قضايا

من غيب الحسين الاصلاحي واحتفل بالحسين الثوري

سالم الشمريبين السياسة والتاريخ مجال يتسع لطمس الحقيقة او كشفها، والذين لا يتعظون من عبر السياسة ودروس التاريخ سيكررون اخطاءهم مرة تلو مرة، وفي هذا التكرار او من خلاله يحدث اسقاط مروع لحسابات الراهن، فمثلما هناك شعوب يقظة استفادت من التجارب السابقة وبرعت في صناعة حاضرها، هناك ايضا شعوب نائمة لاتستفيق الّا لتدمير حاضرها ومستقبلها معا، واثناء هذا التدمير ربما تشعر انها موجودة، لكنها موجودة في الماضي وليس الحاضر .. هي شعوب منقرضة في الوعي وتحولت الى غاشية من بشر ليس لها ارادة او فعل سوى انشغالها الدائم بتصدير الحاضر الى الماضي واستلهامها من بعُد الماضي ماهو خارج الواقع وضده، ومن لايعيد قراءة تاريخة بطريقة مغايرة من خلال تحرير الوعي واعادة تأسيسه على التفكير النقدي المستقل سيطول مكوثه خارج الزمن وسيحرن في الماضي ويقبع فيه.  

اقترن التشيع، في زمن متأخر، بفكرة الثورة مع ان الثورة شيء مقحم في تاريخ التشيع . واذا كانت العلاقة بين التشيع والثورة يكتنفها الكثير من الاسئلة والالتباس، الا ان تبرئة التشيع من الثورة يتطلب كسر قيود عاطفية يصعب كسرها، لآن تغليب العقلي على العاطفي في حياة الناس مهمة شاقة وقد تكون مستحيلة . فالثورة لم تعد مضمونا سياسيا مجردا في الخطاب الديني الشيعي وانما استقرت في الوجدان الشعبي وامتزجت بالحزن والالم وهذه المشاعر العميقة بالالم هي عاطفة ملتهبة والعاطفة عادة لاتخلي مكانها بسهولة للمنطق والنقاش.

 لكن مايدعو للتأمل والغرابة في اّن هو ان الثورة التي هي فعل القوة والعنف قد تحولت في الذاكرة الشيعية الى دموع وحسرة وألم يصل احيانا الى رغبة شديدة في تعذيب الجسد كتعبير عن رغبة اشد للمشاركة في التضحية، وهذا ماقدم ذريعة كافية لوصف المذهب الشيعي بالمذهب الرومانسي لما فيه قدر لافت من التركيز على المأساة التاريخية (1).

 .. هذه الرومانسية، التي لسنا هنا بصدد قبولها او ردها، قد تبدو اكثر اشتقاقا من البيئة العراقية المترعة بالحزن التي تجاذبت مع مذهب التشيع الحافل بالمأساة بحيث شكل الاثنان قطبين يستجيب كل منهما للاخر، وكان جرح كربلاء الذي هو اكثر جراح التشيع الما واكثرها اختراقا للذات العراقية التي تتقن اقتناء الالم وبثه .. قد صنع هياما عراقيا بالمأساة وهذا ماجعل الاحتفال بالمأساة يأخذ طابعا طقوسيا قد يلبي رغبة نفسية اكثر مما هي رغبة دينية .

 لقد عزفنا عن تناول مفهوم الثورة من حيث انتهت اليه التجارب الثورية الفاشلة الذي بدأ بأواخر القرن الثامن عشر وانتهى بالسقوط المدوي لهذه التجارب الدموية في اّواخر القرن العشرين، ومرد هذا العزوف هو ان مفهوم الثورة صار مبتذلا في الادبيات السياسية بسبب اقتران الحقبة الثورية بالدماء، ولان مفهوم الثورة ذاته بات بأمس الحاجة للمراجعة من شدة النبذ الذي تعرض له . ولئن كان عزوفنا الاول قد استوجبه ابتذال المفهوم في عصر الحريات وحقوق الانسان، فأن ثمة عزوف ثان يحتمه النأي عن سجال النظرية والتطبيق الذي لطالما اقترن بنهايات لاتسفر الا عن طمس الحقيقة وضياعها، فما دامت كل الثوراة  مؤدلجة فثمة بقايا ايديولوجيين لازالوا يبحثون، دون طائل، عن مبررات تعفي النظرية وتتهم التطبيق .

لسنا بحاجة الى التأكيد بأن الشعب العراقي هو من اكثر شعوب الارض غرقا بدماء الانظمة الثورية، الا ان مفهوم الثورة في الذاكرة الشيعية العراقية هو موضوع تاريخي وليس راهني، ولذا فأن تناول هذا الموضوع يتطلب الكثير من التأني والدقة والقليل من الانفعال لان مفهوم الثورة فاعل رئيسي في الوجدان الشيعي .

