قضايا

محمود محمد علي: الحفر الأركيولوجي والإبستمولوجي لسلسلة أفلام "جيمس بوند" الجاسوسية (1)

محمود محمد عليذهب الفيلسوف الفرنسي المعاصر "ميشيل فوكوه" Michel Foucault)‏ (1926 – 1984) في كتاباته، وبالأخص كتابه "حفريات المعرفة"، إلى أن المادة النصية والمتضمنة في الموروث، سواء كان هذا الموروث  كتب أو سلسلة أفلام، والتي يبحث فيها المنهج الأركيولوجي الحفري، هي بمثابة أفكار، ومفاهيم، وقيم مندرسة، اندثرت في أعماق طبقات التاريخ، فيقوم هذا المنهج بمقارنتها، بالتنقيب عنها، وتعريتها بالحفر المعرفي المعمق والدقيق، في الطبقات النصية، وإزالة ما رسب عليها، وتراكم مع الزمن، من مدركات غير مستقرئة، بغرض إظهارها ثانية، على صورتها الأولي الحقيقية، وعليه إنتاج للفكر، والقيم، والرؤى المعرفية، والثقافية، المندرسة في الموروث التراثي، وليس إنتاج جديد مولد للنص، وللمضامين التي يجملها، لأن ذلك خارج مهمة المنهج الأركيولوجي، وخارج مهمة البحث التاريخي عموماً ؛ علاوة علي أن المنهج الأركيولوجي الحفري، في كشفه للتراث الثقافي، وإحيائه للفكر والمعرفة في خزانة التاريخي، إنما هو يتصفح الوقائع والأحداث والمشاهد التي تفصح عنها، ويعيد قراءته لها بعمق، وفق رؤية تحليلية – تفكيكية – تحليلية، ليبين الكيفية التي نجحت فيها المعارف، والقيم التنويرية والثقافية، في فترة تاريخية معينة، أن تجد فرصتها في الإنتاج المعرفي والتقييم الثقافي، ثم القبول في المدركات الاجتماعية (1).

وفي هذه الورقة أقوم بقراءة فلسفية قائمة على الحفر الأركيولوجي لسلسلة أعمال جيمس بوند مستخدما في الوقت نفسه "نصل" أو "شفرة" "وليم أوكام"  William of Ockham‏ (ولد 1288 - توفي 1348)  والتي أقتطع بها الزوائد من خلال قراءة فلسفية معاصرة، وفي هذا أقول : لقد  قدمت السينما الإنجليزية العديد من الأفلام التي تحمل قضايا وموضوعات سياسية مهمة تهم الجمهور، حيث لم تكن السينما الإنجليزية محل اهتمام الجمهور الإنجليزي فقط، بل كان ينتظر العالم ماذا ستقدم السينما الإنجليزية، خاصة وأنه كان يطلق عليها قبل بروز السينما الأمريكية "هوليوود الغرب"، نظرا لما كانت تقدمه لنا عن أفلام الجاسوسية، والتي كانت تتناول قضية الجاسوسية، وذلك لتسليط الضوء على الحرب الباردة التي كانت بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، حيث وفرت الحرب الباردة خلفية مناسبة لروايات الجاسوسية، علاوة علي تجسيد دور الماسونية تلك المنظمة السريّة الرهيبة التي تسعى للهيمنة على العالم، وتختزل كل الشرور، ومن ثم يسود النظام الخاص بهذه المنظمة السرية، بينما الجماهير مخدوعة ومغيبة، مع الاهتمام كذلك بقضية نهاية التاريخ (2).

وعند الحديث عن أفلام الجاسوسية في السينما العالمية، يتبادر إلى الأذهان ودون أي تردد أفلام جيمس بوند  James Bond، "أشهر عميل سري على وجه الأرض"، فجيمس بوند، يمثل بالفعل ظاهرة فريدة في عالم الأبطال الخياليين، وأحد أبرز الشخصيات الأسطورية في السينما العالمية، التي جمعت بين خيال الأدب وسحر الشاشة الكبيرة، وإغراء الموضة، وروح الإبداع، وقد اشتهر هذا "البطل الذي لا يموت" بالمركبات والمعدات العجيبة التي كانت مهمة لإتمام مهمته بنجاح (3).

وتلك الشخصية الخيالية أبدعها الصحفي والروائي البريطاني "إيان فليمنج" في عام 1953 عبر أول رواية "كازينو رويال"، وقد كتب "فليمنغ" إثني عشر رواية ومجموعتين قصصيتين قصيرتين، مما جعل سلسلة أفلام "بوند" تستمر على مدار نحو 60 عاماً عصية علي الغياب، فأين تكمن قوة بقاء هذه السلسلة في الصدارة حتى اليوم ؟.

