قضايا

علي رسول الربيعي: قوة الفلسفة.. قدرتنا في قوة كلمتنا

علي رسول الربيعيتدوس ترب معرفية مختلفة كاستراتيجية فلا تكمن قوتها في تنظيرها أو تعاملها مع مجال معين من البحث وحقل محدد للتفكير، إنها تتمكن من تحقيق النتائج من خلال اشتغالها في مجالات او حقول معرفية مختلفة، أنها : الفلسفة.

تأتي قوة الفلسفة من التحدث بعقلانية في كافة المجالات والقضايا التي تقع في مدار الفكر البشري. ويعلمنا تاريخها تذكر أفكار الفلاسفة من قبلنا، وباستعمال اللغة والمفاهيم والخطاب الفلسفي والتحدث فلسفيًا بطريقتنا، وفقًا لظروف عصرنا. نحاول إعادة التفكير في الفلسفة اليوم، عندما نصف، نحلل، نجادل، ننتقد، نعلم، نقترح، وما إلى ذلك. وإذا اكتشفنا خطرًا على البشرية أو على العالم أو على الفرد أو على جماعة ضعيفة نشعر من واجبنا اقتراح طريقة لمنع الشر أو الكارثة، وقد نحذر البشرية من القوى المدمرة الخفية، أو إهمال ما قد يكون كارثيًا، إلخ.

إن القوة التي تملكها الفلسفة هي هي قوة الكلمة، قوة الخطاب، كلام الفلاسفة والمختصين فيها كمعلمين، ومحاضرين، ومراجعين، وصناع رأي. قال فيلسوف عظيم في القرن العشرين: "الكلمة مملكتي ولا أخجل منها".

يحاول رجال الدين غالبا تحريم الفلسفة وربطها بالزندقة لأنها تكشف لاعقلانية أحكامهم ودوغمائية أدعائاتهم، ويحاول القادة السياسيون اقصاء الفلسفة أحيانًا ايضا؛ لانهم لايعرفون أيً قيمة ودور للفلسفة في المجتمع، ولأن ليس للفلسفة هدف تقني، ولا تساهم في زيادة إنتاج السلع المادية أو تعزيز قدرتنا التقنية. ولكن توجد اليوم علامات كثيرة على حيوية الفلسفة، ولا يزال التفكير الفلسفي يلعب دورًا هائلاً في العالم. وهكذا، إذا كانت "القوة" تعني التأثير الثقافي والسياسي، فقد أصبحت الفلسفة قوة عالمية عالمية.

 تزداد على كوكبنا الحروب والصراعات وفي هذه الأوضاع تتجلى قوة الفلسفة من خلال الدفاع عن حرية الفكر، وحرية التعبير عن القيم العظيمة، وحرية نقد الظلم، وحرية الحوار العابر للحدود الثقافية والوطنية. باختصار، تظهر الفلسفة في كل مكان كقوة للحفاظ على إرادة السلام. وربما يكون العالم مكانًا أسوأ لحياة الإنسان بدون فلسفة. يترتب على ذلك أن القوة لا تساوي بالضرورة الهيمنة على الآخرين، ولكنها يمكن أن تكون محررة، وتعطي مساحة لإمكانيات جديدة، وتفتح آفاقًا جديدة، وتكشف عن قوى وفرص خفية.

غالبًا ما ينسى المرء أن القوى الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية لا تمتلك احتكارًا للسلطة في العالم. إن الجدل والتفكير الفلسفي يشكلان قوة غير اقتصادية وغير تكنولوجية وغير عسكرية فبالكلمة الفلسفة قادرة على تحدي القوى الأخرى، وفضح الأكاذيب والخداع، واقتراح عالم أفضل كمسكن للبشرية. غالبًا ما تم تجاهل قوة الكلمة الفلسفية، عندما كان يُنظر إلى الفلسفة على أنها وصف خالص، ومرجع خالص، ومرآة بريئة تنسى نفسها وتجعلنا حاضرين امام الأشياء ( فلسفة الحضور).

 لذلك تم انتقاد فكرة الفلسفة كمرآة للطبيعة من وجهة نظر تأويلية ومن وجهة نظر براغماتية: رأى هانز جورج غادامير في كتابة" الحقيقة والمنهج" ( 1996) أنه لا يوجد وصف بدون تفسير للوضع التاريخي الذي نصفه به شيئًا ما، وأكد ريتشارد رورتي في كتابه "الفلسفة ومرآة الطبيعة" (1979)، على التركيز على الفعل الذي يغير العالم.