نستطيع ان نزعم ان فكر التشيع العربي الذي شيده العقل الشكوكي العراقي وترعرع في بيئة الجدل العراقية لم يكن فكرا ثوريا، ولعل مدرسة الحلة الفقهية التأسيسية، وهي اخر مدرسة عربية عراقية للفقه الشيعي قد اهتمت بسؤال العقل واهملت سؤال العاطفة، ولم نجد في هذه المدرسة الابداعية التي تعتاش على نتاجها الحوزات الشيعية الى الان مايمت بصلة الى فكر العنف او فكر التطرف . لكن التغيير المفاجئ لديمغرافية التشيع بعد القرن السادس عشر قد فرض تغييرا جديدا يقضي بتوسع السياسي على حساب الفكري وقد بقيت المقولات الاساسية التي اكتسب التشيع السياسي كينونته عبرها تضطلع الى اليوم بوظيفة تغليب التاريخي على العقائدي والطقوسي على الفكري حتى صار التاريخي والطقوسي الجزء الفاعل من الوعي الديني لدى الشارع الشيعي الذي تماهى بدوره مع الماضي الى حد تغليب عقيدة التاريخ على عقيدة الدين، تقوده في ذلك رغبة شديدة في توسيع الفعل الطقوسي وتنويعه والتخفف من الفعل العقائدي واختصاره، ولهذا تجد الالاف في مواكب اللطم بينما لاتجد خمسة افراد في صلاة الجماعة، وقد حدثت الطقوس بنفسها شروطا لنشوء وعي مجتمعي غارق في تراجيديا التاريخ بحيث اندرج الفعل الطقوسي وبمرور الزمن كممارسة داخل منظومة الاعتقاد الديني حتى صار التاريخ الجزء الفاعل من التراث وصار التراث الجزء الفاعل من الدين مما احدث تغييرات عميقة الاثر في البنية النفسية للفرد والمجتمع العراقيين .

ما يؤكد ذلك هو تعملق دور (الرادود) وتلاشي دور المفكر، وانتشار مجالس العزاء طوال ايام السنة وانقراض الندوات الفكرية والثقافية وذهاب المنبر الديني الى وعاظ بارعين في تحويل التاريخ الى اساطير وغيبيات وخرافات والاطاحة بالفكر والثقافة والمفاهيم وحتى اللغة واللجوء الى الشعر الشعبي الردئ الذي تطرح من خلاله القضايا الدينية المهمة ..

ان الثورة لا تقوم الا بوسائل العنف والاكراه وحصيلة الثورات كلها في التاريخ هي الدولة الاكراهية، بينما يتحقق الاصلاح بالوسائل السلمية اولها الحوار . واذا كانت الدعوة الى سبيل الله تتم بالحكمة والموعظة الحسنة حسب النص المقدس وان كل انبياء الله هم مصلحين ودعواتهم اصلاحية وان الامام الحسين خرج لطلب الاصلاح في امة جده كما قال هو، وان الثورة مصطلح حديث ولم يكن متداولا الا في القرنين الاخيرين .. فمن الذي انتزع من الحسين الاصلاح والصق به الثورة ؟

لااعرف من غيب الحسين الاصلاحي واحتفل بالحسين الثوري!!؟. لكن اعرف ان غلبة الطقوسي عندما دخلت على التشيع لاهوتية متأخرة ساهم في تمرير هذه الطوباوية التي فيها وبها يكتمل تجفيف الاصلاحي وتسويق الثوري الراديكالي وهدم الحدود بين الديني والسياسي ليفضي هذا الهدم الى تحويل التشيع من منظومة فكرية الى منظمة ثورية، وحدث هذا في منعطف التحول التاريخي الذي نقل التشيع من مذهب اقلية خارج الدولة الى مذهب اكثرية حائز على الدولة، وبهذا بدأت المرحلة التي سبقت ولربما مهدت لزحف السياسي الثوري الراديكالي المتشدد على الفكري الاجتهادي المعتدل، وهذا الزحف لم يجد من سبيل الى تحقيق اكتماله الا عبر تجريد قضية الحسين من بعدها الاصلاحي وزجها في مطالب السياسة والصراع في سياق طقوسي ثوري تحريضي يطرح التشيع كأيديولوجيا سياسية تبحث عن صراع خال من الاهداف، بحيث تبدو الدعوة الثورية الحاثة على ان يكون (كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء) على مافيها من رغبة في الصراع الكوني .. وكأنها دعوة لهدم الاستقرار وهذا يقدم مبررا مجانيا – كما لفرانسوا تويال – ليقول ان الشيعية القائمة على بنية افهومية وايديولوجية ثابتتين يمكن ان تشكل رافعة لعدم الاستقرار في العالم فهي تقود صراعا تريده كونيا والشيعية تشبه قليلا التطلعات الشيوعية .

 السلام على الحسين الاصلاحي الذي قتله فكر العنف ويقتله يوميا فكرالعنف الثوري.

 

سالم الشمري

 

 

في المثقف اليوم