قضايا

الاستشراق والعلم العربي (3)

محمود محمد علينعود وننهي حديثنا عن الاستشراق والعلم العربي  فنقول: وثمة نقطة هامة نأخذها علي الكثير من المستشرقين، تتمثل في وضعهم لمقاييس صارمة يحكمون بموجبها علي نشاه العلم العربي .

إن أحد الأمثلة المهمة لمثل هذه المقاييس نجده عند المستشرق الإيطالي الدومييلي؛ حيث يعتقد أن سبب ترجمة الكتب العلمية والفلسفية ونقلها من اللغات الأخرى وبخاصة اليونانية يعود إلي تشجيع الخلفاء والأوامر، وفي هذا: وطبيعي أن هذا النشاط العظيم للمترجمين وجماع العلوم، كانت تساعده وتشد من أزره حماية الخلفاء الرسمية . ولكن كل أسرة من أسر حماة الآداب والعلوم كانت تتنافس أيضا في هذا المضمار مع أمير المؤمنين، وهنا ينبغي أن نذكر ذلك النشاط الخير الذي أبداه – في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي – بنو موسي وهم الأبناء الثلاثة لموسي بن شاكر الذين كانوا هم أنفسهم رياضيين فلكيين، ولكنهم كانوا علي الأخص حماة العلوم " والمترجمين الذين جعلوهم في خدمتهم " .

أما المستشرق "مارتن ملسنر" فيفسر أن تقدم علم الجغرافيا وتطوره علي أيدي الجغرافيين العرب راجعين إلي الاهتمام الشخصي لهؤلاء العلماء في معرفة أحوال البلاد والعباد".

وهناك أمثلة كثيرة لوجود هذه التفسيرات في كتابات المستشرقين، وهذه التفسيرات يغلب عليها طابع حل المشكلات التاريخية المعقدة بالاعتماد علي قاعدة السبب والنتيجة ( cause effect) معتقدين بإمكانية الإجابة عن أسئلة حضارية معقدة كظاهرة نشوء العلم وتطوره، وهي بلا شك إجابات أحادية الجانب .

إن مثل هذه التفسيرات الساذجة وغيرها كثير تتجاهل الجذور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لنشأه العلم العربي، وتتناسى أن سبب نشوء هذا العلم هو أعقد بكثير من التفسيرات الساذجة أو الأحادية الجانب التي طرحها العديد من المستشرقين فالعلم العربي هو نتاج مباشر لحاجات اقتصادية واجتماعية تستمد جذورها من طبيعة التطور الذي شهدته الحضارة العربية الصاعدة في عصر النهضة الإسلامي أبان القرنين التاسع والعشر الميلادي .

ومن ثم يمكن أن نفسر سبب ترجمة الكتب العلمية والفلسفية بأنه كان نتيجة لاحتياجات اجتماعية واقتصادية وسياسية نتيجة حاجة فردية أو ثمرة هوي شخص أو مصادفة عرضية، وإنما كانت الدولية العربية الجديدة التي كونتها العقيدة الإسلامية، خرجت بها من حدود العلاقات القبلية في شبة الجزيرة العربية إلي رقعة واسعة من الأرض تضم أجناسا وشعوبا مختلفة وهذه الدولية الجديدة التي كانت تمثل علاقات إنسانية واسعة ومصالح تجارية جديدة متطورة، وقيما فكرية ودينية وأخلاقية متصارعة ومشكلات إدارية واقتصادية وفنية، تتعقد يوما بعد يوم مع تعقد المجتمع واتساعا رقعة الدولية، وهذه الدولة كانت في حاجة إلي خبرة الأمم الأخرى إلي جانب خبرتها الذاتية لتواجه بها كل هذه الشئون والمشكلات، وكان نقل علوم اليونان وغيرها من علوم الهند وفارس صدي لحاجة هذه الدولة الجديدة إلي فلسفة شاملة تطل منها علي الكون العريض وتتيح لها خدمة مصالحها وتطويرها .

من ناحية أخرى يجب أن نعترف بأن العلم هو نتاج ثقافي لحضارة معينة، وأن العلم لا يظهر ولا يتطور إلا في مجتمع وصل إلي مرحلة متقدمة من التطور الاقتصادي والاجتماعي تجمل تجعل انبثاق العلم في هذا المجتمع في لحظة تاريخية معين حاجة موضوعية وليس اختيارا ذاتيا، وتعبير عن الحاجة إلي معرفة علمية تؤدي إلي فهم أكبر لظواهر الطبيعة والحياة والإنسان .

