قضايا

محمود محمد علي: بين ميكافيلي والفكر السياسي الإسلامي

محمود محمد عليأود في هذا المقال أن أتساءل: هل نجح الفكر السياسي الإسلامي في العصر الوسيط في أن يقطع صلته بالفكر السياسي السابق عليه، سوي لدي اليونان والفرس وغيرهما؟.

أتصور أن بداية الإجابة ترتبط بمدى التغير الجذري الذي يمارس به المفكر السياسي دوره في الحياة السياسية في عصره، ومدى الأثر العميق الذي يحدثه في مجرى الحياة السياسية التي ينتسب إليها، من حيث قدرته على خلخلة الثوابت الجامدة وزعزعت الأفكار السياسية السائدة، وتأسيس نوع من الانقطاع الإبستمولوجى بين المعارف السياسية القديمة من جانب، والمعارف السياسية الجديدة من جانب آخر، مستهلاً؛ الجديد الجذري الذي يطرح سؤال المستقبل بقوة على العلم السياسي، نفياً لتقاليد الأتباع وتأسيساً لقيم الابتداع.

وتتجسد فى حضور هذا النوع من علماء المفكر السياسي نقاط التحول الحاسمة في تاريخ الفكر السياسي حيث لا توجد استمرارية فى المناهج المستخدمة في العلم السياسي بقدر ما توجد قطائع واستحداثات لا تنتهى .

هذا النوع من العلماء السياسة يهب على مجتمعه بما يشبه العاصفة الجائحة التي تتغلغل في كل الأركان، فلا تبقى شيئاً على حاله الذى كان عليه، حتى فى دائرة القوى والتيارات المناقضة والمناوئة للتحول والتغير. فحدة العاصفة التجديدية التى تندفع بها رؤية هذا العالم لا تقل عن الاتساع الممتد لتجلياتها والأثر العميق لمتولياتها والتغلغل الناتج لنوافذها، خصوصاً إذا كانت اللحظة التاريخية مهيأة للتغير الجذري، دافعة إليه ومتجسدة فى الرؤية الشاملة للعالم ومـتحققة بها في الوقت نفسه.

عندئذ يكون الأثر التجديدي لإنجاز هذا العالم السياسي شبيها بالزلزال، الذي يحدث تأثيراً جذرياً في صميم بنية العلم السائدة، وتكون حدة الاستجابات المتعارضة لهذا الإنجاز السياسي التجديدى في تتابعه المتصل أو تصاعده المستمر متوازية مع عمق الأثر الذى يتركه في مجالات كثيرة، تصل بين دوائر عديدة تشمل المجتمع السياسي بأسره .

وبقدر عمق الأثر الذي يحدثه هذا الإنجاز من حيث جذر يته ونفاذ تأثيره إلى صميم الأنساق والأنظمة والعلاقات في بنية العلم السياسي السائدة، يظل هذا العالم السياسي حياً في الذاكرة العامة، باقياً كالعنصر المستفز للوعي، مثيراً للأسئلة التي لا يتوقف ما يتولد عنها من أسئلة على امتداد العقود، والتي لا تكف عن وضع هذا العالم السياسي موضع المسألة بالقدر الذي لا تكف به عن إعادة قراءة إنجازاته وتأويلها، أو تفسيرها بما يتيح نوعاً جديداً من الأجوبة التي لم تخطر ببال أحد .

وقد كان " ميكافيلي" Machiavelli على سبيل المثال واحداً من هؤلاء السياسيين ذوي الحضور العاصف الذي أقام الدنيا ولم يقعدها مرات ومرات، وذلك حين طرح ميكافيلي كثيراً من تصوراته حول ما يجب أن يكون عليه السياسي شخصياً وما ينبغي عليه ممارسته عملياً، إذا اراد النجاح في حقله هذا، بغض النظر عن النتائج الاجتماعية وردود الفعل الأخلاقية ؛ حيث "الغاية تبرر الوسيلة". وقد كرّسَ ميكافيللي جلَّ مؤلفاته لإنتاج مفهوم جديد للسياسة بصفتها علماً وضعياً منفصلاً عن الدين والأخلاق، إذ كان ببساطة ينزع إلى تخليص السياسة من أي اعتبار خارجي، وإلى جعلها علماً مستقلاً بذاته. ورغم تعدد مؤلفاته وتنوعها، إلا أن أبرزها هو كتاباه، الأمير والمطارحات.

ولأن هذه الأطروحات التي نادي بها ميكافيلي انشغلت بأسئلة المستقبل،وطرحت على نفسها أسئلة العهد السياسي الجديد التي استبدلتها بأسئلة العهد السياسي القديم، فإنها ظلت عنصراً تأسيسياً من عناصر العهد السياسي الآتي والمقبل الذي هو صيرورة دائمة من التحول، كما ظل محل رعاية من الأزمنة اللاحقة التى تطلعت إليها هذه الأطروحات، تطلع الاستشراف، والترقب، والإرهاص، والبشارة، والتحذير في آن واحد، وذلك هو السر في تعدد الاستجابات اللاحقة إلى إنجازات " ميكافيلي " سواء فى تباينها أو تعارضها أو تصارعها الذي يكشف عن عمق الإشكاليات التي تنطوي عليها الاطروحات أو تثيرها .

