قضايا

كورونا وعودة الذئاب المنفردة

محمود محمد عليكشفت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) عن الخلل الفكري لدى التنظيمات الإرهابية، التي تفتقد إلى مبادئ الإنسانية، كونها استغلت أزمة كورونا لتكون أداة عنف وتفجير وتشكيل للخلايا الإرهابية التي تستهدف أمن واستقرار الدول، حيث شهدت الأيام الماضية استغلال تنظيم داعش الإرهابى لأزمة انتشار فيروس كورونا، حيث يعتقد تنظيم داعش أنه ما زال يمتلك القدرة على ممارسة الإرهاب بحرية وتنفيذ عمليات إرهابية ضد الجيش والشرطة والمواطنين، ظناً منه أن انشغال العالم بجائحة كورونا سيجعله أكثر قوة وقدرة على إعادة ترتيب صفوفه وإثبات وجوده، بعد أن خرج تنظيم داعش فى العراق من بابه الكبير، ليعود متسللاً إليه مرة أخرى من نافذة كورونا فى ضوء انشغال العالم قاطبة بهذا الوباء الذى شل قدرته بالكامل، وتراجع اهتماماته وأولوياته مع وجود كورونا، فأصبح القضاء على الفيروس يتصدر أولى الأولويات والاهتمام العالمى.

ففي الأسابيع الماضية رصدت قوات الأمن العراقى تسلل زعيم داعش الجديد «أبو إبراهيم القرشى» إلى الأراضى العراقية، وباشرت الجهات الأمنية فى تعقب وتحديد موقعه الجغرافى، فيما يحاول التنظيم ترك بصمته لإثبات وجوده، فقام بتنفيذ عدة عمليات إرهابية خلال الأسابيع القليلة الماضية فى العراق، وإن كانت عبارة عن هجمات غير مؤثرة استهدفت نقاطاً عسكرية ومناطق تابعة لعشائر ساعدت القوات العراقية فى الحرب ضده!. وإمعاناً فى لفت الانتباه ضاعف تنظيم داعش الإرهابى هجماته خلال الشهر الماضى ضد قوات الأمن العراقية ومرافق الدولة فى العراق، مستغلاً تفشى جائحة «كوفيد 19» وانسحاب قوات التحالف الدولى والانقسام السياسى الحاد فى العراق، فهل تكون تلك هى البداية لعودة سيناريو عام 2014؟ كما تقول جيهان فوزى في مقالها هل يتسلل «داعش» من بوابة كورونا؟

اعتقد أن داعش وغيرها تلك التنظيمات المتطرفة لا تتواني عن استغلال الأحداث العالمية وتوظيفها لخدمة أغراضها الخبيثة، في براجماتية مُقيتة غير جديدة تتوافق مع الدعاية الخبيثة والضالة التى تبثها تلك التنظيمات على مواقع التواصل الاجتماعى.. لقد عاد تنظيم «داعش» الإرهابي للرهان مجدداً على «الانفراديين» أو «الذئاب المنفردة»، مستغلاً انتشار فيروس «كورونا المستجد». ودعا التنظيم عناصره لتنفيذ «ضربات خاطفة» في الدول بأي سلاح مُتاح، قد تكون خسائرها أقل؛ لكنها قد تُحدث دوياً في الدول، لتأكيد أن «التنظيم ما زالت لديه القدرة على تنفيذ عمليات رغم الخسائر».

وفي تحليل للظاهرة رصد المؤشر العالمي للفتوى (GFI) التابع لدار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم تفاعل التنظيمات الإرهابية مع حدث تفشي "كورونا" وتتبع الخطاب الإفتائي لهذه التنظيمات منذ شهر فبراير الذي برز فيه خطابات هذه التنظيمات بشأن الفيروس، بالادعاء بأنه يمثل (عقابا من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». وتبنى «داعش» قبل أيام، هجوماً انتحاريا استهدف معبداً وسط كابل، أسفر عن مقتل 25 مدنياً على الأقل وجرح ثمانية آخرين. وأعلنت وكالة «أعماق» التابعة للتنظيم أن «الهجوم نفذه انغماسي». وذلك كما قال وليد عبد الرحمن في مقاله «داعش» يستغل «كورونا» ويراهن على «الانفراديين».

