قضايا

يقظة الفكرة العربية عند نجيب عازوري (1-2)

ميثم الجنابيإن الفكرة الكبيرة لا تظهر بين ليلة وضحاها، رغم أن عنفوانها أشبه ما يكون بتيار الحدس المعرفي. وفي هذا يكمن سرّ جبروتها المثير والمحير. وذلك لأنها تحتوي بقدر واحد على قوة الإثارة والاندهاش. وليس هذا في الواقع سوى الوجه الملطف لخشونة المعاناة المختبئة وراء تحول الزمن إلى تاريخ، وتراكم القيم في منظومات عملية، وتبدّل القواعد الخربة بنحو القلوب العامرة، وانتظام الأفكار المتنوعة والمتضاربة في فكرة، أي كل ما يتوافق في عرف اللغة والواقع مع الاستفاقة والنهضة. فكلاهما حلقات لعملية واحدة. وليس مصادفة أن تتحول الصيحة التي أطلقها إبراهيم اليازجي للمرة الأولى في قصيدته البائية الشهيرة (أيها العرب!) (1878)، والعنوان الذي وضعه نجيب عازوري لكتابه (يقظة الأمة العربية) (1905) في الوعي الذاتي العربي إلى بداية الوجدان القومي ونهاية تكامله النظري الأولي في فكرة سياسية واضحة المعالم والغاية.

غير أن لكل بداية ونهاية وسط يحتمل ويحمل في جوفه ما انتهت إليه قصيدة اليازجي في حدسها الشعري العميق عندما قال، بأن "من يعش ير والأيام مقبلة، يلوح للمرء في أحداثها العجب". وما بين العيش أو الوجود الحالي وما يلوح في الأفق، كانت تتراكم كمية ونوعية الفكرة العربية الناهضة، أي الوجه الآخر أو التكملة النظرية والعملية لفكرة النهضة الأدبية والإصلاحية.

فقد أحتوت فكرة النهضة الأدبية العربية والإصلاح الإسلامي والسياسي في العالم العربي على مقدمات ومكونات الفكرة العربية (القومية). فقد كانت هذه الأخيرة الصيغة الأكثر احترافا ووعيا وتجسيدا وتخصيصا لوحدة النهضة والإصلاح. وذلك لأن فكرة النهضة والإصلاح كانت تتمحور من حيث همومها، وتستند من حيث مادتها، وترمي من حيث غاياتها، إلى كيان عربي غير واضح الهوية، لكنه كان يسري فيها بوصفه كينونة ما وراء الحس والعقل والحدس. ومأثرة التيار القومي العربي الصاعد كانت تقوم في تحويل هذه الكينونة إلى كيان سياسي. ولم يكن هذا بدوره معزولا عن التراكم الخفي لفكرة التجمع والتجميع والترابط والتوحيد الذي نعثر عليه في ظهور ونمو الجمعيات والروابط والعصب والمنظمات والأحزاب، أي التراكم الذي يعكس من حيث تنوع الأسماء وكميتها نوعية التحول الخفي في وعي الفكرة العربية القومية. فقد ظهرت (الجمعية السورية) التي أسسها بطرس البستاني وناصيف اليازجي عام (1847)، و(الجمعية السورية) التي أسسها سليم البستاني ومنيف خوري في بيروت عام (1868)، والجمعية العربية السورية عام (1875)، و(جمعية حقوق الملة العربية) التي سعت إلى توحيد العرب بغض النظر عن الإنتماء الديني عام (1881)، و(جامعة الوطن العربي) التي أسسها نجيب عازوري عام (1904)، و(جمعية الوطن العربي) التي أسسها خير الله خير الله عام (1905).

