قضايا

الحبيب الواعي: فعل الترجمة بين متطلبات الاقتصاد الرأسمالي وأخلاقيات الليبرالية الأَنَسِيّة

أولا، أنا لا أدعي أن أنني راكمت تجربة مهمة أو حققت منجزا هائلا في ميدان الترجمة والدراسات الترجمية التي باتت تشغل اليوم حيزا مهما في مجالات عديدة ليس فقط داخل العلوم الإنسانية بل أيضا في العلوم الأخرى بعد أن كان ينظر إليها كنشاط ثانوي تابع لأنشطة ثقافية أكثر أهمية.  ولجت مجال الترجمة من باب الدراسات الأدبية وبالخصوص من خلفية ترتبط باهتمامي بالأدب المقارن والأدب العالمي الذي تعرفت على تاريخه ومدارسه ومبادئه من خلال اطلاعي على كتابات غوته، وويليك ووارن وإتييمبل ودامروش  وباسكال كزانوفا وغيرهم. انبهرت كثيرا بالقيم والمبادئ التي استند عليها الأدب المقارن، وبعده الأدب العاملي، بالرغم من الأزمات التي مر منها في تأثره وتفاعله مع نظريات ومنهجيات ومفاهيم أخرى لها علاقة بالانتماء الثقافي والقومي. شخصيا، لم يسبق أن فكرت في الأدب وقيمته كنسق أو نتاج جمالي يرتبط حصرا بقومية أو ثقافة أو جنس أو عرق أو لغة محددة، بل اعتبرته على الدوام حقلا معرفيا يهدف إلى تجاوز تخوم الانتماء وحدود القومية بتأكيده على أهمية الإبداع كخطاب عابر للقوميات والأوطان.

كانت قراءاتي الأولى لمختلف الأجناس الأدبية باللغة العربية في قرية أمازيغية صغيرة لا تتوفر على مكتبة مدرسية أو عمومية. اطلعت حينها على معظم القصص القصيرة والروايات والدواوين الشعرية التي كنت أشتريها أثناء زيارتي للأسواق الأسبوعية بالمدينة المجاورة. بعدها انفتحت على اللغة الفرنسية فقرأت بها أمهات كتب الأدب الفرنسي التي خطتها أنامل موليير، وراسين، ورونسار، وشاطوبريان، وهيغو، وبالزاك، وفلوبير، وزولا، وكامي، وسيلين، وسارتر، قبل أن أقع في حب اللغة الإنجليزية أثناء دراستي الثانوية. كان للغة الإنجليزية أثر كبير وراسخ في تكويني الشخصي والعلمي حيث فتحت لي آفاقا جديدة أطلعتني على ثقافات وشعوب وتجارب إنسانية مختلفة. أصبحت أقرأ لأدباء عالميين ينحدرون من افريقيا وأسيا وأمريكا وأستراليا وكندا، وأمريكا الجنوبية، وجزر الكرايبي، أدباء لم تتح لي الفرصة لأتعرف عليهم وعلى انشغالاتهم، وعلى أسلوبهم في الكتابة بسبب عائق اللغات المختلفة. بدا الأمر وكأن اللغة الإنجليزية قلصت المسافات واختصرت الأزمنة وحافظت على الجهد المبذول بما وفرته من ترجمات للآداب العالمية. كان الأدب بعوالمه المتخيلة يمثل بالنسبة لي العالم الذي كنت أتوق إليه والبديل الممكن لظروف الفاقة والحاجة التي كنت أعيشها. هناك في أحد أركان غرفة كئيبة ومهملة شيدت بلامبالاة على سطح المنزل كنت أنزوي وأتيه في عوالم شكسبير، ودانييل ديفو، وطوماس هاردي، واوسكار وايلد، وجيمس جويس، وهمنغواي، وجون ستاينبك، ولانغستون هيوز، وجيمس بالدوين، وشينوا أشيبي، ووول شوينكا، و أيي أرما، وماريما با، وديريك والكوت، وجميكا كنكيد، وجورج لامين، وبورخيس،  وماركيز، وكورتزار، وأوكتافيو باز، وفيرجينيا وولف، وجيرترود ستاين، ودستويفسكي، وتولستوي، وكوغي، وبوشكين، وكونترغراس، وهولدرلين وريلكيه وغيرهم. أدركت حينها أهمية الترجمة كمجهود نبيل يروم تقليص الهوة بين الثقافات والشعوب، كأداة تساهم في توسيع الإدراك ونشر الوعي، فانشغلت بتعميق إلمامي باللغات التي تعلمتها بالإضافة إلى لغتي الامازيغية. كنت كلما فرغت من قراءة نص أدبي في لغته الأصلية إلا وتمنيت أن أتقاسم هذه الغبطة الروحية واللذة الحسية التي اشعر بها مع أكبر عدد ممكن من القراء في اللغات التي أتقنها، وفي نفس الوقت كنت أتمنى أن أقرأ النصوص المترجمة في لغتها الأصلية والتي لم أكن أتقنها. كنت أحس بأن كل نص أدبي له تأثير خاص وهالة جمالية فريدة في لغته الأصلية يفقد جزءا منها في كل عملية نقل ترجمي يتعرض لها. وهكذا صرت اهتم بالترجمة كمجهود شخصي يسعى إلى محاولة نقل لذة الأدب والفن والفكر باعتبارها مجالات تمثل معينا لا ينضب لأسمى ما يصبو إليه الإنسان من قيم لتحسين ظرفه الوجودي.