قام فيلسوف أكسفورد جيه إل أوستن بإلقاء الضوء على أفعال الكلام في عام 1955، ونشرها في عام 1962 في كتيب بعنوان "كيفية فعل الأشياء بالكلمات". لقد اثبت أن القضية التي تحمل المعنى هي فعل، ووصفه بأنه فعل محدد، لقد ادعى أن لا يمكن فصل الفعل تمامًا عما يسميه فعل الكلام الذي يؤثر في حد ذاته أو يشكل الفعل المقصود الذي له قوة معينة في قول شيء ما. بعبارة أخرى، فإن الموقف الكلي الذي يصدر فيه الكلام، هو ما يسميه أوستن فعل الكلام الكلي، دائمًا ما يكون منطقيًا وتعليميًا، وبالفعل عن طريق اختيار شيء نريد قوله قد نحذف أشياء أخرى لا نعتبرها مهمة، ويكون لنا تأثير معين على أولئك الذين يقرؤون أو يسمعون ما نكتبه أو نقوله. وهكذا ، كانت الكلمة دائمًا قوة في العالم. هذا يعني أن الفلسفة ليست محايدة تمامًا. يتحمل الفلاسفة مسؤولية معرفة كيف تفعل الأشياء بالكلمات.

إذا كانت الفلسفة تتمتع بقوة تأثير الكلمة، ليست كل أنواع الفلسفة جيدة أو مفيدة للإنسانية بالضرورة. لقد تعلمنا من القرن العشرين كيف يمكن أن يكون التفكير القومي والفاشي والشمولي مدمرًا وكارثيًا للإنسانية. يمكن أن تكون مغرية للغاية لمجموعة، وتغذي رغبات لجماعي تناشد الجزء الأسوأ من أنفسنا. لا يتشكل هذا الجزء من أنفسنا من خلال دوافعنا الأنانية فقط، بل أيضًا من خلال الدوافع الأنانية لجماعة وليس للأنا الفردية فقط ، " أنانية جماعية تقسم الإنسانية حيث يعتبر كل شخص آخر أو كل أجنبي ينتمي إلى جماعة أخرى أخرى أو أمة أخرى أو ثقافة أخرى كأعداء محتملين.

لكن لا يكفي العنصر الإنشائي للغة - كما يحدده أوستن - لفهم كيف يمكن أن يكون كلامنا خيرًا وشريرًا في الوقت نفسه. لا نجد في حالة الكلام تأثير للكلمة فقط من خلال نقل معنى من شخص إلى آخر، أو من خلال إعطاء معلومات حول شيء ما لشخص ما أو عن طريق طرح سؤال، أو التماس شخص ما، أو إصدار أمر أو تقديم عذر؛ فيمكن أن يهدف فعل الكلام إلى تشكيل الآخر أيضًا، وعلى سبيل المثال من أجل الهيمنة والإخضاع والإذلال. لذلك، هناك جانب ثالث من أفعال الكلام، ذكره ج.ل.أوستن ، لكنه لم يطوره كثيرًا، وعلينا أن نوليه مزيدًا من الاهتمام. هذا هو الفعل التنبيهي ( فعل التكلم الذي هدفه فعل لكنه لايشكل الفعل في حد ذاته مثل القناع) الذي يعرفه بأنه "تحقيق تأثيرات معينة بقول شيء ما".

قد يكون هذا الفعل التنبيهي أهم نوع من أفعال الكلام التي يتعين على الفلاسفة بحثها. لكن لا أجد، في كل فلسفة اللغة التي تطورت في القرن العشرين، تحليلًا كافيًا لكيفية تحقيق اللغة لتأثيرات معينة وتواصل مع الآخر بقول شيء ما له. لقد انشغل العديد من الفلاسفة بمحاولة فهم اللغة منذ التحول اللغوي في الفلسفة الذي ساهم فيه أوستن في الخمسينيات من القرن الماضي . فقد كان هناك، على سبيل المثال، تحليلات اللغة العادية من قبل لودفيج فيتجنشتاين وآخرين، وظواهر اللغة لمارتن هايدجر، وموريس ميرلو- بونتي وآخرين، وتأملات تأويلية حول تفسير الكلام والنص من قبل غادامير وآخرين، والتأمل في الرموز الشعرية والاستعارات والروايات لبول ريكور وآخرين، ونظرية الفعل التواصلي لهابرماس ومدرسته، والعديد من أشكال الفلسفة اللغوية الأخرى، سواء في الفلسفة التحليلية أو التركيبية، داخل الثقافة الأوروبية أو خارجها.