تعد سلسلة أفلام "جيمس بوند" هي سلسلة أفلام تجسس تستند إلى الشخصية الخيالية لعميل "إم آي 6" جيمس بوند "007"، الذي ظهر في الأصل في سلسلة من الكتب كتبها إيان فلمنغ. تعتبر السلسلة واحدة من أطول سلاسل الأفلام مستمرة في التاريخ، إذ استمر إنتاجها من عام 1962 إلى الوقت الحاضر (مع توقف لمدة ست سنوات بين 1989 و1995). في ذلك الوقت أنتجت أيون للإنتاج 24 فيلماً، معظمها في استوديوهات باينوود. مع تحقيق مجموع إجمالي للإيرادات أكثر من 7 مليارات دولار حتى الآن، تشكل الأفلام التي تنتجها ايون سادس أعلى سلسلة أفلام ربحًا. لعب ستة ممثلين دور العميل 007 في سلسلة ايون وآخرهم دانيال كريغ؛ وقد أنتج "ألبرت آر. بروكولي وهاري سالتزمان" معظم أفلام شركة "أيون" حتى عام 1975، وأصبح "بروكولي" المنتج الوحيد بعد ذلك. كان الاستثناء الوحيد خلال هذه الفترة هو فلم كرة الرعد، الذي أصبح فيه بروكولي وسالتزمان منتجين تنفيذيين بينما أنتج كيفين مكلوري الفلم. من عام 1984 انضم إلى بروكولي ربيبه ميخائيل جي ويلسون كمنتج وفي عام 1995 ترك بروكولي شركة أيون وحلت محله ابنته باربرا التي شاركت في الإنتاج مع ويلسون منذ ذلك الحين. امتلكت شركة عائلة بروكولي دانجاب (وحتى عام 1975، شركة سالتزمان أيضًا)، السلسلة من خلال ايون، وحافظت على الملكية المشتركة مع شركة يونايتد أرتيست منذ منتصف السبعينيات في القرن العشرين. شهدت سلسلة ايون استمرارية في كل من الممثلين الرئيسيين وفي أطقم الإنتاج، مع استمرارية في المخرجين والكتاب والملحنين ومصممي الإنتاج وغيرهم ممن عملوا خلال عدد من أفلام السلسلة زالت تجسد شخصية "جيمس بوند" (4).

و"جيمس بوند" يُعد أشهر ضابط مخابرات في العالم، وهو خيالي ولا يمكن أن يتواجد في الحياة العادية، وهو الشهير والنشيط والمليء بالحيوية، وبالإضافة إلى أن ضابط المخابرات لا ينتهي أمره بحضن امرأة أو شرب كأس، إنما الشخصية في الواقع مختلفة تماماً؛ حيث يمكننا قياس نجاح أفلام "جيمس بوند" بنجاح مؤدي دور الشرير فيها، وهو معيار خفي غاب عن أذهان كثير ممن شُغِفُوا بفتيات بوند أكثر من أشراره. تميّز فيلم "سكاي فول" (2012) لمخرج "سبكتر" نفسه "سام منديس" بسبب أداء الإسباني "خافيير باردوم" دور شرير غريب الأطوار. هنا، تصدّى الممثل النمساوي القدير "كريستوف وولتز" لدور رئيس منظمة سبكتر، وأضفى حضوره رهبة وإثارة مشابهين (5).

كان جيمس بوند رجل مخابرات، أي جاسوسا، يخدم المخططات الاستعمارية البريطانية والأمريكية، وكان الأشرار في أفلامه من سكان العالم الثالث أو من عملاء المخابرات السوفيتية.. الشريرة.. التي تريد منع الغرب من نشر قيم "التحضر" والرقي والحريات، وكان بوند رمزاً استعمارياً، لكنه كان محبوباً، فقد كان وسيماً ورشيقاً وشجاعاً وجذاباً، وكان يمتلك قدرة خاصة على إغواء الحسناوات، فهو يجيد اللعب في أندية القمار، يرتدي ملابس السهرة ويغشى تلك الأندية دون وجل، متحديا شرير الفيلم، الثري، الخارج عن القانون، الذي يحصن نفسه عادة داخل قلعة يحيطها بالحراسة المشددة، ويجهزها بأحدث الأجهزة الإلكترونية، ويوظف الشرير في خدمته عادة عددا من أعتى الحراس وأكثرهم بشاعة وقوة وقدرة على الفتك بأعداء الشرير صاحب المخطط الجهنمي للسيطرة على العالم، لضرب أقوى قوة في الأرض أي الولايات المتحدة، وربما التسبب في حرب عالمية بين أميركا والاتحاد السوفيتي (6).

