قضايا

السنة والشورى

سليم جواد الفهدتأملات في الفكر السياسي الإسلامي (15)

بعد أن ناقشنا المصدر الأول للفكر السياسي الإسلامي وهو القرآن نأتي الى المصدر الثاني وهو السنة النبوية وقبل الشروع بالموضوع لابد من مقدمة تبرر اهتمامنا بهذا الموضوع حصرا أقصد (الفكر السياسي الإسلامي).

يعتقد البعض متوهما أن الماضي أمر انقضى ولا علاقة ولا تأثير له بالحاضر والحقيقة أن الماضي يتواجد في نسيج الحاضر بصيغ مختلفة معقدة مكونا علاقة تفاعل متشعبة في كل خلايا الحاضر تصل الى حد تغييب الحاضر بالكامل لصالح الماضي وبالفعل نرى بشكل واضح وجلي أن كل الشعوب المتخلفة جزء كبير من تخلفها يرجع الى إنها محكومة بأغلال الماضي ويقودها الموتى من قبورهم ومما يزيد الأمور سوءا هو حضور الموتى بشكل مقدس وهذا الحضور لا يُلغي الحاضر فقط وإنما يجعل من المستقبل خراباً. هذا الفكر لا يؤمن بأن الإنسان كائن متطور يبلغ سن الرشد العقلي ويستطيع تبعا لذلك أن يعيش بدون وصاية من أحد بل يتم اعتبار الفرد قاصر عقلياً ويحق لرجال الدين التدخل في أصغر تفاصيل حياته الخاصة فأنتج هذا الوضع المهووس بالمراقبة والكبت مسوخا مهوسين بانتهاك خصوصية حياة الناس فكر يقوم ويتقوم على مبدأ التقليد دون ادراك او فهم او وعي فكر تلقين لا يسمح بالمعارضة ولا يقبل النقد فكر لا يريد للعقل أن يفهم ما يفعل ولكن أن يفعل ما يؤمر به والنتيجة مجتمع مسير مسلوب الإرادة سطحي و غبي يعيش على الاطلال دون انتاج او تطور. ومثال هذا التغييب هو المطالبة المستمرة بعودة الخلافة الإسلامية وبناء دول دينية وهو دليل على غباء رجال الدين حيث يقعون في خطأ منهجي هو تصور إمكانية تغيير الواقع عبر تناسل الفكر الديني من الفكر الديني نفسه وليس عبر تفاعل الدين مع الواقع بهدف تغيير الماضي نحو المستقبل وهو ما يسمح ببناء دول ومجتمعات عصرية ديمقراطية علمانية تعيش حاضرها بوعي وتستشرف مستقبلها بذكاء. من هنا تأتي دراستنا للماضي باعتبارها جزء من إجابة السؤال التاريخي الحضاري الإنساني: كيف يستطيع المواطنون في بلد واحد العيش معاً في ظل الاختلافات العقائدية والسياسية والعرقية؟

كل الدول المتقدمة أجابت بالعلمانية بينما أجابت مجتمعاتنا العربية بالشريعة الإسلامية!!! وهذه الإجابة لا تدرك فارقا خطيرا يؤدي الى الهلاك والزوال. إن الفارق بين أن تكون (الشريعة الإسلامية) هي ما شرعه الله للبشر في لحظة من لحظات التاريخ وفي بيئة محلية هي الصحراء وبين أن تكون هي الفقه - الذي لا خلاف في أنه منتج بشري - المؤسس على تمثل قواعد تلك الشريعة لحل مشاكل الجماعة في تلك البيئة وذاك التاريخ لفارق خطير تنقلب به الموازين وتنهار في رحابه أسس الركائز التي ساند بها دعاة كل طرف من الاطراف مواقفهم. فالإشكالية لا تكمن في أن يكون الفقه الإسلامي قد بنى قواعده على نصوص الكتاب أو السنة وإنما الإشكالية في عملية البناء ذاتها على اعتبار إنها تبرعمت بشكل تاريخي كعملية عقلية تحكم في إنتاجها موجهات الصراع للطرف الممسك بالسلطة والطرف الذي لا يملك السلطة وبالتالي أخذ جانب المعارضة للتسلط.

