قضايا
إشكالية المثقف الأهوازي
نحن المثقفون أصبحنا بسطاء وغافلين ومستهلَكين، حالنا حال الانسان العادي ولا فرار من الاستحمار الحديث مادمنا لم نشغّل كل قوى عقلنا ولم نخلّص أنفسنا من الدعايات الهشة والتعاليات الفاضية. إنّها حرب إحتوائية شرسة تختلف في ميادينها وآلياتها وجنودها. لاستحمار الإنسان العادي تُستخدم آليات وجنود تختلف تماما عما تستخدم لاستحمار المثقف؛ حينما أقول "مثقف" أعني كلّ ناشط مدني وناشطة، كل كاتب وكاتبة، وكل فنان أوفنانة يزعم أنه مختلف عن الإنسان البسيط بقبوله مسؤولية تغيير الواقع من خلال نشاطاته الثقافية أوكتاباته أوفنونه. أعوام مضت وتقدمنا تقدماً سلحفاتياً بامتياز فاعتزلنا في أبراجنا العاجية التي أصبحت منصات اعلامية تقودها الصداقات الحقيقية والمجازية. نعم إننا اعتزلنا هذا الإنسان الذي بحاجة إلينا وأصبحنا غرباء عنه ولربما عن أنفسنا ولو تمعّنّا أكثر لرأينا مأساتنا.
لقد انغمسنا في إطار صغير نحلم ونأمل بأن التأريخ ربما يسجله لنا وسوف ندخل مواثيق الأجيال القادمة. إننا عملنا وبحرقة في هذا الإطار الصغير ولا نعلم أننا مؤطرون أساسا، نمارس الحرية في خطاباتنا العشوائية لكننا غير واعين بأن هذه الحرية المزيفة هي أداة حديثة لتخديرنا وتخدير أفكارنا. إننا واعون تماما بما يجري من أحداث ووقائع حولنا، أي إننا نحيا وسط الأزمة لكننا فاقدون لهذه الدراية النفسية والإجتماعية المنشودة. وما هذه الدراية النفسية يا ترى؟ يقول الدكتور علي شريعتي عندما يصل الفرد إلى هذا النوع من الدراية يعرف في الدرجة الأولى إلى أي عرق وأصل ينتسب، وبأي أمة، وأي شعب يرتبط، وإلى أي تأريخ وأي حضارة وأي فترة زمنية وأي أدب ينتمي وإلى أي مجد وقيم يمت، يعرف هذه المظاهر كلها ويأنس بها ولا يتخلى عنها بأي ثمن ولا يساوم على الأنا والنحن مهما كانت العقبات.
إننا بلينا بلاوعيٍ حديث وهذا واضح تماما في أغلب اعمالنا الثقافية والأدبية والفنية التي قمنا بها في مجتمعنا فتشتتنا وتفرق شملنا، وتأريخ العمل الثقافي الفردي والمؤسساتي خير شاهد على ذلك. إنّ هذا المثقف غير الواعي لا يعرف أنه أصبح أداة تخدير أيضا، أداة تخدير كبرى ومؤثرة وأصبح مخترقا، ومستهلكا من نوع آخر وستضيع فرصة تأثيره وثمرة جهوده وكفاحه إذا لم يقم من غيبوبته ويترك معارك الشهرة الكاذبة والغضب الإلكتروني الفاحش الذي ملأ الفضاء الافتراضي.
حتى يُبقوا الحق مجهولا يختلقون لنا وبيننا حروبا ايهامية فارغة فتنشغل الأذهان بها مدة مديدة. إنه لأمر عجيب. إن المثقف بات لايشعر بانضمام نفسه بمجتمعه وشعوره بالمسؤولية وبأنه رائد وقائد للتصدي من آفات مجتمعه ولهداية أبناء شعبه. إنه قد لا يستطيع هداية أسرته حتى. فلقد بلغ هذا المستوى من الضعف وعدم الثقة بالنفس.
كثير من التعليقات والردود تطالب بعمل يجمع الغالبية، أمنية نتمناها، والمتلقي يرانا من خلال شاشة نقاله يا حلينا ويا زيننا، لكن السؤال هنا: هل تعلمون ما في الدواخل؟ الغالبية منا يملك شخصيتين، شخصية لكم أيها القرّاء والمتفرجون وشخصية أخرى لأنفسنا. هذه حقيقة ذكرها عبدالله السدحان. إننا نعيش شخصيتين، شخصية حقيقية وشخصية مجازية.