و«الانفراديون» لا يخضعون لـ«داعش» يتسلمون من التنظيم التعليمات للقيام بعمليات إرهابية؛ بل هم أشخاص يخططون وينفذون باستخدام السلاح المتاح لديهم، كما حدث من قبل في استهداف المطارات والمساجد والأسواق والمقاهي والتجمعات. وقال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية لـ«الشرق الأوسط»، إن «الانفرادي شخص يقوم بهجوم دون أن تربطه علاقة واضحة بتنظيم ما؛ سواء أكانت هذه العملية بالأسلحة المتطورة، أو بالطرق البدائية مثل (سكين المطبخ)، أو الدهس بالسيارات والشاحنات، أو التفجير الانتحاري، وهذه العمليات لها تأثير إعلامي كبير، والتخطيط لها يعتمد على آليات بسيطة جداً من قبل (الذئاب المنفردة)». وذلك كما قال وليد عبد الرحمن في مقاله «داعش» يستغل «كورونا» ويراهن على «الانفراديين».

وقد لقيت ظاهرة إرهاب "الذئاب المنفردة" اهتماماً دولياً؛ سياسياً وأمنياً وبحثياً، منقطع النظير في الأعوام الأخيرة، خاصة في الغرب، باعتبارها أحد أبرز تجليات الإرهاب المعولم وتطورات السلفية الجهادية بمقارعة "العدو البعيد".، وزاد من حمى هذا الاهتمام استخدام تنظيم القاعدة هذا الأسلوب، ثم التوسّع في استخدامه من قبل تنظيم داعش، بعد العام 2014، خاصّة في الساحات الأوروبية والأمريكية، التي تركها نهباً للفوضى والرعب والعجز عن الردّ المناسب. ورغم أنّ نسبة عمليات إرهاب "الذئاب المنفردة" عالمياً لا تشكّل إلّا (2%) من المجموع الكلي لعدد العمليات الإرهابية العام 2017، إلّا أنّ خطورته الأمنيّة-الاستخبارية، وتأثيره السيكولوجي، يفوقان بدرجات إرهاب الجماعات والتنظيمات.  وذلك كما قال سعود الشرفات في مقاله الذئاب المنفردة: هل هي إستراتيجية أم تكتيك؟ بحفريات..

وأوضح مؤشر الفتوى أن التنظيم الإرهابي قد انتهك كل المعايير الإنسانية؛ فبعد تفشي وباء "كورونا" عالميًّا وبعدما ظن أنه يمكن له استغلاله لاستعادة مجده الضائع؛ استغل خطابه بنسبة (40 ٪) لصناعة "ذئابه المنفردة" بتحريض أتباعه على استغلال هذه "الهبة الإلهية" للتوسع في العمليات الإرهابية وتكثيفها استغلالاً للانشغال العالمي بالتصدي لتفشي الوباء المميت.

وقد ورد هذا التحريض في غرف المحادثة فيما بين أتباع التنظيم الإرهابي، وفي ثنايا الأخبار التي ينشرها التنظيم الإرهابي بصحيفة "النبأ"، أو تخصيص موضوعات كاملة لنشر هذه الأفكار والتحريض عليها ومنها ما ورد في العدد (226) لشهر مارس تحت عنوان "أسوأ كوابيس الصليبيين"، متضمنًا: "فالواجب على المسلمين اليوم مع سعيهم في حماية أنفسهم وأهليهم من الداء المنتشر، السعي أيضًا لفكاك أسرى المسلمين في سجون المشركين، وألا تأخذهم رأفة بالكفار والمرتدين حتى وهم في أوج محنتهم"، يؤيد هذا السعي الخبيث من التنظيم ما كشفت عنه وثيقة استخباراتية حديثة لوزارة الداخلية العراقية بسعي تنظيم داعش لتجنيد عناصره المصابين بفيروس كورونا، ونشرهم في عموم محافظات العراق، لا سيما في المحافظات الجنوبية والمزارات الدينية الشيعية واستخدامهم كقنبلة بيولوجية بشرية لتعويض خسائره، وهو تطور جديد كشف عنه مؤشر الفتوى في فكر التنظيم الذي استغل الأزمة لصناعة نوع جديد من الذئاب المنفردة.