إن علما متطور كعلم الجغرافيا مثلا لا يمكن أن يكون تطوره وتقدمه علي يد الجغرافيين راجعين إلي الاهتمام الشخصي لهؤلاء العلماء في معرفة أحوال البلاد والعباد أو إلي ترجمة كتب بطليموس الجغرافية أو غير ذلك من الأسباب الأحادية الجانب، فرغم أهمية ترجمة الكتب وأهمية حب الاستطلاع والبحث لدي هؤلاء العلماء، فإن المسألة كانت أبعد بكثير من المسائل الجزئية .

فالدولة العربية – الإسلامية التي امتدت حدودها وشملت أكثر من قارة، أقامت الجيوش وتوسعت بشكل كبير، أن مثل هذه الدولة كان لابد لها من تطوير المعرفة الجغرافية وما يستتبعها من علوم أخري كالحساب والمقاييس والأبعاد والأوزان، ومعرفة المناخ والتضاريس والممرات المائية والبحرية، فإن جهل حدود الدولة وتضاريسها وأحوال سكانها وطبيعة نشاطهم الاقتصادية وعاداتهم وتقاليدهم، يجعل من المستحيل علي الدولة المركزية أن تقوم بعملية جبي الضرائب والمكوس والخراج والجزية والزكاة، ودون رسم الخرائط يكون من الصعب علي الجيوش أن تتحرك دون معرفة طبيعة التضاريس والممرات المائية، ويتأخر تطور التجارة الداخلية بين أجزاء الإمبراطورية نفسها ومع العالم الخارجي، سواء أكانت تعتمد علي القوافل البرية، أم السف البحرية لعدم معرفة عواصم هذه البلدان وثغورها ومناخاتها وحركة الرياح والمواسم الزراعية والتجارية .

ومن الأمثلة علي أهمية جغرافية المدن أن " قتيبة بن مسلم الباهلي " عند غزو مدينة بخاري واجهته مشكلة عدم معرفة بهذه البلاد وتضاريسها وعاداتها فأرسل إلي " الحجاج بن يوسف " الذي كتب لقتيبة يطلب منه أن يرسم صورة أو خريطة لمدينة بخاري والمدن المحيطة بها ليسهل عليه دخولها .

ونجد في كتب الجغرافيين العرب عشرات الأمثلة علي ارتباط علم الجغرافيا بالحاجات الاقتصادية والسياسية والعسكرية للدولة الناشئة، فهذا هو الإمام القدسي، الجغرافي الكبير يذكر أنه لقي " علي بن حازم " بساحل عدن وكان الرجل من اعلم الناس بالبحر الصيني لأنه إمام التجار، ومراكبه دائما تسافر إلي اقاصية فسأله عن صفة البحر فمسح الرمل بكفة ورسم صور البحر أمام المقدس وبين له معارجه وشعبه وخلجاته .

ولا نريد الاسترسال في الأمثلة، لكن ما نود تأكيده هو ان علم الجغرافيا بدا بدراسة كتب بطليموس وغيرها، ودراسة الخرائط التي وضعها اليونان، ولكن العرب الذين كانوا بحاجة إلي علم الجغرافيا للأسباب التي ذكرتها انفا فاقوا اليونان وطوروا هذا العلم بحسب حاجتهم علي يد خرداذبه والاصطخري وابن حقول والمقدس وابن فضلان واحمد بن سهل البلخي والسعودي والمهمذاني وغيرهم وسار تطور علم الجغرافيا بخط متواز مع تطور علوم الفلك والحساب والهندسة وصناعة الاسطرلابات والبوصلات والسفن البحرية وإقامة المراصد الفلكية .

إن ما ينطبق علي الجغرافيا ينطبق هو الآخر علي العلوم الرياضية برمتها من فلك وجبر وهندسة، وعلي الجغرافيا ينطبق هو الآخر علي العلوم الطبيعة برمتها من كيمياء وفيزياء وطب وغيرها، فلقد تطورت تلك العلوم علي الأيدي العلماء العرب نتيجة حاجات التطور الاقتصادي والاجتماعي لذي فرضته الذي الحضارة العربية الناشئة آنذاك .