إننا جموع المثقفين أبدلنا أساليب عملنا الحقيقية إلى أساليب افتراضية مزيفة وخنوعة لم تنتج إلا سوء الفهم والبغض والعزلة عن بعضنا البعض. إننا تفرقنا ونحن نعيش في أسرة واحدة كانت غايتها الكفاح للنيل من حياة كريمة. لا أعرف. ربما هوذا اصطدام النخب الذي تكلم عنه الفلاسفة والذي غيّر مسار شعوب عدّة وأفشلهم، وربما إنّه الحسد أو الغيرة من بعضنا ، حسد النخبة أو غيرة النخبة وكل هذه أساليب حديثة لاستحمار المثقفين. أخي المثقف ، أختي المثقفة يمكنك التخلص من الحسد وهو أن تستمتع بالمسرَّات التي تأتي في طريقك، وأن تقوم بالعمل الذي عليك فعله، وأن تتجنب المقارنات التي تَعقِدها بأولئك الذين يشغلون ذهنك، وأنت واهم في ذلك تماماً بأنهم أكثر منك حظاً.
إن الكاتب والناشط والفنان الأهوازي قد ناقش الكثير وحلل الكثير ووثق الكثير من الظواهر والوقائع لكنه لم يدرس ويحلل سلوكه الفردي والمجتمعي. إن لم يدرس الواقع ولم يعط حلولا مضمونه ستسحقه الأجيال الحاضرة والقادمة دون أدنى رحمة. إن حلوله ربما ترضي بعض متابعيه الغافلين أيضا وتعطيه شيئا من الراحة النفسية لكنها مالبثت أن اختفت، فالعزة لمن درس وعمل وجهد وثابر لحلحلة القضايا التي يعاني منها ناسه وأوصل تلك الحلول لواقعهم. حقا ما أسخف هذا النوع من المثقفين الذين يموتون جوعا وعطشا وبؤسا ولغةً وثقافةً وهويةً لكنهم يعيشون على خطابات رنانة وبيزنطيات فارقة ومطلقات خاوية ومتعاليات هشة. إن أغلبنا أصبح قليل الجدوى في مجريات الأحداث والأفكار وبقي على الحياد المزعوم ولا يعلم أنه لربما لم ينصر الباطل لكن من المؤكد قد خذل الحق بحياده ولا يعلم أيضا إن أحلك الأمكنة في الجحيم من نصيب اؤلئك الذين يقفون على الحياد ساعة الأزمات! إنك مسؤول أيها المثقف، أيها الإنسان، أيها المحايد الذي اتخذت مسلك النعامة ساعة الأزمات.
أما ترون أيضا إننا نطرب على الغريب ونشمئز من القريب، نتقبل نقد الغريب وسخطه ولا نتحمل نقد القريب. إننا نساهم في غياب الوعي الجماعي بشكل لا إرادي وأصبحنا طرفي قتال وخناع ونزاع بالرغم من أننا في صف واحد وغايتنا واحدة. إننا في قارب واحد دون أشرعة ولايسير ذلك القارب نحو الخلاص من أفواه التماسيح إلّا إن اتفقنا وجرفنا كلنا في ذلك الاتجاه المقصود، هذا بمجدافه، وهذا بعصاه وذلك بيده.
إن هذه الحرب الغير مباشرة التي أمستنا نتصارع حتى نمزق أنفسنا وقاربنا هي إحدى الأدوات التي خدرتنا وألهتنا عن تلك الدراية النفسية والاجتماعية وأشغلتنا عن قضايا أهم وأحرى تنجينا من مرقدنا هذا.. إننا تهمّشنا من حيث لا ندري وغرقنا في سبات ايدئولوجي وعقائدي وثقافي بعيد عن واقع الحياة وهذا هو الاستحمار بعينه شئنا أم أبينا. إنه ليس إستحمارا من الطراز القديم بل إنه حديث وله جنود مجازية تعمل ليلاً ونهاراً لتضيق الخناق أكثر وتزرع الفتنة والتشاجر والنميمة وتشن حروبا وهمية وكاذبة على الضحايا من المثقفين الآخرين بغية أن تنال من ثقتهم بأنفسهم وتجعلهم عاجزين عن الانتقاد أو الاستفسار.
إنه بالفعل لَمِن سوء الحظ ألّا ندرك نحن جموع المثقفين مايرادُ بنا وكيف تستغل أفكارنا القريبة من بعضها إلى صراعات مجازية دامية، ويصيب غيرنا الهدف ونحن نفشل في إصابة أهدافنا ولا نشعر. لماذا نفشل دائما يا ترى؟. لنعِ نحن جموع المثففين بأنّ
أي عمل نعمله إذا كان بعيدا عن الوعي الشامل يصبح كاذباً وغاشماً وعاقبته الذلّ والهوان والعبودية.
سعيد بوسامر - باحث من الأهواز
................................
المراجع التي راجعها الكاتب:
- Thomas, Sowell (2009), Intelecuals and society, Published by basic books.
-خالد تركي آل تركي: من سلوكيات المُثقَّف العربي، ٢٠١٩.
-علي حرب: أوهام النخبة أو نقد المثقف، نشر المركز الثقافي العلمي، ٢٠٠٤.
-علي شريعتي: النباهة والاستحمار، الدار العالمية للنشر، ١٩٨٤.