قضايا

التكليف الاسلامي.. لإبراء الذمة أم لتنظيم حياة الانسان الدنيوية؟

ايهما الاولى في منظومة التكليف الفقهية، ابراء الذمة والمعذرية يوم القيامة، ام تنظيم الحياة البشرية وسيرورتها بطريقة ما تخدم الانسان؟ هل يهدف اداء التكاليف لابراء ذمة المكلف بالدرجة الاولى، ام لاجل رسم حياته بطريقة عادلة وانسانية وخيّرة تتناسب مع كون هذه التشريعات إلهية؟ . ام ان اداء التكاليف بحد ذاته هو تنظيم مثالي للحياة البشرية، بأية صيغة طرحت او نظمت؟ .

طالما تحدث الفقهاء في المدونات الفقهية عن قضية ابراء الذمة وان المكلف ان قام باداء الواجبات وترك المحرمات بحسب الفتاوى المنشورة من قبل المجتهد المرجع للتقليد، الدارس لقضايا الفقه التقليدية، سيكون مبرئا للذمة ويكون له المعذّر يوم القيامة1 .

ويعرّف التكليف: "هو بَعْثُ من تجب طاعته ـ ابتداءً ـ على ما فيه مشقة بشرط الإعلام" 2

والاعلام يكون عبر بعث الرسل والعقل، والمجتهد في الشريعة اذا اصاب في الوصول للحكم الواقعي فله اجران واذا اخطأ فله اجر واحد. لان المعيار هنا هو ايجاد العذر للفقيه في انه اجتهد وبذل اقصى مافي وسعه للوصول الى الغرض الالهي، وبالتالي فهو مأجور في كل الاحوال، ولايلتفت الى الاثار الواقعية التي ستحدثها هذه الفتاوى غير الواقعية في المجتمع، فلم يدرفي خلد الفقهاء -ربما -اهمية تلك الاثار فيما اذا كان الحكم مخالفا للمراد الالهي او مخالفا لسنن بشرية يجب عدم مناقضتها .

يذكر الفقهاء " لايجوز اخذ الاحكام، الا من رسالة المرجع الاعلم الذي تقلده، او من تثق به ممن ينقل لك فتواه .."3

بمعنى ان هدف التكليف بالدرجة الاولى هو ابراء انشغال الذمة بالتكاليف، التي سيعاقب المكلف على عدم ادائها، او التساهل بها يوم الدين، لذا فان الغرض هو اخروي بحت، وحين يقوم المكلف بالعمل وفق فتاوى الفقيه الاعلم فانه سيحرز المعذّرية له يوم القيامة فيما اذا كان الاداء خارج عن الامر الشرعي الواقعي .

الاسلاميون المعاصرون يسمعوننا امرا اخر وهو ان الشريعة جاءت لتنظيم حياة الانسان بما يضمن سعادتة في الدنيا والاخرة،- فاذا عرفنا الامر في الاخرة (براءة ذمة المكلف)، فعلينا ان نفهم كيف تجري الامور في الحياة الدنيا .

ان الالتزام بهذه الفتاوى الظاهرية الثابتة هي التي ستحول حياة الانسان الى حياة متكاملة وسعيدة وناجحة، على اعتبار انها شريعة صادرة من الله تعالى، العارف بشؤون العباد فهو خالقهم،وان الامة الاسلامية سوف تعلو بتفوقها على الامم الاخرى من خلال التزامها الحرفي بهذه التكاليف التي عُدت الهية . فنجد اغلبية حركات الاسلام السياسي، ومفكري الصحوة او النهضة، يرفعون شعار الاسلام هو الحل ويقصدون به الاسلام الفقهي، لانهم يطرحون كل ماذكره الفقهاء بشان البنوك الربوية والحجاب والجهاد وتنظيم الحياة عبر اجراء الحدود وتطبيقها -وهم لايرون ان مجرد الايمان بالعقيدة الاسلامية كافيا ليكون الانسان مسلما حقيقيا، كالايمان بالله والايمان بالعبودية له وباليوم الاخر وبعث الانبياء، او حتى القيام بالشعائرالعبادية الثابتة كالصلاة والصوم والحج وغيرها من العبادات-، بمعنى ان هذه الاحكام الظنية وان كانت غير الهية فانها ستجعل الحياة سعيدة لمجرد انها صورت لهم انها إلهية بالمطلق . وهناك من يقول (ابو حامد الغزالي) ان الفقه لايجاوز الحياة الدنيا الى الاخرة، فهو اسلام ظاهري يجعلنا نستطيع ان نزوج المسلم مثلا، ويكون دمه وماله وعرضه حرام، لانه نطق بالشهادتين علنا، اما ايمانه الحقيقي القلبي، فهو علمه عند الله، فربما هناك من اسلم هربا من حد السيف، وهو ليس مؤمنا حقا . فالتكليف هنا هو اداة تنظيمية للمجتمع المسلم اكثر مما تكون اداه للخلاص الاخروي .