لم يلتفت "جيمس بوند" أبدا إلى الضعفاء من شعوب بلدان العالم الثالث لكي يساهم، ولو بقدر ضئيل، حتى على سبيل "الشفقة"، في مساعدتهم على التخلص من حكامهم الدكتاتوريين الذين يحكمونهم، بل على العكس، كان دائماً يسخر من هذه الشعوب "المستضعفة"،  وأثناء مشاجرة عنيفة بالأيدي بينه وبين شرير محلي في منطقة أهرامات الجيزة في أحد الأفلام التي كان يقوم ببطولتها روجر مور، يتغلب بوند على خصمه بالطبع، ثم يهز مجموعة من الحوامل الخشبية (السقالات) القريبة من "أبي الهول"، للقيام ببعض أعمال الترميم هناك، فتنهار جميعها مخلفة غبارا كثيفا، فيعلق بوند في سخرية: بناة الأهرامات، أي أنظر كيف أن بناة الأهرامات لا يستطيعون إنشاء هيكل بسيط من الأخشاب! (7).

ورغم ذلك كان بوند محبوباً، والأسباب كثيرة، كانت شخصية جيمس بوند تحقق المتعة والإثارة وتجسد الشجاعة الفردية في عالم مليء بالإحباطات، وكانت الحبكة في أفلام بوند تدور عادة حول الصراع البدائي بين الخير والشر، الخير يتمثل في إنقاذ العالم من شرور الشرير، والشر يكمن في التآمر لإحداث أكبر قدر من الضرر.. هكذا على هذا المستوى الأولي البسيط الذي لا يقتضي وجود ثقافة وفهم ومعرفة بأحوال العالم السياسية وعملية الاستقطاب والحرب الباردة التي كانت قائمة بين المعسكرين، الإشتراكي والرأسمالي (8).

ولا شك في أن جيمس بوند أضحى في أذهان كثير شخصية حقيقية عاشت في الواقع فعلاً، مثله في ذلك مثل أساطير عديدة في تاريخ الأدب والفنّ السينمائي، مثل: دون كيشوت، شرلوك هولمز، طرزان، زورو، رامبو، هركول بوارو، إنديانا جونز، ومؤخراً روبرت لانغدون بطل "شيفرة دافنشي". أول من جسّد شخصية بوند على الشاشة الفضية وأفضلهم في نظر كثير هو النجم الاسكتلندي شون كونري، أول من جسد شخصية "جيمس بوند" في 6 + 1 من الأفلام، (إذ إن فيلمه الأخير والمتأخر "لا تقل أبداً مرّة أخرى" (1983) أُنتج بصورة غير رسمية).

كان شون كونري إحدى أيقونات النصف الثاني من القرن العشرين بكلّ ما شهده من أحداث مثيرة في ظلّ الحرب الباردة التي استمرت ما بين 1945، عندما انتهت الحرب العالمية الثانية، وخريف العام 1989 لدى سقوط جدران برلين كمقدمة لسقوط الاتحاد السوفياتي، رسميّاً، مطلع العام 1992، وانتصرت الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الباردة مستخدمة أسلحة مختلفة، كان من بينها أفلام "جيمس بوند" التي سبقت بعشرين سنة كلام الرئيس الأمريكي السابق "رونالد ريجان" عن "إمبراطورية الشر" والإعلان عن برنامج "حرب النجوم". ما كان لهذه الأفلام أن تنجح لولا "شون كونري" الذي تصدّى لكل نوع من "الأشرار"، بدءاً بـ"الدكتور نو" الساعي إلى السيطرة على العالم والعميلة السوفيتية التي حاولت اغتياله خلال رحلة في أحد القطارات... وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

(1) شرف الدين شكري: المنهج الأركيولوجي والرؤية الفنية، دراسة اجتماعية سيوسيولوجية للأديب الجزائري مالك حداد، الجزائر، 1997، ص 12-16.

(2) رامي عبد الرازق: جيمس بوند» 22 فيلماً فى 46 عاماً والنجاح مستمر.. الأربعاء 12-11-2008 00:00.

(3) زكرياء بلعباس: جيمس بوند.. بطل وُجد ليبقى ويستمر,, 06 نوفمبر 2020.

(4) جيمس بوند في الأفلام: من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.

(5) د. رياض عصمت: جيمس بوند أسطورة الشرّ من جديد، مجلة الدوحة: وزارة الإعلام س9, ج99 (2016): 151.

(6) أمير العمري: جيمس بوند: قصة حب قديم يتجدد باستمرار.. مجلة العرب.. الجمعة 2018/06/01

(7) المرجع نفسه.

(8) المرجع نفسه.

 

في المثقف اليوم