وبهذا يتضح لنا مدي تهافت التفسيرات الساذجة التي يفسر بها بعض المستشرقين ظاهرة نشوء العلم العربي . أن هؤلاء لا شك في أنهم يتسمون بروح كسولة لا تكلف نفسها عناء البحث الموضوعي . ويلاحظ هذا عن كتب المستشرقين الألماني المنصف " فراتز روزنتال " فيقول:

ومن المزالق التي يندر أن يتحاماها الباحثون الغربيون عند تقديرهم البحث العلمي عند المسلمين، أنهم يضعون مقاييس صارمة يحكمون بموجبها علي ما أنتجه الفكر الإسلامي، مقاييس أشد صرامة من تلك التي نطبقها علي دواتنا نحن الغربيون، فإن العدل والأنصاف يقتضيان أن نميز بين مختلف أنواع النشاط الأدبي ومراتبه التي من شأنها أن تترك أثر بعيد الغور في طبيعة النتاج العلمي الرفيع علي أننا قلما نري عالما غ7ربيا يراعي هذا التميز عندما يكتب ويؤلف قصد استمالة إتباع يلتفون حولي فكرته التي يبشر بها ولا ننتظر منه أن يدعم كل قول من أقواله بمسندات وكل جملة بإثباتات فلماذا إذن تتطلب ذلك من المسلم الذي يكتب في أحيان الدين مثلا ( يقصد الإمام أبو حامد الغزالي ) أن يدلل علي مدحه كل قول بإثبات وإسناد، حتى وإن كان هذا الكتاب المسلم يتصف بالدقة العلمية والقدرة الفكرية الممتازة، ومن جهة ثانية لماذا نبدي سخطنا علي كاتب تجمع أسانيد تبعث علي الفجر أسانيد لا حصر لها تتعلق بسيرة رجل أو براوية من رواة الحديث الذين عاشوا في دمشق أو مروا بها لماما، بينما نحن إذا قرانا مثيل هذا في كتاب من كتاب الغرب قلنا صواب أنه عمل علمي، وأن صاحبة قام بخدمات علمية جليلة .

وبعد أن انتهينا من مناقشتنا للرؤية  الإستشراقية للعلم العربي نود أن نتساءل هذا السؤال: ما هو موقف العلماء العرب المعاصرين من الرؤية الاستشراقية لظاهرة العلم العربي ؟

وللإجابة علي هذا السؤال نقول: يقف كثير من علمائنا ومفكرينا العرب المعاصرون بإزاء الرؤية الاستشراقية لظاهرة العلم العربي إلي فريقين رئيسين: أحدهما يؤكد هذه الرؤية، وسوف نري علي أي أساس قام تأييدهم هذا، ثم نناقشه لنري مدي أحقيته، وأما الفريق الثاني فيرفضون تلك الرؤية، وسوف نعرض آرائهم أيضا .

أما الفريق الأول:- فيتعامل مع ظاهرة العلم العربي وما حققه العرب والمسلمون في مجال العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفة بروح المكابرة والتكبر منكرين أي دور ريادي للعلماء العرب في تاريخ العلم الإنساني . كما أن هذا الفريق ينكر كل التطور الفكري والعلمي والفلسفي ويطرح حله الجاهر، وهو إعلان الطلاق مع كل التراث العلمي العربي، ويطرح مسألة الارتباط بالفكر الغربي المعاصر كمخرج من الأزمة، ويدعوا إلي قطع الجذور مع ماضي الأمة وتراثها .

ولقد صدرت مثل هذه الأحكام للأسف من قبل أناس من أعلي الأساتذة قدرا وارفع المفكرين شأوا، والدليل علي هذا الدكتور محمد عابد الجايري وما ذكره في كتابة " مدخل إلي فلسفة العلوم "، حيث يقول: إن تاريخ العلوم السائد الآن تاريخ أوربي النزعة تتجه أنظاره من اينشتين وماكس بلانك إلي نيوتن وجاليلو، ومنها إلي اقليدس وأرسطو . أما العلم العربي فهو لا يحظى في أحسن الأحوال إلا بإشارات عامة عابرة، أما المسار العام فلا يتخذ منه سوي قنطرة مر عليها التراث الإغريقي إلي العالم الغربي، ومن هنا كان القديم – في هذا المنظور التاريخي الأوربي يعني العلم الأرسطي .