وسبقت هذا الاتجاه العملي السياسي محاولات عديدة وتراكم فكري ومواقف سياسية أخذت بالتمحور حول فكرة العرب، والعروبة، والعربية، والعالم العربي، والوطن العربي، والأقطار العربية، وتراث العرب، ودين العرب، وأمة العرب، والقومية العربية، والعنصر العربي، والعنصرية العربية، والجنسية العربية، وما شابه ذلك، أي كل الأجزاء الآخذة في الترابط والتكامل في ما يمكن دعوته بالفكرة العربية الناهضة. وإذا كانت قصيدة اليازجي (1878) تمثل الصيغة الأولية الأكثر وضوحا وبروزا فلكونها كانت أقرب إلى النشيد الأدبي الأكبر لصيرورة وعي الذات القومي بوصفه هوية سياسية. فقد كانت قصيدة اليازجي الصيغة الأكثر غلوا للوجدان القومي، والأكثر صدقا من حيث اللهجة والمهجة والوجدان. بل وكانت أيضا الصيغة الأكثر مباشرة في النقد الذاتي. فالهجوم العنيف فيها كان موجها أساسا صوب العرب ومن أجلهم في الوقت نفسه. فقد احتوت القصيدة على (48) بيتا شعريا، (35) منها مخصصة للعرب، توزعت بين (17) بيت قاسية اللهجة في نقدها للخمول والذل والاستكانة والمهانة والعبودية العربية في ظل السيطرة التركية. بينما تدعو البقية الباقية (14) العرب للاستفاقة، أي إلى اليقظة والنهوض والتحدي، بينما تتضمن (4) أبيات التذكير بعظمة الماضي التي ينبغي أن تقف أمام أنظار العرب المعاصرين باعتباره مصيرهم المحتوم. أما الأبيات الشعرية القاسية في موقفها من الأتراك فهي (12) بيتا، ليست من حيث الجوهر سوى الوجه الآخر والمكمل لنقد الذات. أما البيت الأخير (من يعش ير والأيام مقبلة، يلوح للمرء في أحداثها العجب)، فإنه تكثيف لمضمون هذا النشيد القومي العربي الأول والأكبر آنذاك. ففيه نعثر بصورة واضحة وجلية على مستوى الحس والعقل والحدس لحالة جمع وتجميع وتكثيف الهموم العربية الكبرى (الهوية والحرية والاستقلال) في همّ عربي واحد يجمع هموم الأنا (العربية). وليس مصادفة أن يظهر بعد ذلك سيل المقالات التي تحتوي على صدى فكرة الاستفاقة، أي النهضة والإصلاح وأشباهها من خلال تركيزها على واقع العالم العربي وماضيه، وبروز كلمات "نحن" و"العرب" و"الأمة العربية" و"القوم العربي" وما شابه ذلك. ومع أن أغلب هذه الكلمات لم تكن واضحة الهوية في بداية الأمر، إلا أنها كانت تحتوي على مستوى الحس والوجدان معنى الشعور القومي، ومن ثم بداية الأفكار الكبرى للفكرة القومية، أي صيغتها العقلية وتأسيسها النظري اللاحق.

إن ظهور الأفكار الكبرى هو الوجه الآخر أو الصيغة المنطقية لمعاناة كبرى وتاريخ أكبر ومستقبل يتسم بقدر واحد من الجلاء والغموض، أي الأكثر إثارة للاجتهاد، ومن ثم لاختلاف الرؤية والمناهج. وحالما تبلغ هذه الأفكار مستواها النظري، بوصفها الصيغة المنطقية لإدراك صيرورة التاريخ الواقعي للفكرة نفسها، عندها تأخذ في التراكم والتجسّد على قدر ما فيها من تجانس ووضوح، وعلى قدر ما فيها من استجابة للواقع وإمكانياته الفعلية، إضافة إلى أثر المصادفات المثيرة للزمن والأحداث.