وتأكيدًا لما كشف عنه المؤشر في الخطاب الإفتائي للتنظيم من حثه أتباعه على تنفيذ عملياته حاليًّا هو ما تحقق على أرض الواقع بعملية إرهابية لجماعة "بوكو حرام" التابعة لتنظيم "داعش" أدت لمقتل 92 جنديًّا من تشاد والنيجر، وإصابة 47 آخرين، وعملية إرهابية أخرى للتنظيم استهدفت مقرًّا دينيًّا للسيخ في كابول أسفر عن 25 قتيلًا و8 جرحى.

وبصورة متناقضة مع تفشي الوباء بالدول الإسلامية والذي من المتوقع أن يكون انتشر أيضًا بين أتباع التنظيم؛ كشف المؤشر العالمي للفتوى عن اتجاه تنظيم "داعش" لتقديم بعض النصائح من خلال خطابه الإفتائي للمسلمين للوقاية من المرض والذي بلغ نسبة (10 %) من إجمالي فتاوى التنظيم المتعلقة بالفيروس، وذلك على نحو ما ورد تحت عنوان "إن بطش ربك لشديد" بصحيفة النبأ عدد (220) بقوله: "والواجب على المسلمين اليوم أن يستعينوا بالله تعالى على اجتناب المرض وإبعاده عن بلدانهم، باللجوء إلى الله، وباتخاذ ما يقدر عليه من الأسباب للوقاية من المرض ومنع انتشاره"، ولم تخل هذه الرسالة من التكهن بإصابة أعداد داخل صفوف التنظيم بالفيروس، ورغم أن النصائح لم يكن لها نصيب الأسد في الخطاب الإفتائي للتنظيم فإنها كشفت عن وجود أعداد داخل صفوفه تدعم هذا الرأي ما أكده المؤشر من سعي التنظيم لصناعة قنابل بيولوجية من ذئابه المنفردة في بعض الدول.

وبتحليل خطاب تنظيم "القاعدة" ومختلف الأفرع التابعة له، كشف أن التنظيم اهتم بشكل كثيف بتفسير فيروس "كورونا" من منطلق عقائدي يؤدي في النهاية للتأكيد على الدعم الإلهي له، وبالتالي مزيد من التحريض بتكثيف عملياته الإرهابية.

وأكد مؤشر الفتوى أن نسبة (55 %) من خطاب تنظيم "القاعدة" فسَّر فيروس "كورونا" بصورة عقائدية باعتباره عقوبة من الله للصين لاضطهادها للمسلمين، على نحو ما ورد في إصدار مرئي بعنوان "وباء كورونا في الصين بنظر المجاهدين"، تضمن قوله: "البعض يقول إن سبب المرض عقاب من الله لهم جراء ما فعلوه تجاه مسلمي الإيجور من ظلم واضطهاد وهو ما نعتقده نحن المجاهدين، احتلت الصين الملحدة الشيوعية تركستان الشرقية منذ زمن ومارست بحق المسلمين هناك أبشع أنواع الظلم والقهر والتعذيب وتناست أن لهؤلاء المسلمين ربًّا قادرًا على أن ينتقم لهم في أي وقت يريد، وها نحن اليوم نشهد عذاب الله لهم بهذا الفيروس"، وتناسى التنظيم أن الفيروس لم يستثن دولة في العالم وأصاب دولًا إسلامية ليسقط زعمهم هذا.

ليس فقط تفسير الوباء باعتباره عقوبة للصين، بل أكد مؤشر الفتوى أن التنظيم اعتبر الفيروس عقوبة للمسلمين أيضًا بسبب الابتعاد عن الدين ووجوب توبتهم والعودة لله وتجنب الفواحش، على نحو ما ورد في إصدار مكتوب بعنوان "السبيل لخروج البشرية من بطن الحوت (وصايا ومكاشفات بشأن وباء كورونا)" في شهر مارس، ومجلة "ابنة الإسلام" العدد 13 لشهر إبريل، في موضوع بعنوان "كورونا: المؤامرة أم آية العذاب؟"، الذي تضمن: "لقد كشف لنا وباء كورونا درجة التخلف العقدي والبعد عن الدين الذي تعاني منها الشعوب، وفي الوقت الذي لجأت فيه إيطاليا للدعاء والاستغاثة بالله وكذلك فعلت أمريكا المتغطرسة وحددت يومًا وطنيًّا للدعاء والابتهال، نرى من بني جلدتنا من يصر على إنكار آيات العذاب، ويستمر في الجدال مستكبرًا!".

