قضايا

المثقف والفقيه

نبيل دبابشمع الديانات التوحيدية، تم إزاحة الكاهن وإبعاده اجتماعيا، بصفته شخصا مريب ومفسد للسلوك والعقول، ارتبط وجوده بنظام فكري صار إلى الزوال التدريجي، ليفسح الفضاء الاجتماعي،بكامله، لفئة جديدة من المشرّعين وذوي الحظوظ، هم الفقهاء أو القساوسة أو الحاخامات. في القرون الوسطى، وبسبب طبيعة المجتمعات القائمة على الترحال والتكتل/النزاع العشائري المستمر، كان للفقيه أو القس أو حتى الحاخام حضور كبير في شتى المناسبات الاجتماعية والسياسية بما في ذلك وجوده أثناء الحروب إلى جانب قائد الجيش.

الفقيه– حتى نبقى في دائرة الفضاء العربي الإسلامي - هو المقرر والمشرف على الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وتوزيع للميراث، هو الإمام أثناء المراسيم الجنائزية وهو سند الحاكم ومستشاره ضد خصومه في مسائل العقيدة والاختيارات المذهبية. هو المعلم الذي يهتم بتعليم النشء والقاضي الذي يحكم بين الناس في الخصومات، هو السلطة الثانية غير الوراثية في البلاد. هو الممثل الأول والوحيد لثقافة السلطة وتوجهاتها المعرفية.

كل المناخ السياسي والاجتماعي للمجتمعات التوحيدية لا يقيم تميّيزا واضحا بين الثقافي/المعرفي وبين الديني/ الأخلاقي، ففي غالب الحالات يقرن الثاني بالأول ولا يفهم من دونه.

من دار القضاء إلى الكتاتيب أو الزوايا وبيوت رعاية الأيتام وتسييّر المال العام وخصوصا في مجالس السلطان/ الخليفة، ففي كل الظروف والتجمعات نجد للفقيه حضور قوي ودائم. يطلب رأيه، وحكمه مسموع ومصان.

نحن عندما نتكلم عن الفقيه، فإننا في الوقت ذاته، نقصد ذهنية الفقيه وسلطته المعنوية، ونظام كامل من التفكير تبنته مجموعة كبيرة من الفئات الاجتماعية من التي تحسن القراءة والكتابة مثل المحدّث وصاحب السيّر والمتكلم والقاضي والمفتي والمقرئ...هو نظام قائم على الثنائية وقدرة كبيرة على تبرير الاختيارات والتوجهات. هو نسق فكري يستند بالأساس على منطق قائم على التميّيز بين مقولتين: الحلال/الحرام. الأزلي/الأبدي. المباح/المكروه. النقل/العقل. الظاهر/الباطن. الشاهد/الغائب. الدنيوي/الديني. الدنيا/الآخرة. الولاية/الخلافة. الحر/المملوك. الشريف/الوضيع... هذا المنطق هو المعتمد في كل المؤلفات، حتى الفلسفية منها، خلال مرحلة طويلة من تراثنا الفكري والاجتماعي.

هو نظام من التفكير ينطلق من مسلمة أساسية غير قابلة للمراجعة، مفادها أن كل قديم صحيح ومطلق وحقيقي بينما كل آت أو محدث فهو مريب وهرطقة.انه عقل يستعمل القياس ويقرن كل حادث أو مستجد على ميزان القديم. هو نظام من التفكير لا يقيم للتعددية – بشتى مظاهرها الفكرية آو السياسية - وزنا ولا يعتبرها من الأمور المرغوب فيها أو المسموح بها، بل غالبا ما يصفها بالهرطقة والعصيان أو حتى الكفر. يقدس القديم ويخشى التغيير والتبدل.

في المقابل نجد فئة أخرى كانت،  تعيش على الهامش وحظوظها في النجاح الاجتماعي، بما تقدمه من قيم معرفية، ضئيلة نسبيا. هي الفئة التي تركت لنا تراثا جميلا لا نزال نحبه ونقرأه اليوم (الشاعر/ الفيلسوف/ الطبيب/المترجم/ المهندس/الرحالة...). هي فئة يطلبها السلطان أو الحاكم عند الحاجة، ولكنها تظل مجموعات غير متجانسة اجتماعيا. بعضها قد يختار النشاط في سرية وكتمان مواقفه أو التكلم بأسماء مستعارة بسبب قناعاته التي لا تتماشى والنسق الرسمي، أو بسبب انتمائه العقلي للفكر الإغريقي. هي عقل انفرد أصحابه باهتمامات مميزة جعلته ينفتح على تراث وجهود مجتمعات أخرى اشترك معها في السؤال.