فالانعطافات التاريخية الكبرى للوعي الاجتماعي والسياسي، التي أنتجت في مجرى معاناته المتنوعة فكرة النهضة والإصلاح في الدولة العثمانية، كانت تحتوي في أعماقها على تراكم الفكرة العربية ذاتها. وذلك لأن النهضة كانت تحتوي في أعماقها على ضرورة الرجوع إلى الماضي، بينما كان توجهها صوب المستقبل يحتوي على إنهاض للعقل والضمير والوجدان. وكلاهما كانا يؤديان إلى فكرة النهضة على أنها استرجاع لتاريخ سالف أو تطوير له. والشيء نفسه ينطبق على الإصلاح. وذلك لأنه كان يحتوي على مهمة وطاقة تحريك البنية المتخلفة والراكدة. مما كان يلازمه بالضرورة إثارة الأسئلة المتعلقة بالأسباب والنتائج، أي الاحتكام إلى فكرة السببية والعمل بموجبها. وكان هذا يتضمن أيضا على فكرة الاعتماد على النفس وقواها الذاتية. وكلاهما كانا يضعان رجل العلم والمعرفة والثقافة العامة والخاصة والتاريخ واللغة والأدب والسياسة أمام الحالة الخربة للدولة العثمانية، أي أمام الحالة المزرية التي انحطّ إليها العرب والتاريخ العربي.

ومن تداخل هذين التيارين برزت ملامح النقد والمواجهة والتحدي والصراع واختلاف الرؤى. وليس مصادفة أن نعثر على كل هذه الملامح في دهاليز العوالم الخفية للنهضة الأدبية، بوصفها نهضة الروح اللغوي والمعنوي (الأدبي) العربي. فإنهاض اللغة العربية والأدب العربي يعني إنهاض الضمير والوعي التاريخي العربي وما يلازمهما من استعادة أدبية نقية وصافية وتهذيب للقيم القومية المباشرة. ومع كل تهذيب وتشذيب لهما، تتوقد وتنبري شدة النقد الذاتي وشدة النقد العربي. بينما كانت الفكرة الإصلاحية تقف أمام مهمة تجاوز وتذليل عقبات الانحطاط والتخلف من أجل مستقبل يوازي في صداه عظمة الماضي وفي مداه انجازات الحداثة العالمية (الأوربية آنذاك). وهذا بدوه يستحيل التحقيق دون نهضة من طراز جديد تتجاوز نهضة الروح الأدبي إلى نهضة الروح السياسي. وقد حصل هذا التجاوز على تعبيره الأول في كلمة اليقظة، بوصفها استفاقة ونهوضا من سبات الخمول السياسي القومي، كما هو جلي في كتاب نجيب عازوري (يقظة الأمة العربية) المطبوع عام 1905[1].

ولم يعن هذا من الناحية التاريخية الملموسة والنظرية المجردة سوى تنظيم الرؤية السياسية بالشكل الذي يجعلها مقدمة التاريخ السياسي المستقل، أي تأسيس فكرة دولة عربية لأمة عربية تصلح ما تعرضت له في مجرى السيطرة التركية العثمانية من ضمور شبه تام لكيانها السياسي القومي وكينونتها الثقافية التاريخية. فإذا كانت اليقظة هي الوجه الآخر للنهضة، فإن الفرق أو الخلاف بينهما يقوم في تحوّر فكرة اليقظة إلى الفكرة العربية بوصفها فكرة قومية. وقد كان ذلك تحوّلا نوعيا في توجيه مسار فكرة النهضة، بمعنى نقلها من ميدان الصراع بين الجديد والقديم في الأدب (العربي) إلى ميدان الصراع من أجل الفكرة القومية. من هنا تحوّل الفكرة الأدبية إلى فكرة سياسية، كما هو جلي في فكرة نجيب عازوري عن مهمة وضرورة اليقظة السياسية القومية للأمة العربية، واستكمالها اللاحق في (المؤتمر العربي)، بوصفه الصيغة المنظمة للفكرة القومية السياسية.