وهذا هو السبب الذي جعل معظم مؤرخي العلم والفكر السياسي يربطون اسم "ميكافيلي" بأحداث مهمة في تاريخ العلم والفكر السياسي الحديث، فنرى اسمه، يرتبط بولادة الفكر السياسي الحديث، وَتَدْشِين ميكافيللي لطريقة جديدة في الكتابات السياسية، تمتاز عن طرائق الآخرين بميزتين أساسيتين: الأولي هي تركيز اهتمامه علي معطيات العالم السياسي الواقعي، وإهمال أي حديث عن إقامة جمهوريات أو إمارات مثالية. والثانية هي عدم الاكتراث بمقولات علماء الأخلاق عمّا يجب فعله، بل الاهتمام بما يُعمل حقاً، بما يفعله الأمراء بصورة خاصة للحفاظ على سلطتهم؛ علاوة علي اعتماد ميكافيلي علي اختبار الأفكار، وذلك بعرضها على مختبر التاريخ، وملاحظة تكرار وقوعها، واستقصاء النتائج الحسنة أو السيئة التي تترتب عليها بالنسبة للحاكم أو الدولة، ثم استقصاء طبيعة السلوك الذي أدى إلى هذه النتيجة أو تلك.

وقد كان مفكرينا وفلاسفتنا السياسيين في العصر الوسيط، مثل "ميكافيلي"، متمردين على الأفكار السياسية - القديمة والجامد، والتي تفرض منطق الأتباع، بدليل أن كتاباتهم السياسية تؤكد أنهم كانوا يبحثون فى مشكلات وقضايا سياسية، أظهرت نتائج خاطئة فى الوقت الذي تكشف فيه تلك القضايا أنه بُحث منذ سنوات خلت فى المسائل السيسية ذاتها، وتم التوصل إلي إلى نتائج سياسية جديدة صائبة بشأنها.

وأكثر من ذلك أكد الفكر السياسي الإسلامي في العصر الوسيط علي أهمية هذا النشاط العقلي الذي يضم الآراء والمبادئ والأفكار لمجموعة بشرية معينة هم المسلمين، منذ أن نشأ لهم مجتمع سياسي وتكونت للإسلام دولة منذ عهد النبي (صلي الله عليه وسلم) حتى عصرنا الحالي بما يعني أن هذا الفكر له مراحله، وله تاريخ يشمل هذه المراحل ويضم الكتابات حول الأفكار والمبادئ والنظريات التي تخص حياة وأهداف المسلمين السياسية والقواعد التي تحكم وتنظم وما يطلق عليه سياسي ويخص المسلمين كأمة ومجتمع سياسي؛ وذلك لكونه يمثل حقل إبستمولوجي ينطوي على دلالات إبستمولوجية هي خلاصة مفهوم مركب من ثلاثة مفاهيم فرعية: الموصوف، وهو الفكر والصفتان له:السياسي والإسلامي وكل مفهوم منها تختلف تعريفاته بقدر ما تتشابه وتتنافر بقدر ما تتجاذب.

علاوة علي أن النظام السياسي الإسلامي في العصر الوسيط بدأ يتشكل بصورة مغايرة عن المنظومة السياسية للعرب في الجاهلية، حيث كانت المنظومة القبلية، هي رمز السلطة في المجال السياسي. بينما جاء الإسلام بمفهوم أوسع من المحدد القبلي كمدخل للنظام السياسي، واتجه إلى صهر المنظومة القبلية في إطار أوسع أطلق النبي صلى الله عليه وسلم بـ "الأمة"، حيث أن أول ظهور للسلطة السياسية في المجال الإسلامي كان بعد الهجرة إلى المدينة والاستقرار بها، وكان مستنداً على وثيقة الصحيفة أو دستور المدينة. والذي سعى من خلاله النبي صلى الله عليه وسلم إلى إنشاء جماعة سياسية مدنية فوق القبيلة ومتخطية الكثير من أعرافها السياسية، تعتمد العلاقات داخلها على حفظ السلم، والأمن وسُمّي هذا التشكيل "بالأمة". وبالتالي فإن مصطلح “الأمة” رؤية أخرى وبصورة أكثر شمولية لفهم النظام السياسي في الفكر الإسلامي.

وليس من الضروري أن أقوم بتعديد الجوانب التجديدية في الفكر السياسي الإسلامي في العصر الوسيط، كما أنني لست فى حاجة أيضاً إلى تأكيد تعدد أدواره فى العلوم الأخرى، فكل ذلك تأكيداً للأثر الجذري الذي يصله بأبناء جيله.