كان لأحداث تاريخية متتالية بدءا من صدمة الحداثة وما خلفته من خدش عميق على الغرور العربي، خلال رحلة نابليون إلى مصر سنة 1798 م، ثم جاءت فترة شهدت أولى رحلات الطلبة العرب إلى أوروبا بدءا من القرن التاسع عشر للميلاد، لطلب العلم في المعاهد والجامعات.مما نتج عنه تغيرات اجتماعية ملموسة تجسدت في عصر جديد وتوزيع مختلف للمهام والمراتب... بعد الكتاتيب أو الزوايا ظهرت الجامعات ودور الطباعة والنشر وفئات اجتماعية بزيّ جديد وأسئلة جديدة، لقد أصبحت المرأة والخلافة وتطوير التعليم وتغيير مناهجه وتحديث حياة الناس والشعور بالضّعف والتخلف أمام الأوروبي هي من أهم هواجس النخبة...

رافقت هاته التغيرات الاجتماعية مواقف سياسية ثورية – بداية من القرن العشرين- لم يسبق للمنطقة العربية والإسلامية أن عرفتها...فمن تأسيس الجامعة ودار القضاء كمؤسسات دنيوية تستمد تنظيمها من النموذج الغربي، وتقويض سلطة الفقهاء في المدارس ودار القضاء على يد الشاه رضا بهلوي الأب في إيران، كمال أتاتورك في تركيا والحبيب بورقيبة في تونس، ظهرت فئة جديدة من المثقفين ذات التكوين الأكاديمي، اغلبها عائد من أوروبا، لتسهم في إحداث تغيّير كبير في موازين القوى داخل المجتمعات.

لم يعد القضاء شرعيا بل مدني يحتكم إلى دستور ويطبق القانون على الجميع دون أي اعتبار للانتماءات العقدية، ولم تعد المقابر تعرف التخصيص المذهبي الضيق الذي كان موجودا، بل صارت من اختصاص مصالح البلديات أو الأقاليم الإدارية. ولم تعد المدارس دورا للتلقين بل مؤسسات تعليمية تنجب الكادر الوطني الذي تنتظر كفاءاته المؤسسات الجديدة. أما في المجال الاقتصادي، فقد عرفت المنطقة العربية والإسلامية بداية لظهور البنك بديلا لبيت المال، ومؤسسات اقتصادية ومصرفية على الطراز الأوروبي، وظهور مجلس الشعب كبديل للهيئات الدينية ومجموعات من بأيديهم الحل والعقد.

سياسيا، شهدت المرحلة ظهور التعددية السياسية ومولد النقابات العمالية داخل المؤسسات الإنتاجية، ومجالس محلية تضم ممثلين منتخبين أو معينين، وأخرى وطنية ممثلة في مجلس النواب أو القضاء...

نعم لقد كان للاستعمار الأوروبي الذي شهدته المنطقة العربية – عموما – منذ نهاية القرن التاسع عشر للميلاد الدور الكبير في تغيير البنيات الاجتماعية والسياسية.بل هو أول من عمل على تدمير البنيات الكلاسيكية للمجتمعات العربية لتأسيس واقع جديد يتماشى وطموحاته التوسعية.

انتهى التصنيف القديم بين مثقف يعيش على الهامش وبين فقيه يمثل المعرفة الصحيحة، ليحل محله تصنيف أملته الظروف السوسيو- تاريخية الجديدة، فصار هناك مثقف عضوي مناضل يحمل مشروع سياسي أو يدافع عن مشاريع سياسية في إطار انتماءه الحزبي أو النقابي.ومثقف أكاديمي تكنوقراطي ارتبط تكوينه بالآلة الإنتاجية للدولة...في مقابل ذلك، نجد أن الفقيه قد تم تحويل مهامه إلى موظف أجير يشغل مناصب معينة تختارها له الدولة ضمن مجالس مكلفة بتسيير شؤون الناس العقدية.

بداية من ثورة الخميني سنة 1979 م وحرب أفغانستان، بدأ العالم العربي والإسلامي يشهد نداءات كثيرة ومحاولات سياسية كبيرة لإعادة ترتيب موازين القوى وتقويض نشاط المثقف النقدي أو العضوي، للإعلاء من صوت الفقيه وإشراكه في الحياة الاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية. ولكن هل هو ذلك الفقيه العالم من طراز النموذج الذي عرفناه في القرون الوسطى، أم هو مناضل سياسي يتكلم لغة الفقيه؟.