وليس مصادفة أن تكون الرؤية السياسية هي السائدة في تفكير ومواقف نجيب عازوري. فهو ينطلق في رؤيته لواقع العالم العربي وآفاق تطور من وجهة نظر سياسية بحتة. لهذا نراه يطرح جانبا الرؤية الدينية أيا كان شكلها ومحتواها. من هنا قوله، بأن المسيحية عادة ما تفّسر العهد القديم من وجهة نظر أخلاقية رفيعة. بينما يبقي اليهود على صيغته الظاهرية المباشرة، بحيث يجعل من هذا الكتاب "خطيرا لا أخلاقيا يشكل إدانة رهيبة لهم"[2]. ومع انه لا يتطرق إلى الإسلام بهذا الصدد، بل نراه يقيمه بصورة ايجابية في كل المواضع التي تطرق إليه فيها، إلا أن مضمون الفكرة وتأسيسها واستنتاجاته النظرية والعملية كانت محكومة برؤية سياسية صرف. وقد أشار إلى ذلك بوضوح، عندما كتب يقول، بأن القضية الكبرى التي يواجهها العالم العربي الآن وفي المستقبل تقوم في كيفية تذليل الخطر اليهودي الصهيوني. من هنا نراه يتناول النظر إلى اليقظة العربية والخطر اليهودي العالمي، كما يقول، من "وجهة سياسية محض"[3]. وبغض النظر عن حدسه التاريخي الهائل لطبيعة الصراع المقبل قبل اتخاذه هيئة المستوى "الدولي" و"الحقوقي" وما شابه ذلك، إلا أن وضعه وتناوله لهذه القضية منذ البدء بمعايير الرؤية السياسية وليس الدينية، يشير إلى القيمة المنهجية الهائلة والعلمية الدقيقة لرؤية نجيب عازوري السياسية. بل ويمكننا القول، بأن دقة وعمق هذه الرؤية تقوم في توحيدها للرؤية الواقعية والمستقبلية على مستوى الحس والعقل والحدس. ويبدو ذلك بجلاء تام حالما تناول هذه القضية من خلال وضعها ضمن سياق فكرة اليقظة العربية بوصفها نهوضا قوميا.

وقد حدد ذلك بدوره موقفه من مقدمات الخلل التاريخي في الصيرورة العربية أو بصورة أدق انقطاعها التاريخي بفعل السيطرة التركية. وهنا أيضا نقف أمام تأسيس منطقي وتاريخي وميداني للرؤية السياسية القومية. بمعنى تحررها من رواسب الرؤية النمطية العادية في الموقف من الأتراك، والمشاكل المترتبة على النهوض القومي وحساسيته المفرطة من "السيطرة الأجنبية" أيا كان مستواها وحجمها وشكلها وأسلوبها. بعبارة أخرى، إنه تناول أثر السيطرة التركية في العالم العربي عبر موشور الرؤية السياسية والاجتماعية والثقافية الفعلية باعتبارها كلا واحدا، إضافة إلى رؤية الاحتمالات الكامنة فيها بالنسبة للمستقبل القومي.