كان للأدب والفكر في علاقتهما بالترجمة وما تحمله من قيم إنسانية مشتركة تأثير كبير على شخصيتي وتصوري للحياة فقد دفعت بي مجالات المعرفة تلك إلى الانفتاح على الآخر وجعلتني أتوق إلى استكشاف ثقافات وجغرافيات أخرى مختلفة عن موطني. كافحت بما توفر لي من موارد مادية محدودة للحصول على تأشيرات تسمح لي بالسفر إلى دول مختلفة تعرفت عليها من خلال الأدب والفكر، وتخول لي فرصة لقاء كتاب وشعراء وفنانين كنت أطلع على كتبتهم وكانت تشغلهم نفس القضايا الإنسانية التي ترتبط بالأساس بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتعايش السلمي والإيمان بالاختلاف. شكلت رحلاتي إلى أمريكا وكندا وتركيا وأستراليا وأوروبا منعطفا مهما في حياتي الشخصية وتحصيلي العلمي فقد استكشفت خلالها مواقع تاريخية وثقافية وأيكولوجية مهمة والتقيت بكتاب وشعراء وفنانين كانت تربطهم علاقة وطيدة بأدباء جيل البيت الذي كنت أعد حوله أطروحة الدكتوراه. في 2013 خلال مؤتمر عن جيل البيت، التقيت بآن ولدمان، إحدى أبرز شواعر مدرسة نيويورك وإحدى أقرب صديقات ألن غينسبرغ فاستدعتني للمشاركة في دروس الكتابة الإبداعية التي يلقيها مجموعة من الكتاب البارزين بمدرسة جاك كيرواك للشعر بجامعة نروبا بكولورادو كل صيف.  هناك سأتلقى دروسا في الكتابة الإبداعية وانفتح على الترجمة من خلال كتاب ومترجمين بارزين يهتمون بالإنسانيات المقارنة أمثال آن كارسن المتخصصة في الأدب الكلاسيكي، وجاك كلوم المهتم بالشعريات الإيكولوجية، وريد باي المهتم بالفكر البوذي، وسيسيليا فيسونا المهتمة بالفنون وثقافات الشعوب الأصلية، وإيمي كتانزانوالتي تدرس تقاطعات الشعر والعلوم في نظريتها عن "شعريات الكوانتم". هناك ستتبلور أولى أفكاري عن ترجمة أشعار جيل البيت، ومدرسة نيويورك، ونهضة سان فرانسيسكو وكوليج بلاك ماونتن إلى اللغة. كان لي أيضا شرف لقاء الصديق الشاعر مايكل روتنبرغ مؤسس حركة مائة ألف شاعر من أجل التغيير، والذي سبق أن تبادلت معه رسائل عن الكتابة الإبداعية والحياة الثقافية في السبعينات ومشاكل البيئة وبالخصوص عن تجربته مع بعض كتاب جيل البيت الذين كانت تربطه علاقة وطيدة بهم، خاصة الشاعر مايكل مكلور والشاعرة جوان كايغر اللذين عرفني عليهما خلال زيارات خاطفة. هناك في سانتا روزا بكاليفورنيا سيبدأ مشروع ترجمتي لديوان مايكل روتنبرغ الذي توفته المنية عام 2022، وبعد العودة من الغرب الأمريكي إلى الضفة الشرقية سألتقي ببوب هولمان وبعض شعراء جماعة نيوريكان كما التقيت أيضا بالشاعرة والفنانة أمينة بركة، زوجة الشاعر أميري بركة، أحد أقطاب حركة الفنون السوداء، والذي ترجمت بعض أشعاره ونشرتها في الأنثولوجيا المذكورة.