كان الدور الكبير لأحزاب وتيارات الإسلام السياسي هو إعادة إحياء النسق التقليدي واستعارة قاموس القرون الوسطى في الخطاب السياسي والإعلامي.. لم تستطع الدولة الوطنية القائمة – بالأساس – على أسس غير ديمقراطية في اغلب المجتمعات العربية إلا أن تعقد شبه تحالف مع خطاب يساعدها على تقويض سلطة اليسار وكل أشكال المعارضة السياسية الديمقراطية والاثنية... كان عصرا لميلاد أسئلة هي في صميمها تنبأ بمشروع سياسي.  يمكن تلخيص بعضها: ‘' القانون المدني و الشريعة '' '' الدستور و المنهج الشرعي '' '' الدين الصحيح و دين السلطة '' '' المرأة و العمل و الحجاب '' '' الزي الشرعي و الزي المقلد '' '' اسلمة العلوم الإنسانية'‘ ‘' كيفيات أداء الصلاة '' '' الشكوك المتعلقة بترقب هلال رمضان '' ....

هو عصر تحالف فيه الفقيه والسياسي متجاوزين الحدود الجغرافية، ومبني على مصالح إستراتيجية بعيدة المدى – حرب أفغانستان وبعدها النزاع في العراق وسوريا نماذج كافية لقراءة الواقع. هو أيضا عصر شهد استقالة كبيرة للمثقف النقدي وانزواء للباحث الأكاديمي وانغلاقه في أسئلة تعليمية.

لم تفكر السلطة في الدولة الوطنية في تأسيس أكاديميات للبحث العلمي والمعرفي ودعمها بقرارات تشريعية وسياسية شجاعة تؤمن لها الحماية القانونية، وان وجدت فهي خاضعة لرقابة بيروقراطية قاسية، ولكنها في المقابل تخصص مبالغ كبيرة من الميزانية السنوية لفتح قنوات الرقية الشرعية والإفتاء أو الدعاية السياسية المضادة...ربما بسبب غياب تصورات مستقبلية وإستراتيجية عميقة،بقي التفكير في مؤسسات أكاديمية مستقلة يعاني من صعوبات في التقدم والانجاز. وبسبب ضيق الرؤية – أيضا- وبتأثير من قوى الإسلام السياسي وثقافة الوصاية الدينية والسياسية، تتخذ الكثير من القرارات التي لا تصب في صالح تشجيع حرية التعبير والإبداع.

فمن فرض الرقابة على المقررات المدرسية والجامعية وبرامج القنوات التلفزيونية، وبحضور مكثف لمناضلي الإسلام السياسي في المؤسسات التعليمية، نشهد موجة تراجع كبيرة للمثقف النقدي وتخليه عن مجمل المشاريع الفكرية التي كان يحملها في الماضي القريب.

وبسبب ظروف الهجرة إلى البلدان الأوروبية واستقرار غالبية النخبة العربية هناك، ظهر مناخ فكري جديد – في العديد من الجامعات الأوروبية – يهتم بالثقافة العربية والإسلامية وفق مقاربات حديثة، لا يصلنا منها إلا بعض الأخبار المتفرقة والمنقوصة او حتى المشوهة. وتبقى السلطة في البلدان العربية عاجزة على تبني هذا المناخ الفكري في مؤسساتها الحكومية أو حتى السماح ببيع أعمالها.

نحن لا نعيش أزمة للثقافة فحسب ولكن أيضا أزمة مثقف، فإلى جانب الإشكال المعرفي الذي غاب عن الفضاء العربي من خلال تخلي النخبة عن الأسئلة الشجاعة للاهتمام بالأسئلة '' المقبولة ''، هناك إشكال وجودي تمثل في هجرة الأدمغة إلى مجتمعات توفر لها العديد من شروط الإبداع وحرية الكتابة بعيدا عن القيود الكلاسيكية.

المثقف في منطقتنا العربية، ضحية ومتعب ومتهم وفاقد للفضاء. بسبب لغة الوصاية التي تتكلمها القوى السياسية وبعض الدوائر السيادية في الأنظمة العربية، يصبح من الصعب أن تنجح كل المبادرات أو أن يتغيّر الوضع نحو انفتاح عملي على لغة العقل والحوار.

 

نبيـــل  دبابـــــش - الجزائر

 

 

في المثقف اليوم