تعلمنا أن نفهم بفضل هذا التحول اللغوي، وهذا الاهتمام الذي نوليه للغة، كيف أن الفلسفة في حد ذاتها قد لا تنير وتحرر فحسب، بل تغوي وتتلاعب أيضًا. إن تعزيز التنوير والتحرير وتجنب الإغواء والتلاعب كانت أهداف الفلسفة منذ أن وصف أفلاطون طبيعة الحديث المنطقي، أي الحديث الذي يمكننا الاتفاق عليه في حوار يكون فيه كل محاور صادقًا مع نفسه وصادقًا مع الآخرين. بالتأكيد، بالنسبة لأفلاطون ولاحقًا على وجه الخصوص سرين كيركيغارد أن كلا من الساخرية وما أسماه جاك دريدا التفلسف في الهامش يعد معقولًا. لكن الإغواء والتلاعب - حتى عندما يطلق عليهما فلسفة - اللذان ينزعان إلى اختزال الناس إلى أدوات عمياء لأيديولوجية أو قطيع لزعيم يفكر بدلًا عنهم، لا يمكن أن يجلان العقلانية.

ومع ذلك، إن سبب وجود الفلاسفة هو أنهم حراس العقل المنطقي أو العقلانية. لذلك لا يمكن أن تأتي بنتائج عكسية إلا إذا تم ممارسة الفلسفة كمخدر أو كخطاب كراهية. وإن الفيلسوف الجيد منخرط في قضيته، ويتحدث بحماس عما يؤمن به، وهو عقلاني حتى في أصعب الانتقادات. لكن حديث الكراهية الذي يستخدم الإهانة والتشهير بالآخرين، سواء من قبل كان فلاسفة أو آخرين مثل سياسيين، يحول الفلسفة إلى حرب أنانية.

فقدت الفلسفة براءتها اليوم. لا يمكننا أن نتفلسف بدون التفكير في ممارستنا اللغوية. لذلك، هناك حاجة إلى مزيد من الفهم لفعل التنبيه من أجل جعلنا أكثر وعياً حول كيفية قيامنا في كل تواصل، من الأكثر حميمية إلى أكثر المجالات السياسية،، يمكننا بالتشجيع والإيذاء تحفيز الآخرين وقمعهم.

ليس لأن الفلاسفة يتمتعون بالقوة الظاهرة للخطاب أو الكلمة فقط ، ولذلك فإن المجتمع يتحداهم لتفسير ما يفعلونه من خلالالتعليم والتثقيف في الفلسفة والتحدث في الفضاء العام، ولكن أيضًا لأنهم لا يستطيعون تفسير نشاطهم دون التفكير في قوة الكلمة بشكل عام. وبالتالي يجب أن يدركوا أن هذه القوة هائلة. لا يمكنهم شرح الدور الإعلامي والخطابي للفلسفة اليوم دون مراعاة ما نقوم به لبعضنا البعض من خلال التحدث والكتابة كأشخاص عاديين وليس فقط كمختصين في الفلسفة في عالم ربما نشكله بكلماتنا، وربما أكثر من أي وقت مضى.

أنا أعتبر هذا التفسير من أكثر المهام إلحاحًا للمختصين في الفسلفة اليوم الذين يريدون إعادة التفكير في الفلسفة والذين يريدون تطبيق قدراتهم في التحليل والنقد للمشاكل الأكثر إلحاحًا التي نواجهها في عصرنا: كيف نتجنب بكلماتنا وبخطابنا الفلسفي ما يُعرف بـ" صراع الهويات" " وصراع الأصوليات" و " صراع الحضارات"، ونعزز نظام القيم في عالم يعاني من اختلالها ودعم أخلاقيات مواجهة الأوبئة الذي يعتبر أكبر تهديد للبشرية اليوم.

يترتب على ذلك أننا نحن مجتمع ارسطو لسنا مدعوين لفهم أنفسنا وقوة خطابنا الفلسفي فقط ولكن أن نساهم أيضًا في تطوير فهم لقوة الخطاب و قوة الكلمة بشكل عام. وبصفتنا أعضاء في مملكة الخطاب نحن مسؤولون عن التدريس وشرح ما يمكن للكلمات أن تفعله بين الناس، ليس فقط في بلد واحد ولكن أيضًا بين جميع الناس في العالم الذين ينتمون إلى دول وثقافات ولغات وتقاليد وأديان مختلفة.

 

دكتور علي رسول الربيعي

 

في المثقف اليوم