وبين التسلط ومعارضته سقطت جميع المقدسات والمقدس لا يصمد طويلا أمام الاطماع وخاصة في الصحراء المؤسسة اصلا على القوة والغلبة والقسوة كمبادئ للعيش في هذا النظام الاجتماعي المرتبط جدليا بالشخصية البدوية وهي من إنتاجه بالأساس وهي في الجوهر تركيبة هلامية تعكس حقيقة مجتمع الصحراء القائم على الصراع من أجل البقاء ومعياره الأوحد هو (القوة) مع ما ينتج عنها من عدم تبلور لروح التسامح اللازم لتكوين شخصية اجتماعية متوازنة وسليمة لكي تنتج نظاما سياسيا متوازنا وسليما نقول ذلك لأننا ندرك بحق أن النظام السياسي هو انعكاس للواقع الاجتماعي.

السُّنة والشورى الدلالة والدليل

السُّنة لغة: هي الطريقة عموما وقد استعملت بهذا المعنى شرعا ليقصد بها الطريقة التي طبق بها الرسول أوامر القرآن وفق ما تبين له من دلالته ومقاصده.

السُّنة اصطلاحا: لها معنيان أحدهما أقره الفقهاء وثانيهما حدده علماء الأصول واختلافهم في تعريف السُّنة سببه اختلاف أغراضهم واختصاصاتهم فلكل طائفة من العلماء غرض خاص مِن بحثهم وغرض الأصوليين: البحث عن المصادر الشرعية التي تُؤْخَذ منها الأحكام الفقهية من قرآن وسنة ولذلك أهتموا بما يثبت الأحكام الشرعية من قول وفعل وتقرير فقط.

وغرض علماء الفقه: البحث عن حكم الشرع على أفعال العباد مِن (واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح) فهي تعني عند الفقهاء الصفة الشرعية للفعل المطلوب على نحو غير جزمي بحيث يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه فقالوا: هذا الفعل سنة لا واجبا. وعليه تعني السنة عند الأصوليين دليلا من أدلة الأحكام وتعني عند الفقهاء حكم شرعي يثبت للفعل بالدليل.

ومرادنا من معنى السنة هو المعنى الذي قصده علماء الأصول ما دمنا نبحث عن دليل يثبت أن السنة قولا وفعلا وتقريرا لم تأسس للشورى باعتبارها نظرية حكم ومؤسسة ثابتة كما يدعي أنصار الإسلام السياسي.

تحديد معنى السنة باعتبارها مصدرا للتشريع

إن ما يدخل في الاعتبار عن الرسول من (قول) أو (فعل) أو (تقرير) سنة هو ما صدر عنه بمقتضى رسالته باعتباره مبلغا عن الله وكان المقصود به التشريع والاقتداء يضاف إليها جميع تقريراته. وهذا النوع هو الذي يعتبر تشريعا عاما يجب العمل بمقتضاه وعلى كل مكلف الاقتداء به وهو أما يأتي بيانا لمجمل القرآن أو صادرا عن الرسول ابتداءا. فإذا كان بيانا وجب أتباعه لكونه واجبا أو مندوبا على الأقل سواء دل على ذلك دليل قولي كقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أو عرف (بقرينة حال) كأن يرد في القرآن لفظ مجمل فيتولى الرسول تفصيل مجمله بفعله أو قوله كتيممه ومسحه اليد الى المرفقين عند اقتضاء التيمم. أما إذا كان صادرا عن الرسول ابتداءا فهو أما أن تعلم صفته الشرعية من وجوب أو ندب أو إباحة أو تحريم أو كراهة أو لا تعلم فأن كنت تعلم صفته الشرعية فيجب عليك الاقتداء بالرسول وإن كنت لا تعلم صفته الشرعية فعليك التحقق من أمره فإن ظهر في الفعل قصد القربة الى الله ولكن الرسول لم يواظب عليه كان الفعل مندوبا ومستحبا وإن لم يظهر فيه قصد القربة الى الله كان الفعل مباحا كمعاملات الرسول من بيع وتجارة لأن الإباحة هنا هي القدر المتيقن ولا يثبت الزائد إلا بدليل.