إذ ليست المشكلة العربية والحالة التي انحدرت إليها سوى النتيجة المترتبة على وحدة وتفاعل النظام السياسي للدولة التركية العثمانية وإفرازها الخاص في مجال الأخلاق والثقافة. لهذا نراه يتكلم عن نظام حكم تركي لا علاقة له بالإسلام وبالخلافة الإسلامية وما شابه ذلك. بمعنى انه يسقط عنه صفة الدين والتدين والإسلام وتقاليده السياسية الحكومية، لكي يتعامل معه على حقيقته بوصفه حكما استبداديا قوميا(تركيا). وإذا كان هذه الحكم لا يخلو من ثقل المرحلة السياسية الخشنة والمتخلفة والبدائية التي انحدرت إليها "الدولة العلية"، إلا أنها تمتلك تقاليدها الخاصة. فالحكومة التركية، بالنسبة له "هي جماعة من قطاع الطرق يقودهم مجرم"[4]. وإذا كانت هذه الصفة تلازم التاريخ السياسي للدولة التركية (العثمانية)، فإنها تحولت في مجرى الزمن إلى ما اسماه نجيب عازوري بعصابة لصوص بلغت ذروتها في شخصية السلطان عبد الحميد[5]، مع ما لازمها بالضرورة من انعدام الأمن والسلامة والعدالة. وبالتالي غرس مختلف نماذج ومستويات الرذيلة السياسية والاجتماعية والأخلاقية. لهذا نراه يقول، بأن كل الأمم التي خضعت للسيطرة التركية تتميز بالفقر والإرهاق وخور العزيمة. وإن هذه السيطرة أدت إلى زرع تقاليد الجبن والخيانة، وكذلك تقاليد التعصب. إذ لا تعصب في الإسلام. وأنه بقدر ما يخضع شعب للأتراك بقدر ما يشتد فقره وتقحل أرضه. وبالعكس من ذلك بقدر ما يستقل شعب يغني ويزدهر. وضرب بذلك مثالا على حالة مصر التي كان مردود إنتاجها السنوي لا قيمة له ولا ذكر في ظل التحكم التركي، بينما "تفوق فوائد الخزانة المصرية عوائد الإمبراطورية العثمانية". من هنا موقفه المتشدد في معارضته لمناقشة بعض المصريين فكرة رجوع الخليفة التركي بالضد من السيطرة الانجليزية. إذ نراه يجد في ذلك ما اسماه "ببقايا الخبل الناتجة من سيطرة المماليك والشراكسة". وقد أدى كل ذلك إلى تراكم ما اسماه نجيب عازوري بالموقف السلبي من الأتراك. وذلك لأن السيطرة التركية لم تغرس شيئا غير تقاليد "البربرية في التعامل مع المخالفين" و"غياب الرأفة والرحمة". من هنا "كره كل الشعوب للأتراك".

وعندما حاول تطبيق ذلك على حالة العالم العربي وما أدت إليه السيطرة التركية بهذا الصدد، فإنه كتب يقول، بأن من يريد معرفة الأثر الأخلاقي السيئ للسيطرة التركية فلينظر إلى أثرها على شعب كبير ذكي كالعرب مقارنة بوجودهم في ظل الحكم الأموي والعباسي والآن. فقد كان العرب في قمة الحضارة العالمية. وإنهم أكثر من دفع آنذاك العلوم والآداب والفلسفة إلى الأمام وقدموا أسماء لامعة، ولكنهم لم يكتبوا شيئا منذ خضوعهم للأتراك. الأمر الذي جعله يجد في كل زمن السيطرة التركية فعلا مخالفا لمنطق التاريخ وقوانينه. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "استمرار شعوب كبيرة (ويقصد به العرب) بالخضوع لوصاية من برابرة لا ماض لها ولا تقاليد يعتبر ضد قوانين التاريخ"[6]. ليس ذلك فحسب، بل إن مفارقة الظاهرة تقوم في أن استمرار وقوة السلطنة العثمانية متوقفة على العرب، الذين لا محل لهم في إدارتها وفعلها وسياستها. من هنا تنبؤه الدقيق المبني على أساس رؤية سياسية واجتماعية وتاريخية موثقة، تقول، بأن استمرار الدولة العثمانية متوقف على موقف العرب منها. بعبارة أخرى، انه توصل إلى أن السيطرة التركية قائمة بالعرب، وإنه "حالما يخرج العرب من السلطنة العثمانية تنهار السلطنة. لأن العرب هم ركيزة السيطرة التركية في آسيا وأوربا"[7].

إن حصيلة هذه الرؤية التاريخية الثقافية والسياسية قد دفعت نجيب عازوري صوب توسيع مدى الرؤية القومية من خلال البحث عن الصلة المفقودة بين تاريخ الأسلاف والمستقبل، عبر إرساء أسس الدولة القومية (العربية). فقد كان الاستنتاج الأكبر، الذي توصل إليه نجيب عازوري يقوم في تقريره للحقيقة القائلة، بأنه لولا السيطرة التركية لكانت الأمة العربية في قمة الحضارة العالمية. وذلك لأن "الأتراك لم يكتفوا بعدم العطاء، بل ومنعوا الآخرين من العطاء"[8]، وبالتالي لولاهم لكن العرب في قمة الحضارة العالمية. وفيما لو جرى وضع هذا الاحتمال النظري ضمن معايير الرؤية المستقبلية، فإنه يعني ضرورة استعادة العرب لتاريخهم السياسي والحضاري المستقل، مع ما يترتب عليه من استنتاج خاص بضرورة بناء الدولة القومية المستقلة. وبدون ذلك يتبقى حالة العالم العربي تتأرجح بين مستنقع التخلف والانحطاط، وفي أفضل الأحوال تبقى حالته قلقة ومرتبطة بدورانها في أفلاك القوى الخارجية.