واستكمالاً لهذا الجانب العقائدي الذي حاول التنظيم استغلاله على الوجه الأكمل، أبرز مؤشر الفتوى اتجاه التنظيم لاستقطاب غير المسلمين في الغرب من خلال دعوتهم للإسلام باعتباره دين الطهارة والنظافة ودعوتهم لاستغلال فترة الحجر الصحي المنزلي للقراءة في الدين الإسلامي، بقوله: "أيتها الشعوب الغربية.. فلتجعلوا من هذا الوباء نذيرًا لكم بأن ترجعوا إلى فطرتكم وتعودوا إلى ربكم.. إن دين الإسلام دين وقائي نظيف، فهو يحرص على وقاية معتنقيه من جميع الأوباء".

فيما كشف المؤشر العالمي للفتوى استغلال أفرع تنظيم "القاعدة" خاصة كل من "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" و"حركة الشباب المجاهدين" لفيروس "كورونا" باعتباره دعمًا إلهيًّا لهم، فأكد مؤشر الفتوى أن (45 ٪) من خطاب تنظيم "القاعدة" المرتبط بفيروس "كورونا" دعم هذه الفكرة، ومن ذلك ما ورد في إصدار مكتوب بعنوان "حول غزوة بمبا بمالي" لـ"جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، متضمنًا: "جاءت هذه الغزوة المباركة في الوقت الذي سلط فيه الله سبحانه جندًا من جنوده على أعتى الدول المشاركة في هذه الحملة الصليبية على شعوبنا المسلمة في مالي والمنطقة ونخص بالذكر فرنسا رأس الحربة في هذه الحملة وجارتها إسبانيا التي أعلنت عزمها سحب قواتها من هذا التحالف الإجرامي بسبب الإنهاك الذي أصابها من وباء كورونا".

ونفس الأمر بالنسبة لـ"حركة الشباب المجاهدين" التي اعتبر أحد قياديها ويدعى "فؤاد شونغلي" أن المسلمين يجب عليهم الفرح بانتشار وباء "كورونا" في العالم باعتباره بلاء أرسله الله على الذين يشكلون عقبة أمام نشر الدين الإسلامي.

وبالتوازي مع هذه التصريحات كثفت الحركة من عملياتها في مناطق نفوذها في القارة الإفريقية خلال شهر أبريل حيث بلغ عدد العمليات في شرق إفريقيا: مناطق الحكومة الصومالية 45 عملية أسفر عنها ما تجاوز 120 قتيلاً، وفي مناطق حكومة كينيا 4 عمليات أسفر عنها ما تجاوز 40 قتيلاً.

وذلك بعدما قامت الحركة خلال شهر مارس بعقد اجتماع تشاوري لتكثيف عملياتها في كل الدول الإفريقية، حيث تضمن الاجتماع: "يجب على المجاهدين تكثيف الجهاد العيني الذي يدافعون به عن الدين والأرض والمسلمين، إن ما يسمى بالحكومة الفيدرالية والولايات الإقليمية التي أنشأها الكفار في بعض أجزاء الصومال هي إدارات مرتدة تركت حظيرة الإسلام. محاربتهم واجبة كما يتضح في القرآن والسنة النبوية".

واختتم المؤشر العالمي للفتوى تحليله للخطاب الإفتائي للتنظيمات الإرهابية بتأكيده على أن خطاب هذه التنظيمات الإرهابية بشأن فيروس "كورونا" لم يكترث بالعامل الإنساني، فقط حرصوا على تطويع هذا الفيروس لخدمة أهدافهم سواء بادعاء الدعم الإلهي لهم، أو بالترويج لعجز القوى الكبرى عن مواجهة هذا الفيروس لإثبات القوة المطلقة لهذه التنظيمات، أو من خلال صناعة ذئاب منفردة تحمل المرض وتنقل العدوى لعموم الناس، ليكتشف في النهاية مدى عجز هذه التنظيمات التي ترى في الأزمات والأوبئة حياة لهم.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

........................

المراجع

1- حسين البدوي: داعش يدعم عملياته بـ"كورونا" (مقال) .

2-اسراء كارم: مؤشر الفتوى: الذئاب المنفردة للتنظيمات الإرهابية تستغل فيروس كورونا (مقال).

3-سعود الشرفات: الذئاب المنفردة: هل هي إستراتيجية أم تكتيك؟ (مقال) .

4-محمد عمر: «الذئاب المنفردة» في مهمة لإنقاذ داعش (مقال) .

 

في المثقف اليوم