وبناء على ما تقدم فهناك أقوال للرسول لا تدخل في نطاق السنة باعتبارها تشريعا لأنها لم تصدر عنه بصفته مبلغا وحي الله وهي الآتية:

أولا: ما صدر عن الرسول من أفعال بمقتضى الطبيعة البشرية أي باعتباره إنسانا كقيامه وقعوده وأكله وشربه ولبسه ومشيه فإن كل ذلك لا يعتبر تشريعا ملزما بل هو مستحب لا أكثر.

ثانيا: ما صدر عن الرسول بمقتضى خبرته في الشؤون الدنيوية من تجاره وزراعة وتنظيم أمور الحرب فإن كل ذلك لا يعتبر تشريعا وإنما جاء كثمرة تقدير شخصي يؤيد ذلك ما روي عن الرسول عندما أنزل الجيش في موقعة بدر في مكان معين فقال له الحباب بن المنذر: (يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ـ قريش ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من القُلَب ـ الآبار ـ ثم نبني عليه حوضاً فنملأه، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون)."1 ".

ثالثا: ما صدر عن الرسول من أفعال دل الدليل على أنها خاصة به وحدة فلا تكون الأمة ملزمة بها كصوم الوصال وزواجه بأكثر من أربعة والتهجد بالليل وتحريم نسائه بعده كل هذا يعتبر من خصوصيات الرسول ولا يعتبر تشريعا لأمته.

أحاديث الشورى في السنة

وهذا استقراء لأحاديث الشورى في السنة كلها تدخل في باب التوجيه غير الملزم وليس بينها دليل بمعنى الواجب بل كلها تدخل في باب الاستحباب لا غير.

1 - روى أن النبي قال: (إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه) (2).

2 - وقال: (المستشار مؤتمن) (3).

3 - وقال: (من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه) (4).

4 - وروى عنه أنه قال: (ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأى، وما خاب من استخار ولا ندم من استشار) (5).

5 - وروى عنه أنه قال: (إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياكم بخلائكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها) (6).

6 - وعنه قال: (البكر تستأمر والثيب تشاور) (7).

هذه هي الأحاديث عن الشورى في السنة فيها الضعيف وفيها الغريب باعترافهم فهل يبقى في السنة متكأ لتأسيس الشورى باعتبارها مؤسسة حكم؟

والخلاصة: كما خلا القرآن من هذا التأسيس خلت السنة من تأكيد اي نظرية حكم ودستور باستثناء نظرية النص التي قال بها الشيعة وسيأتي نقاشها لاحقا.

للحديث بقية.

 

سليم جواد الفهد

....................

1 - عباس متولي حماده،أصول الفقه،ص109.

2 - ابن ماجه - الأدب - المستشار مؤتمن ح رقم 3747 ج2 ص1233 بإسناد ضعيف.

3 - ابن ماجه - الأدب - ح3745 - 3746، وأحمد 5/274 عن ابن مسعود، والدارمي ج2 ص219. مجمع الزوائد ج8 ص99. ورواية أبى مسعود عند ابن ماجه بإسناد صحيح.

4 - مسند أحمد 2/321، 365.

5 - رواه الطبراني في الأوسط والصغير بإسناد ضعيف، انظر: مجمع الزوائد، ج8 ص99.

6 - الترمذى - الفتن ح2368 ج3 ص361، وقال: هذا حديث غريب.

7 - أحمد 2/299 من حديث أبى هريرة.

 

في المثقف اليوم