إن الاستنتاج النظري الذي يمكن التوصل إليه من وراء العبارة السياسية المباشرة لنجيب عازوري بهذا الصدد تقوم في أن الاحتمال المعقول بفعل طاقة الثقافة الكامنة للعالم العربي وتاريخه السياسي المبتور، هو السبب القائم وراء حالته القلقة في السياسة الأوربية آنذاك. لهذا نراه يتوصل إلى استنتاج مفاده أن العالم العربي هو رديف ومكافئ لمضمون الفعلي والواقعي لما يسمى بالمسألة الشرقية. فقد توصل عازوري إلى أن عقدة المسالة الشرقية تقوم في العالم العربي. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "البلاد العربية تشكل العقدة الحقيقية في لغز المسالة الشرقية"[9].

إن تحول العالم العربي إلى بؤرة المسألة الشرقية، يعني تحوله إلى مضمون وجود أو انعدام الدولة العثمانية. فالمسألة الشرقية التي ارتبطت بحالة وآفاق "الرجل المريض" وممتلكاته، كانت تعادل من حيث مضمونها الفعلي حالة وكيفية وجود وآفاق العالم العربي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن القضية العربية هي جوهر المشكلة، ومن ثم ينبغي أن تتمتع باستقلاليتها في السياسة العالمية بوصفها فعالا مستقلا. واتسمت آراءه بهذا الصدد بأبعاد مستقبلية عميقة، رغم أنها كانت محكومة بالحالة التابعة للعالم العربي في فلك الدولة العثمانية الآيلة للسقوط. من هنا نراه يؤسس لرؤيته المستقبلية عن علاقة العالم العربي بالدول الأكثر شراسة في صراعها مع الدولة العثمانية آنذاك من أجل اقتسام "غنيمتها" الكبرى، بمعايير الرؤية السياسية والثقافية المستقلة.

فهو يحدد ثلاثة محاور لثلاث قوى فاعلة آنذاك في سياستها تجاه العرب، بما في ذلك من وجهة النظر المستقبلية وهي كل من القوة الروسية والبريطانية والفرنسية. ومن خلال ذلك حاول رسم ملامح الرؤية السياسية تجاهها. فقد نظر إلى روسيا باعتبارها الدولة التي تسعى للتدخل في العالم العربي من خلال الكنسية الأرثودوكسية. من هنا دعوته إلى مواجهة ومحاربة السياسة الروسية، وذلك لأنه وجد فيها نموذجا وأسلوبا لإعادة تكريس النمط التركي. فقد كان نموذج الحكم والدولة الروسية بالنسبة له تعني تفشي الأوتوقراطية المطلقة وغياب الحرية، وغلبة نظام التعصب الطائفي. لهذا نراه يجد في التغلغل أو المساعي الروسية للسيطرة في العالم العربي أشد خطورة من السيطرة التركية، وذلك لأنها أقوى. فهي إلى جانب شبهها بالسياسة التركية، تنشر الجهل والتعصب. وفي معرض مقارنته إياها بالسياسة الإنجليزية، فإنه وضعها على طرف نقيض شأن خطوط سكك الحديد. إذ اعتبر السياسة الروسية تيارا رجعيا وبربريا ومتعصبا وأنانيا، بينا السياسة الانجليزية عادلة وإنسانية ومتحررة ونبيلة. ومن هذا المنطق يمكن فهم تقييمه للسياسة البريطانية تجاه العربي، عندما اعتبرها نموذجا لسياسة العدل والإحسان والحكمة والحرية. ومن ثم وجد فيها نموذجا مضادا للسياسة الروسية. أما موقفه من السياسة الفرنسية فمبني على أساس فهمه لدورها التاريخي الحديث في مجال بناء النظام السياسي المدني وفكرة الحرية. فقد نظر إلى فرنسا باعتبارها مهد الحرية ومركز الحضارة الحديثة. من هنا موقفه الداعم لما اسماه بالإقرار بفضلها بهذا الصدد. بحيث جعله ذلك يقول أيضا، بأن فرنسا أكثر من غيرها، وربما لوحدها تتمتع بحق "حب الشرقيين" إياها. وأعتقد، بأنه ليس هناك من قوة تستطيع استمالة عاطفة العرب إلى جانبها غير فرنسا، بعد تجزئة الإمبراطورية العثمانية.