ومع ذلك فإن فكرة القطيعة الإبستمولوجية تعد فكرة منقوصة قياسا لما نجده في الفكر السياسي عند ميكافيلي وغيره من كبار فلاسفة السياسة المحدثين والمعاصرين من الأوربيين، ولعل مرد ذلك يرجع إلى عدة أسباب من أهمها على سبيل المثال لا الحصر:

السبب الأول: ليس في كتابات "الفارابي" و"المواردي" و"ابن أبي الربيع"، وغيرهم فكراً سياسياً جديداً كل الجدة، بل كانت كتاباتهم تعكس أفكاراً سياسية قديمة مستقاه من الفكر السياسي اليوناني والروماني والفارسي، ومن ثم فحال أغلب المفكرين السياسيين المسلمين في العصر الوسيط هو حال عالم ومفكر سياسي يبتكر جديداً، بل كتاباتهم السياسية تعكس ما كان قائماً بالفعل عند المفكرين السابقين عليهم من أمثال "أفلاطون" و"أرسطو" وغيرهما.

السبب الثاني: إن كتابات الفلاسفة المسلمين في الفكر السياسي، كانت تهتم علي الدوام بكافة القضايا السياسية وشغفهم بها يزداد على مر الزمن، ولقد أدى ولعهم بقضايا السياسة على هذا النحو إلى الانشغال عن بعض أعمالهم الهامة، فكان أن خلفوا ورائهم تحفاً وأفكار سياسية لم تكتمل بعد .

السبب الثالث: حتى لو كانت كتابات الفلاسفة المسلمين في الفكر السياسي تملك بالفعل أفكاراً سياسية مبتكرة ونظريات أصيلة، فإنه تظل فى ذلك بعيداً عن احتلال مرتبة مهمة جداً فى تاريخ العلم والفكر الحديث والمعاصر .

والأهم فى تقديري هو مواجهة السؤال الذي فرض نفسه في البداية، ولا بد أن يفرض نفسه في النهاية ؛ أعنى السؤال الذي يرتبط بانتقاص تطبيق فكرة القطيعة المعرفية بالقياس إلى بحوث ميكافيلي السياسية على سبيل المثال؟

أحسب أن الإجابة أصبحت الآن واضحة من حيث ارتباطها بدرجة الثورة الجذرية التى لم تصل إليها أعمال كتابات الفلاسفة المسلمين في الفكر السياسي بالقياس إلى ميكافيلي، حين اكتشف ميكافيلي أسس الفلسفة السياسية الحديثة التي كان لها أكبر الأثر في تاريخ أوربا الحديث والمعاصر، وكان كتابه " الأمير" أول محاولة كبرى لنزع القدسية عن السلطة السياسية، وبياناً إنسانياً لنظام سياسي جديد، ووصفة لنظام حكم جمهوري ديمقراطي، ودعا إلى تكوين دولة قوية لإقامة الوحدة بين الشعوب.. الخ.

وعلى أية حال نحن لا ننكر أن كتابات المفكرين والفلاسفة المسلمين في مجال السياسة في العصور الوسطي فيها من الايجابيات ما يذكر لها بالقطع، ولكننا إذا وضعناها تحت مجهر الابستمولوجيا المعاصرة، وخاصة ابستمولوجيا " جاستون باشلار" القائمة على فكرة القطيعة الإبستمولوجية، نجد أنها لا تستطيع أن تخلف لنا الأثر الجذري الذي تركته أعمال ميكافيلي، ولذلك ظلت بحوثههم السياسية بعيدة عن خلق قطيعة ابستمولوجية كتلك التي أحدثها كتاب " الأمير" لميكافيلي.

وخلاصة القول أن المفكرين والفلاسفة المسلمين قد أخذوا من كل ملاحظات وتجارب السابقين عليه في السياسة بطرف، واهتم بالرجوع إلى المدينة الفاضلة والدين اهتماماً خاصاً، ولكنه ظلوا في المنطقة الهادئة من الفكر والإبداع، تلك المنطقة التي لا تعرف الحدية في رفض القديم، أو الجذرية في التجديد، فكانوا نموذجا للوسطية التي لا تثير العواصف ولا تهيج البراكين ولا تتحول إلى زلزال، وإنما تمضى في يسر إلى هدفها الذي يكمل مهمة غيرها .

هذا هو تفسيرنا الإبستمولوجى لأسباب عدم نجاح فكرة القطيعة الابستمولوجية على بحوث وكتابات الفلاسفة المسلمين في مجال السياسة، وهو أنهم لم يتخلصوا كلية من فكر السابقين عليه في نهجهم السياسي، وبالتالي لم يحققوا التغير الجذري كما حققه العلماء اللاحقون عليه، وبالأخص ميكافيلي . وبالتالي لم تبرح بحوثهم وكتاباتهم السياسية أرض تاريخ العلم والفكر السياسي الحديث والمعاصر، لتحدث قطيعة أو ثورة على الفكر السياسي القديم كله.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم