قضايا

متلازمة ستوكهولم.. ثنائية الضحية والجلاد

هي ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف مع خاطفه او مغتصبه او عدوه الذي يسئ له باي شكل من الاشكال، ويظهر له الولاء، حيث ان مثل هذه المشاعر تبدو غير عقلانية ولامنطقية، بل انها مشاعر نفسية مضطربة تقوم على ولاء الضحية لمعنفها ايا كان خاطفا، او مغتصبا، اومعتديا، او قد تتجمع جل هذه الصفات بفرد واحد، وقد يكون هذا الفرد اب ظالم، مدير فاسد، صديق سوء، او زوجا متسلطا، متعسفا، معتديا ، مسيئا بكل انواع الاساءة التي تقابل دائما من الزوجة بالصفح والغفران!

فهي اذن ارتباط عاطفي بين شخص معَنف وشخص معنِف وبلا حدود وتتلخص بكلمتين" الضحية والجلاد"، وكم من ضحية اشتاقت لجلادها بعد مغادرتها السجن، وكم ضحية صفحت عن جلادها!

وهذه العلاقة الغير سوية هي عبارة عن ارتباط نفسي يبنى على "الصدمة"ثم محاولة امتصاص الصدمة والتكيف معها، بل وايجاد الذرائع للدفاع عن الطرف المعتدي ومحاولة تبرير افعاله وايجاد المسوّغ لتمريرها، بحيث يشعر المعتدي بالنهاية بانه مصيب بسبب تقبل الضحية لكمية العنف دون ابداء اي مقاومة.

سمي هذا المرض النفسي ولابد هو كذلك بمتلازمة ستوكهولم نسبة الى حادثة حدثت في ستوكهولم في السويد حيث سطا مجموعة من اللصوص على بنك"كريديتبانكين" عام 1973، خلال تلك الفترة بدا الرهائن يرتبطون عاطفيا مع الجناة ، ثم قاموا بعد ذلك بالدفاع عنهم بعد اطلاق سراحهم، وقد تعدد حالات متلازمة ستوكهولم وتنوعت قصصها الماساوية التي اتسمت بالتعذيب والاعتداءات النفسية والجسدية المقرفة .

ان تعايش الضحية مع المعتدي يكون بالدرجة الاساس للحفاظ على حياتها وبقاءها وهي احدى طرق الدفاع عن الذات، ويقيها من التعنيف، وهذه معروفة وقديمة قدم التاريخ، فالمراة ومنذ بدء الخليقة تعرضت للخطف والاسروالبيع عن طريق الغزوات لتجد نفسها جارية، وسرعان ماتتاقلم وتتكيف للعيش مع القبيلة المعتدية لتمارس حياتها فيما بعد بصورة طبيعية، كذلك الحال بالنسبة للعبيد الذين هم غنائم الغزوات والحروب، فمايلبث العبد ان يتكيف مع مالكه الجديد بل ويدين بالولاء اليه ويدافع عنه ويفديه بحياته ان تطلب الامر.

ومن البديهي ان نقول ان الشخص المعتدي لابد ان يتمتع بنوع من الذكاء الحاد الذي يجعل سلوكه الاجرامي والعدواني مقبولا لدى الضحية، لكي يستطيع فيما بعد من السيطرة عليها وتنفيذ ماربه المريضة، وفي ذات الوقت يجعل الضحية تشعر بالذنب في حال عدم تنفيذها لمطالبه!

فهو كقرين السوء يزين السوء لقرينه من خلال السيطرة عليه وشل تفكيره وبرمجته من جديد اي انه يقوم بعمل "غسل دماغ"للضحية لافراغ محتواها وملاه بما يريد من الافكار..

ففي الوقت الذي تتعرض فيه الضحية الى صدمة تشعرها بقربها من الموت، حتى تكون مسلوبة الارادة، لاحول ولاقوة لها، محرومة من كل شئ، وتتطلب ابسط الامور اخذ الاذن لادائها كالاكل والشرب وقضاء الحاجة، ثم قيام المعتدي ب"تقطير"تلك الاشياء اي اعطاءها جرعات بسيطة تجعل الضحية ممتنة لهذا القليل الذي يبقيها على قيد الحياة، ثم مايلبث ان يتحول هذا السلوك الى روتين يومي بعد ان اطمئن المعتدي ان ضحيته قد اعتادت الامر وصار سلوكا طبيعيا لحياتها، يبدا وكما ذكرنا باعطائها جرعات بسيطة ككلمة طيبة، او السماح لها بفعل شئ بسي ترغب به ، اواشعارها بانه محتاج لها عن طريق سرد الحكايا والاساطير الصحيحة والكاذبة عن طفولته المعنفة التي اوصلته الى هذه الحال، ليجد تجاوبا من الضحية"الماسوخية"التي تبدي تعاطفا مع هذا الوحش الادمي"السادي"الذي يجد متعته بتعنيفها بل انها اصبحت الدينمو الذي يستمد منه ديمومته، ولم يعد يستطيع الاستغناء عنها، لانها الوحيدة القادرة على اشباع شذوذه النفسي، مستعينا بكل الوسائل المتاحة والغير متاحة، وخصوصا التعنيف والتهديد بقتل الضحية او ذويها في حال انها هربت او ابلغت عنه ، ويلقى ضالته مناخا وارضا خصبة اكثر بالشخصية السهلة الانقياد التي تعاني او عانت هي الاخرى من طفولة معنفة جعلتها مادة لارضاء الاخرين بشتى الطرق، هذه الضحية وغالبا ماتكون الزوجة، تبذل كل شئ لامتصاص غضب زوجها"السادي"فيما يبالغ الاخر باذلالها وتعنيفها تبعا لاهواءه ونفسه المريضة، وبنفس الوقت يوهمها بان الحياة معدومة خارج اسواره وانها ستتشرد او تموت اذا تركته!

وشيئا فشيئا تقتنع الضحية ان هلاكها خارج اسواره وانها تبدا بمقاومة كل من يريد تحريرها من الاسر ابتداءا من نفسها.

لكن العكس هو الصحيح ، فبعد ان قام بجهده لترويض ضحيته ليس بامكانه ان يتركها لانه وجد ضالته فيها من ناحية ومن ناحية اخرى يخاف ان تشي به بين الاخرين اوتبلغ عنه.

ان هذه المتلازمة موجودة وبنطاق واسع في مجتمعاتنا التي تمتاز با"الطبقية النفسية"القائمة على الاستغلال والابتزاز ليس بين الازواج فحسب بل تتعدى ذلك الى العلاقات الاجتماعية بين افراد المجتمع، فهناك طبقة مستغِلة على الدوام تورث صفاتها لابنائها وهناك طبقة مستغَلة على الدوام تورث الانقياد لابنائها، وهذه كارثة مجتمعية لايمكن ان توصف الا با"التطفل" لان هناك طرف ياخذ بدون وجه حق، وهناك طرف يعطي بدون وجه حق!

واذا عدنا الى تربية الطفل الاولى سنجد ان الاطفال المطيعين لمعنيفهم والذين يكونون الاهل بالدرجة الاولى تظهر عليهم المتلازمة بشكل جلي خصوصا ان الطفل المعنف يحاول ارضاء معنفه باي طريقة ليجنب نفسه الاذى حتى ولوكان ذلك على حساب نفسه، وخصوصا اذا سمع كلمة اطراء ولو بسيطة فذلك يعني له الكثير، وتبدا دائرة الارضاء بالاتساع لتشمل اقرانه واصدقاءه بالمدرسة وجيرانه، حتى تمسخ شخصيته ويفقد الثقة ويتحول الى اداة ارضاء فقط ناسٍ ومتناسٍ نفسه وشخصيته واستقلاليته، وهذا خطا فادح نرتكبه بحق اطفالنا.

ونخلص الى القول ان تربية الطفل الاولى لها الدور الاعظم في تنشاة الاجيال الصحيحة والتربية المجتمعية التي تنعكس على افرادها، لان تربية الطفل الصحيحة عن طريق تعزيز ثقته بنفسه بعيدا عن التكبر والغرور واشعاره باهميتة واهمية الاخر مهما كان هذا الاخر والتعامل معه على انه قيمة انسانية عليا بعيدا عن الجنس واللون والعقيدة، واستخدام الوعظ الصحيح غير المشوه والمغرض، وتقوية الوازع الديني قادر على انشاء طفل صحيح العقل، صحي، سليم لايعاني من تشوهات نفسية تجعله اكلا او ماكولا لهو الاسلوب الصحيح الذي نستطيع من خلاله تجاوز الامراض النفسية الفتاكة.

ان العادات السلوكية الصحيحة التي نكسبها لاطفالنا في مرحلة الطفولة المبكرة هي التي تحدد مااذاكان الاطفال سيعيشون حياة علم اوجهل، فقر او ثراء، خير او شر، ان يكون رئيس او مرؤوس، مستغِل اومستغَل وهكذا، وكل شئ مرهون بالثقة التي نزرعها في نفوس ابناءنا للتعبير عن مكنونات انفسهم، بعيدا عن التردد والخوف والقلق..

يقول الكاتب العملاق بنجامين سبوك"ثق بنفسك، فانت تعرف اكثر مما تعتقد".

 

مريم لطفي

 

في المثقف اليوم