الترجمة إذن مشروع إنساني نبيل وضروري يهدف إلى نقل المعرفة والفكر الإنساني في شتى تمظهراته من حيز جغرافي معين ومن لغة معينة ويجعله متوفرا في مختلف بقاع العالم. إنها محاولة إنسانية، قبل أن تكون مهنة مدرة للربح أو مشروعا سياسيا يرجى من خلاله اخضاع الشعوب كما فعلت قوى الاستعمار في عصور مختلفة، الترجمة نابعة من قناعات الشخص، وتطمح إلى ربط جسور التواصل مع الذوات والألسن، والثقافات الأخرى من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والتعايش السلمي.

الترجمة عملية مضنية لأنها تتعامل مع أنظمة لغوية معقدة وغير متساوية كما تقول نظرية سابير-وورف، كما أنها يمكن أن تنطوي على تحيزات وتناقضات كما بين التوجه النسوي والتفكيكي الذي دعا إلى قراءة نقدية مزدوجة لما أنتجه الفكر الغربي من خلال تفكيك مكونات النصوص للوصول إلى المعاني التي تخفيها متجاوزا مفهوم الحقيقة الثابتة.  إنها مجهود فكري يبدو ضروريا ومستحيلا في نفس الوقت لأنها تخضع أيضا لعلاقات القوة الملموسة والمجردة، تلك التي تخترق الجغرافيات المتعددة للعالم وتكتسح البرامج السياسية والسياسات الثقافية لصانعي القرار. في هذا الصدد، يؤكد جاك دريدا على حاجة المترجم إلى التفاوض مع ما لا يقبل التفاوض من خلال نسق علاماتي معقد واعتباطي يحكمه سياق معين لترجمة ما لا يمكن ترجمته.

الترجمة بهذا المعنى تصبح ممارسة اقتصادية تتأرجح بين الاحترام والاستغلال لأنها تسعى إلى الاستملاك والاستيلاء الذي يهدف إلى نقل المعنى المناسب من النص الأصلي إلى اللغة الأم بالطريقة المناسبة بأقل عدد ممكن من الكلمات لتفادي أي خسارة. يتضح هذا العامل الاقتصادي وتبعاته في طبيعة العلاقة التي تربط بين المترجم والناشر والسوق حيث يجد المترجم نفسه في أغلب الأحيان يستجيب لاختيارات الناشر التي تفضل أعمالا ألفها كتاب معروفين يمتلكون قاعدة قراء واسعة، ويتخلى عن اختياراته الشخصية التي تحددها غاية نبيلة في تقاسم المعرفة ونشر الوعي، كما يضطر في نهاية المطاف إلى التخلي عن مقابل مادي يكلل جهوده في سبيل تأميم الرأسمال الثقافي المترجم. في ظل ظروف الرأسمالية المعولمة، يمكن للترجمة أن تصبح ضحية عندما لا تغدو أن تكون سوى أداة تواصلية للعولمة التي تصبو إلى جعل العالم قرية صغيرة في نفس الوقت الذي تهدد فيه باختزال اللغات الإنسانية في لغة واحدة لأغراض اقتصادية في غالب الأحيان، وهو خطر يجب أن ننتبه إليه كي نتفادى انقراض واختفاء اللغات العالمية التي تحمل في طياتها تجارب ثقافية إنسانية متميزة وتحمل ذاكرة تاريخية فردية وجماعية.

