، القاهرة، 1972 م، ص 80، وما بعدها.

(2) جورجي زيدان، تاريخ التقدم الإسلامي، الجزء الأول، القاهرة، 1955 م، ص 52 وما بعدها.

(3) مصطفى الخشاب، علم الاجتماع ومدارسه، الكتاب الأول، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1975 م، ص 112، وما بعدها.

(4) إحسان محمد الحسن، نقد أفكار ماكس فيبر عن الدين الإسلامي، مجلة الرسالة الإسلامية العراقية، العددان: 180، و181، بغداد، 1985 م.

(5) مصطفى الخشاب، علم الاجتماع ومدارسه، مرجع سابق، ص 113 وما بعدها، وكذلك: يسري عبد الغني، المدنية العربية الإسلامية (نظرات في الأصول والتطور)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987 م.

(6) إحسان محمد الحسن، علم الاجتماع: دراسة نظامية، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 1976 م، ص 23.

(7) مصطفى الخشاب، علم الاجتماع ومدارسه، مرجع سابق، ص 114، وما بعدها.

(8) إحسان محمد الحسن، الأوليات التاريخية لاهتمامات العرب بعلم الاجتماع، مجلة المورد العراقية، المجلد 15، العدد 3، 1406 هـ = 1986 م، ص 60، وما بعدها.

 

في المثقف اليوم