ثم يصادر الدكتور الجابري علي أن العقل العلمي الغربي هو المعاصرة وأن العقل العلمي العربي هو الأصالة، وعلينا الجمع بينها وفي هذا يقول:

" ولكننا نحن العرب في العصر الحاضر سجناء رؤيتين: الأوروبية التي فتحنا عليها أعيننا منذ بدء يقظتنا الحديثة، وهي تكيف – بل تهيمن علي جانب المعاصرة في شخصيتنا العلمية والحضارية، والرؤية الغزالية – الشهر زورية – العثمانية (نسبة إلي ابن حامد الغزالي وابن الصلاح الشهر زوري والدولة العثمانية) التي تشوش جانب الأصالة في تفكيرنا، وتقف حاجزا بيننا، وبين ربط ما حينا بحاضرنا في اتجاه المستقبل المنشود " .

ثم يستطرد فيقول: " إننا نعتقد أن الانكبات علي دراسة جاليليو، وديكارت، وهويغنز، واينشتين دراسة تاريخية واعية ستسلحنا بالأدوات الفكرية التي تمكننا من اكتشاف علمي لا خطابي – موضوعي لا ذاتي لمختلف الوجوه المشرقة في تراثنا وياما أكثرها ؟ هناك طريق واحد يقودنا نحو العلم العربي في الماضي والعلم العربي في المستقبل، إنه الانكباب علي دراسة الفكر العلمي . لحديث وتطوره والاجتهاد في هضمه وتمثيله " .

لم يكتف الدكتور الجابري بهذا، بل نراه يطرح لنا فكره البداية من الصفر فيما يتعلق بتراث الامه وماضيها، وذلك علي أكتاف العلم الحديث . يقول الدكتور الجابري: " إن الماضي كالمستقبل لا يكتشف ولا يبين أو يعاد بناؤه إلا علي أساس الحاضر وانطلاقا منه وحاضرنا العلمي هو العلم الحديث، فلنجعل من دراسة هذا العلم موضوعا ومنهاجا، روحا ومناخا، وسيلة لبناء حاضرنا وبعث ماضينا والانطلاق نحو مستقبلنا، لنتسلح إذن بهذه الرؤية الجدلية التي تجعل الحاضر منطلقا لبعث الماضي وبناء المستقبل.

ونحن نخالف هذه النظرية الجابرية، وذلك لأنها تتعامل مع تراثنا العلمي العربي بروح استعلائية فلا نجد في هذا التراث ما ينتمي للتقدم ولا تكلف نفسها أعمال الفكر في البحث والتنقيب والدراسة الموضوعية للتراث .

من ناحية أخري نتساءل مع الدكتور رشدي راشد: " عما إذا يكن قد حان الأوان كي يتمسك مؤرخ العلوم بالموضوعات التي تقتضيها مهنته وكي يكف عن استزاد مختلس لــ " أيديولوجيات بغير ضابط ولا رادع عن ترويجها بدون شعور، وكي يتجنب كل المحاولات التي تبرر أوجه الشبه علي حساب التباين . كالمعجزة العلمية الحديثة عند السواد الأعظم الم يحن الأوان لكتابة التاريخ دون اللجوء إلي البديهيان الكاذبة التي تدعوا إلي اصطناعها دواع قومية تكاد لا تخفي ".

وإذ تطرح هذا التساؤل تهدف إلي إزاحة خرافة المعجزة العلمية الغربية الحديثة . فالمعجزة عنصر الهي ديني أولا وأخيرا أو لا شأن للبشر ما دامت هي ما يعجز عنه البشر فلابد وأن ننأى عن محاولات تفهم أي واقع إنساني، سواء الواقع العلمي أو سواء – إذا أردنا لهذه المحاولات انضباطا .

ثمة نقطة هامة نود مناقشتها بالنسبة لهذا الفريق وهي مسألة " حداثة العلم " فهذا الفريق يعتقد أن العلم لم يبدأ شوطه بمعناه الحقيقي إلا في عصر النهضة الأوربية في القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين والقائلون بهذا من علمائنا ومفكرينا المعاصرين كثيرون .

ومن أهمهم الدكتور " زكي نجيب محمود " وذلك في كتابة " المنطق الوضعي " حيث يقول: " أن العلم لم يبدأ شوطه في حياتنا الإنسانية بصفة جدية إلا منذ عصر النهضة، علي أن ظهور الروح العلمية أيام عصر النهضة، لم يكن ظهورها مصادفة عمياء جاءت عرضا في سير التاريخ، بل جاءت نتيجة مباشرة لبذور المنهج العلمي علي يد فرنسيس بيكون " .