حين نحلل قول الفقهاء- بان التكليف غرضه ابراء الذمه- نجد ان هذا القول لايركز على اهمية ان تكون التشريعات تنموية او غيرذلك للمجتمع، أومعاصرة لاحداثه وتغيراته وتطلعات اجياله، فليس الغرض منها ان تكون مقبولة من الناس اوغير مقبولة، او لاتسبب لهم عائقا امام التغيرات الحضارية الحديثة والكبيرة والمتسارعة في النظر للانسان وللكون والاله -تعالى- ذاته وللدين ودوره . الغرض الاول من العمل الفقهي ان يدخل الانسان الجنة الاخروية، ولو بالتضحية بالحياة الدنيا عبر الاجيال والامم والحقب والسنوات والثروات، اي لايلتفت الى مدى رضا الناس وقبولهم بالحكم ومدى استعدادهم للتوافق معه او مدى مايحققه الحكم من تنظيم فعلي نهضوي للدولة او المجتمع. ومن هنا نجد احكاما لم تعد تناسب الفكر البشري الحديث في النظر للانسان، فجهاد الكافر مثلا واخذ الجزية منه في كل الاحوال وإن كان مواطنا صار امرا مرفوضا، كما في غيرها من الامور الاكراهية، نظر الى ضرورة تنفيذ احكام عدت ابدية، وهي لابد ان تكون صالحة للجميع،في كل مكان لكونها صدرت باجتهاد فقهي مبرر ( وهنا كما لو ان الامر متساو بين حكم الله الواقعي وحكم الفقيه،كأنه امرا واحدا )، بغض النظر عن التطورات الاخرى للحياة وملابساتها المعاصرة . وهذا القول يجعل اهمية بقاء الاحكام ( الفرعية) على حالها ولو تم التضحية بخلود الاسلام كدين خاتم للاديان وصالح للاعتناق كعقيدة عقلانية مهمة ومميزة .

اما القول الاخر الذي يحاول ان يرسم صورة وردية للاحكام ذاتها، دون ان يقدم رؤية واقعية؛ كيف ان الاحكام الثابتة هذه، التي انبثقت في عصور سابقة تلائم تنظيم حياة معاصرة قائمة على فلسفة اخرى ونظرة اخرى للامور، كالدين والايمان والكفر وحرية المعتقد والضميرواحترام الاخر والتسامح الفكري والعقدي، وحرية المرأة في العمل السياسي،والمساواة الجندرية امام القانون؟ . ان اقوال الاسلاميين هذه مؤدلجة نحو ابقاء صورة مثالية للفقه الذي يعدونه الوجه الابرز للدين وللشريعة، ولو قسرا، دون ان يثبتوا ذلك عبر واقع ناجح مطبق في الوقت الحالي، قابل للتماثل معه وتقليده في اية دولة من الدول الاسلامية . انهم طوباويون وخطرون في الوقت ذاته، فهم رفعوا رايات الجهاد حتى ضد المسلم الذي كفروه وفسقوه لكون المسلمين لايطبقون حرفيا احكام الفقه التقليدية التاريخية .

لايوجد تعارض بين الفقه العبادي الشعائري كثيرا مع واقع المسلمين المعاصر كما ان العقيدة الاسلامية لاتعارض مفاهيم العلم المعاصرة والنظريات العلمية الثابتة، لكن مايتم طرحه في قضايا الفقه التقليدي - وغرضه الاخروي او الدنيوي - هوسبب الاشكالية لدى المسلمين الذين يرون ان الحياة المعاصرة تسير باتجاه وهم يسيرون باتجاه اخر لم يعد مقبولا حتى من الاوساط المسلمة ذاتها .

الرأي الثالث يقول ان الدين جاء لخدمة الانسان في كل ظروفه، وان الله تعالى غني عن العالمين وان غرض التكليف هو اعطاء صورة تنظيمية مشروطة باهداف كبرى مثل تحقيق العدالة وحفظ النظام، والتيسير على الناس والاستخلاف واستعمار الارض وغيرها من المفاهيم التي ينبغي ان تكون احكامها متغيرة بحسب ظروف الانسان والعصر والحضارة . فليس تحقيق العدالة يتمثل بتطبيق ذات الحكم في كل العصور . بل ان يبحث كل جيل عن احكامه التي تستمد مبادئها من الشريعة الاسلامية والتي هي مبادي ثابتة . مثل احترام الانسان وحياته وحقوقه وحريته بلا تعد على الاخرين، والفقيه يجتهد ضمن هذه المفاهيم الكبرى لاجل الحفاظ على القيم الثابتة للاسلام وليس الاحكام الفرعية . ان مايحدث الان في الواقع الاسلامي هي محاولات مستميتة من التقليديين لعزل الاسلام كدين عن الواقع المتغير وعن الحياة المعاصرة،وان كانوا لايقصدون ذلك. وهناك جهة قليلة اخرى تحاول ان تبين ان الامر بحاجة الى اعادة النظر في مفهوم التكليف واساليبه وطرقه ليتناسب مع عالمية الاسلام وخلوده .

 

بتول فاروق

١٢/ ١٠ / ٢٠٢٠

.............................

1- ينظر : باب التقليد والفتوى،

http://www.alseraj.net/ar/fikh/2/?1

على ضوء فتاوى السيد اية الله السيستاني .

2- كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة الحادية عشر، ص437 .

النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع، ص71 .

3- موقع المعراج، م س .

 

في المثقف اليوم