إننا نقف هنا أمام تقييم سياسي ثقافي مستقبلي مبني على فكرة الاستقلال، أي أنه نظر إلى سياسة الدول الكبرى والاحتمال القائم في تحلل الدولة العثمانية وخروج العالم العربي منها نظرته إلى النموذج وليس إلى بديل للاستعاضة لحالته في ظل الهيمنة التركية العثمانية. بعبارة أخرى، أنه نظر إلى هذا الاحتمال بوصفه طريقا للتحرر الفعلي وإعادة بناء الدولة العربية الحديثة استنادا إلى فكرة قومية متجانسة. فهو الطريق الوحيد الواقعي والفعلي لبلوغ الشعرات الكبرى عن العدالة والمساواة والإخاء. ونعثر على هذه الفكرة الدقيقة والعميقة في عبارته القائلة، بأنه "لا يمكن تحقيق الإخوة بين الدول، والمساواة الاجتماعية بين الناس إلا عندما تصبح كل الشعوب على مستوى واحد من التمدن والحضارة. وإلا فإن أي عمل مخالف لذلك سيهدم عمل السابقين".

احتوت الفكرة السابقة بوصفها استنتاجا سياسيا تاريخيا ومستقبليا على مهمة تأسيس الفكرة العربية القومية الحديثة. وربط هذا التأسيس بالإمكانية الكامنة في العالم العربي بوصفه لب المسألة الشرقية آنذاك. من هنا فكرته عما أسماه ببروز أهم ظاهرتين في آسيا المعاصرة، التي أعتبر أحدها هي ظاهرة "يقظة العرب".

 

ا. د. ميثم الجنابي – باحث ومفكر

......................

[1] وضعه بالفرنسية. وترجمه احمد أبو ملحم

[2] نجيب عازوري: يقظة الأمة العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت(ب.ت)، ص42.

[3] نجيب عازوري: يقظة الأمة العربية، ص42.

[4] نجيب عازوري: يقظة الأمة العربية، ص61.

[5] لقد اعتبر نجيب عازوري السلطان عبد الحميد طاغية من طراز خاص، قد يكون بحد ذاته النموذج أو الزبدة التي تكونت في مجرى تقاليد الاستبداد. بحيث نراه يجد فيه شخصية جمعت في ذاتها كل الطغاة في التاريخ زائد ميكيافليي! وليس مصادفة، فيما لو أخذنا تقاليد المرحلة وتصويرها، أن تجد فيه شخصية مريضة وغريبة، انطلاقا من انه نشأ وحيدا منعزلا ومتربيا بتقاليد السلاطين العثمانيين المشبعة بقواعد الكذب والحسد والغل ومختلف أصناف الرذيلة من جهة، وأن أصوله الفعلية تعود إلى سبيكة أرمنية يهودية.

[6] نجيب عازوري: يقظة الأمة العربية، ص199.

[7] نجيب عازوري: يقظة الأمة العربية، ص200.

[8] نجيب عازوري: يقظة الأمة العربية، ص201.

[9] نجيب عازوري: يقظة الأمة العربية، ص41.

 

في المثقف اليوم