وقد برر بعض الباحثين ما ذكره الدكتور" زكي نجيب محمود " في هذا النص، بأنه يضع هو وأمثاله من القائلين بحداثة العلم نصب أعينهم الآثار العلمية الهائلة التي ترتبت علي ظهور العلم الحديث، فلو نظرنا في الفترة من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين، نجد أنه قد حدثت ثورة كمية وكيفية هائلة في المجال العلمي، بمعني أن نطاق العلم قد اتسع إلي حد هائل، كما أن إنجازاته قد اكتسبت صفات جديدة وأصبحت أهميتها تفوق بكثير كل ما كان العلم يحققه في أي عصر سابق بل إن هذا التعبير جعل العلم هو الحقيقة الأساسية في عالم اليوم وهو المحور الذي تدور حوله كل المظاهر الأخرى لحياة البشر .

يقول استأذنا الدكتور فؤاد زكريا: " .. لو نظرنا إلي الأمر من الزاوية الكمية الخالصة ليتبين لنا أن نمو معدل نمو العلم، قد تسارع بصورة مذهلة خلال القرن العشرين، إذ تقول الإحصاءات أن كمية المعرفة البشرية تتضاعف في وقتنا الحالي خلال تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة، وه ما كان يستغرق في العصور الماضية مئات السنين " .

ونح نعترف بهذا، ولكن كل هذا لا يمنع من القول بحداثة العلم، وأنه وليد القرن السابع للميلاد علي يد فرانسيس بيكون، فهذا قول يتنافي مع الحقيقة الموضوعية، فليس اليسير أن نحدد نقطة الصفر التي انطلق منها العلم لأن العلم شأنه شأن صور الفاعليات الإنسانية كائن متطور نام، لم يولد كاملا راشدا، بل لابد أن يكون قد مر بمراحل طويلة من الصقل والتهذيب لكي يبلغ مرتبة الراهنة من النضج .

إن القائلين بحداثة العلم لابد أن يضعوا في اعتبارها بأنه من الصعب أن نفسر سرعة التقدم الذي طرأ علي العلم الأوربي في القرن السابع عشر، والذي نقل أوربا من التفكير في عالم أرسطو الذي لا يتحرك إلا أنه يعشق " المحرك الأول " إلي عالم نيوتن الذي يسوده قانون طبيعي هو قانون الجاذبية الكونية – من الصعب أن نفسر ذلك إلا إذا قلنا بأن عوامل أخري قد مهدت له بالرغم من أن تأثيرها لم يكن في البداية ظاهرا .

علي أن هذه العوامل المتراكمة لم تكن مجرد تطور داخلي للمعرفة العلمية في أوربا خلال العصر الوسيط، فهذه المعرفة مهما تطورت لم تكن تبشر بنتائج ذات قيمة كبير، وإن كان هؤلاء العلماء في حاجة إلي دفعة قوية تأتيهم من مصدر خارجي لكي تنير الطريق وتكشف لهم عن أفضل السبل المتاحة للبحث العلمي في ذلك الحين، وقد تحقق ذلك بفضل تأثر العلم الأوربي بالعلم العربي الذي كان يحتل المرتبة العليا في ذلك العصر " .

ونحن هنا نخالف القائلون – بأن العلم الحديث قد خضع في نشأته وتطوره لمجموعة من العوامل الداخلية، هذه العوامل تنمو بقدراتنا الذاتية بقوة دفعها الخاصة وخضع لمنطقتها البحت بل لابد من عوامل خارجية خصوصا وأن العلم ليس ظاهرة منعزلة، بل أن أشد علمائنا المعاصرين ميلا للتفسير الفردي لتطور العلم لا يستطيعون أن ينكروا وجود تأثير متبادل بين العلم وأوضاع المجتمع الذي يظهر فيه، يقول أستاذنا الدكتور حسن عبد الحميد: " يخضع العلم في نشأته وتطوره لمجموعة من العوامل الخارجية والداخلية التي يؤدي تفاعلها معا إلي نشأة العلم نفسه ".

أما الفريق الثاني: وهذا الفريق يقف علي نقيض الفريق الأول، ولكنها يصب في نفس المصب نفسه ويصل إلي النتيجة نفسها – وهو فريق يغلب عليه طابع الحماس الشعري والخطابي في تعاطيه مع ظاهرة العلم العربي، فهو يتعامل مع هذه الظاهرة بروح التقديس والمبالغة والأساليب الانفعالية .