تقول غياتري شاكرفورتي سبيفاك أن «الترجمة هي فعل القراءة الأشد حميمية" وفيه يستسلم المترجم للنص بعد أن يحصل على إذن الآخر المختلف للتجاوز والانتهاك والخيانة من خلال اللغة حيث تتجاوز الذات حدودها. لهذا السبب نجد أنفسنا كمترجمين وكممارسين لفعل الترجمة مرغمين على دخول ما أسمته سبفاك حلبة الأخلاقي-السياسي لأن الترجمة في نهاية المطاف هي "محاكاة بسيطة لمسؤولية أثر الآخر في الذات" وتستدعي تجاوز أغلال الهوية الشخصية أثناء إعادة إنتاج النص وكأن المترجم يشتغل باسم أو بسند ملكية في ملكية الذات الأخرى1.   تدعو سبيفاك إلى أخذ المنطق بعين الاعتبار واستبعاد التشويشات والإزعاج الذي يمكن أن يأتي من البلاغة لضمان السلامة في عملية تحضر فيها المجازفة والعنف اتجاه الواسطة المستعملة في الترجمة. ولهذا يبدو أنه ضروري من الناحية الأخلاقية استحضار قيم مشتركة من قبيل الحصافة والعدالة والمساواة والديموقراطية والحق في الاختلاف وحتى الحب الذي تتساءل سبيفاك عن مكانته ودوره فيما هو أخلاقي. يكمن دور المترجم، في رأي سبيفاك، في تبسيط هذا الحب الذي يربط بين الأصلي وظله، حب يسمح بالإبلاء والإنهاك، ويبعد فاعلية المترجم ومتطلبات جمهوره المتخيل أو الحقيقي2 ، وهي إمكانية تلغيها سياسات الترجمة من نصوص لا تنتمي للموروث الأوروبي لأن المترجم لا يتفاعل بشكل كاف مع بلاغة النص الأصلي. لكي يكون المترجم إذن أخلاقيا وسياسيا في الآن نفسه يلزمه أن يعي هذه العلاقة الخشنة التي تربط المنطق والبلاغة اللذين يمثلان، حسب سبيفاك، شرط ونتيجة المعرفة، فالمنطق يخول الانتقال من كلمة إلى كلمة بواسطة قرائن مشار إليها بدقة بينما البلاغة تلتزم بالاشتغال على الصمت الموجود بين وحول الكلمات وتحافظ على أدبية ولذة النص3.

سأختم بالتذكير بأهمية اللغة والثقافة الأم في أي مشروع يهتم بالترجمة، خاصة في ظل ظروف العولمة التي تختفي فيها الخصوصيات الثقافية والممارسات الاجتماعية ذات البعد الكوني. يجب إعادة رد الاعتبار للغات الأصلية وللأدب الشفهي والشعريات الإثنية التي تذكر دوما بأهمية الحفاظ على النظام الايكولوجي المعقد على هذا الكوكب، وعدم تفويت جميع السلط وملكات التفكير الإنساني لآلات ميكانيكية مرقمنة تمارس نوعا من القمع أو العنف الإبستيمي دون أن تحترم خصوصيات الذوات الفاعلة وحساسياتها.

***

د. الحبيب الواعي

شاعر ومترجم وأستاذ مساعد بشعبة الدراسات الإنجليزية وآدابها بجامعة ابن زهر بأكادير، المغرب.

......................

1- ص 320.

2- نفسه ص321

3- نفسه ص 322

في المثقف اليوم