إن هذا الفريق يحاول إثبات أن العلماء العرب مارسوا كل منهج وأنشاوا كل علم، واسوا كل بحث، وعرفوا كل كشف، والقوا أصول كل نظرية، ورعوا كل مفهوم وتلمسوا الطريق إلي كل تقانه .

ونسوق مثلا علي ذلك ما ذكره صاحب كتاب " تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه " بقوله: " ... وإذا اعتز العصر الحاضر بنفر من العلماء فتتوا الذرة وشطروا النواة، وغزوا الفضاء، وأرسلوا الصواريخ والأقمار وأطلقوا الكواكب الصناعية، تدور في فلك الشمس أو غيرها من النجوم والكواكب وإذا اعتز عصر النهضة العلمية في أوربا بأمثال نيوتن ودارون وجاليليو وكوبر نيقوس ودافنشي وكانط وديكارت وباستير وهلم جرا، فلا ينبغي أن نغمط علماءنا الذين نقل عنهم الغرب في سالف الأيام، وإنه لدين يودية العصر الحاضر للعصور العربية الإسلامية الذاهية، وإنها لأمانة في أعناقنا نحن العرب، أن نحمل المشعل مرة أخري لنضئ الطريق، ونقود الإنسانية كما فعل أسلافنا أول مرة  .

ونسوق مثالا أخر صاحب نفس الكتاب بقوله: " لقد طنطن العالم الغربي في عصر النهضة الأخيرة لآراء كانط، وديكارت، ونيوتن في الطبيعة والضوء والانكسار والإبصار وما إلي ذلك، وقد ثبت أن اغلبها مأخوذ من ابن الهيثم المصري وطنطن العالم مرة أخري لهارفي قال أنه مكتشف الدورة الدموية، مع أن مكتشفها هو ابن النفيس، واهتز العالم بآراء داروين ولا مارك في التطور وهاهي ذي قديمة ذكرها إخوان الصفا وابن خلدون والجاحظ .

ولا نريد الاسترسال في الأمثلة، لكن ما يمكن أن نقوله هو هذا الفريق يتميز بالتعالي والادعاء الحضاري – ويجهل مجرد تطور الحضارة والتراث العلمي العربي، إن دعاة هذا الفريق لا يتردد دون في تقديس كل شئ في التراث منطلقين من مقولتهم التبسيطية بأن كل المسائل قد حلها الأجداد، وليس أمامنا سوي أن نغرف من بحيرة الماضي السحرية لنحل مشكلات الحاضر علي حد تعبير الدكتور أحمد الربيعي .

وهذا الفريق يربط بشكل ميكانيكي وتعسفي بين الحاضر والماضي . فأزمة الحاضر هي العقاب التاريخي للتخلي عن الماضي، والماضي لدية هو الحاضر، ولا جديد تحت الشمس، مع إغفال كل التغييرات الهائلة في أساليب الحياة ونمطها وتطوراتها الفكرية والتكنولوجية .

إن الماضي بالنسبة لهذا الفريق كما يقول د/ أحمد الربيعي الكويتي، هو مخدة الريش المريحة التي نضع فوقها رؤسنا المتعبة، وإن أي " تشكيك في ماضينا هو من فعل أعداء المسلمين وبخاصة المستشرقين، وهم لا يترددون في أن يضعوا مستشرقين مثل بيكر وارنست رينان وسنتلانا في السلة نفسها مع هاملتون جب، وبروكلمان، ولويس ماسينيسون، وماكس مايرهوف، وبليياييف.

وحتي إن دعا هذا الفريق وإن انتقدوا وبحياء نظرية المركزية الأوربية لذي بعض المستشرقين، فإنهم يضعون مركزيتهم الشرقية في مواجهة غربية، المسألة وكأنها أسلحة فاسدة تقاتل أسلحة فاسدة تأخذ من التراث ما يحلو لها وتترك ملا ينسجم مع اطروحاتها الفوقية .

وخاتمة القول أتمني أن نكون في هذا البحث قد نجحنا في اختراق صفوف هؤلاء المستشرقين ومن تابعهم من علمائنا العرب وتقديم وجهة نظر تتعدي مزاعمهم ومنهجيتهم .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم