قضايا

محمود محمد علي: الرقص الشرقي.. هل هو فن بسمعة سيئة؟

محمود محمد عليلم ينكر أي مجتمع في تاريخ البشرية على نفسه الحق في الرقص، والموسيقى، والترويح عن النفس، فمنذ بداية تدوين التاريخ على جدران الكهوف، دونت الرقصات التي اعتبرت نوعاً، فإنه بلا شك لم يكن يخلو من البهجة والمتعة؛ إذ تصاحبه الموسيقى، أو الغناء، أو كليهما؛   كما كان الرقص في جوهره، فن من أرقى الفنون الإنسانية عبر التاريخ، يهدف عبر الموسيقى إلى تواصل الروح مع حركات الجسد، لتعبر الروح عما يجتابها من مشاعر.. ألم.. حب.. سعادة.. حزن، ويكون في حالات أخرى محاولة لهروب الروح من أعباء الجسد المادي العالقة به.

وفيما يتعلق بتاريخ الرقص الشرقي، هناك أكثر من دليل على انطلاقه من هذه المنطقة من العالم، وينتشر هذا الرقص بشكل خاص في مصر، تركيا، لبنان. ويسمى الرقص الشرقي باللغة الإنجليزية البريطانية بيللي دانس (Belly Dance)‏، أو أورينتال دانس (oriental dance)،‏ ويسمى باللهجة الأمريكية ميدل إيسترن دانس (Middleastern Dance)‏. كانت أولى دلالة للرقص العربي في اللغة الإنجليزية عام 1899. بعد أن أخذت من الاسم الفرنسي للرقص الشرقي (danse du ventre)‏. فالكثير من الآثار في مصر والشام واليمن وإيران تشير إلى أن النساء كن يمارسن الرقص الشرقي كطقس احترافي وتقليدي مهم.

فمثلاً تمتلئ المقابر الفرعونية برسومات لفتيات يؤدين حركات الرقص الشرقي مع بعض الفروقات بالتأكيد عن الرقص الشرقي المعاصر، وكذلك توجد رسومات مشابهة في آثار العصر الساساني في إيران، بالإضافة إلى النقوش على الفضيات القديمة لفتيات بزي يشبه الزي المعاصر، يمارسن فيه حركات الرقص المعروفة. ورغم ندرة الشواهد الأثرية في الجزيرة العربية، فقد عثر في معبد الإله “ذو المقمة”، في مدينة سمهرم، وقد كانت إحدى مدن حضرموت القديمة، على تمثال برونزي لراقصة ترتدي حزاما حول خصرها له أهداب تذكر ببدلة الرقص الحديث.

بيد أن البعض عندما يتكلم أحدهم عن الرقص الشرقي في مجتمعاتنا العربية الحالية، ينتابنا شعورٌ إلي بالإشمئزاز، بالكاد يكون ملموساً، من هذه المهنه، ونتخيل صوره امراه غريبه اختطفت وأجبرت علي التعري من دون مراعاة حقها في التعبير. قد لا يكون الجميع مدركًا هذه الدلالات، ولكن علي الرغم من ذلك، تم وضع هذا الرقص في خانه الطقوس الجنسيه التي حافظت علي القليل من قيمتها الثقافية. والأمر الأكثر إحباطًا، هو الطريقه التي ينظر بها إلي الرقص الشرقي في المكان الذي نشا فيه وازدهر.

والسؤال الآن: هل الرقص الشرقي فن له تاريخ أم قلة أدب؟

قد تكون الإجابة الطاغية لدى العامة أنه قلة أدب، ولا تمارسه بنات الأصول والعائلات المحترمة، ويشار إلى الراقصات أنهن نسوان "مش متربيه"...هذا الانطباع يأتي لأن العادات والتقاليد المحافظة في المجتمعات العربية تضع النساء في خانة معينة، ولا تريد أن تراها إلا في اطار المحارم... كالأم والزوجة والأخت والبنت، التي تعمل في دوائر الحكومة وغالباً مدرسات وإداريات في مدارس البنات، وأي أمر آخر يرفضه ويرجمه المجتمع ويطلق عليه رصاصة.. الرأي الرافض له!

ويعتقد الكثير من متابعي الغناء والفن الشعبي في مصر بأن الأغنية الشعبية والرومانسية هي فقط التي تعبر عن الفن بجميع أنواعه وأشكاله، ولكن تكون النظرة للرقص الشرقي نظرة مختلفة وسيئة، ليس فقط للفن بذاته، ولكن لمن يمارس تلك الفنون، والرقص الشرقي، هو فن من أنواع الفنون التي تميز مصر عن العالم، ويهتم بهذا الشكل من الفن جميع الاعمار ومختلف الجنسيات والأنواع حتي وإن كانت من تمارس تلك المهنة ليست بمصرية.

وقد تاتي هذه النظره للرقص الشرقي من الحكايات والأساطير التي جري إثباتها كحكايات الراقصات الجواري في قصور ملوك السلطنه العثمانيه أو عودهً بالتاريخ إلي ايام مصر واليونان والهند حيث استعمل هذا الرقص لعباده الآلهة والمساعده علي زياده الخصوبه. وللمزيد من الغموض حول الرقص الشرقي جعلت الغجريات الأسبانيات من هدفه أمرًا غامضًا، فمن جههٍ يمكن تأديته للاثاره الجنسيه، ومن جهة أخري يمكن أن يكون جزءً من الطقوس الدينيه. لم تبق هاتان النظرتان المتناقضتان للرقص الشرقي بعيدتين إحداهما عن الاخري بل اجتمعتا لتلدا فنًا جميلًا.

ويتحدث الراحل "إدوارد سعيد" في مقالٍ بعنوان  Homage to a Belly Dancer، عن الرقص الشرقي بأكثر أشكاله أصالهً، عندما يستذكر حياة أحد أهم الراقصات الشرقيات وأكثرهن شهره، الراقصة المصرية "تحيه كاريوكا"؛ فكاريوكا ، وسامية جمال ، شاهدتان علي زمنٍ تطور فيه هذا الرقص الشعبي، ليصبح أكثر خصوصيهً ورسميهً. إعتادت راقصات الغوازي الرقص في حانات شوارع مصر لكسب عيشهن، إلّا أن الراقصات اللواتي تدرّبن علي أيدي عرّابه الرقص الشرقي بديعه مصابني، رقصن في الشوارع ذات الحانات المحترفه والخاضعه للضوابط. فمع مصابني استطاعت الطبقه الراقيه في المجتمع المصري الاستمتاع بمشاهده راقصات محترفات، خلافاً لما كان عليه الحال لدي راقصات الشوارع. فالموسيقي التي رقصت عليها تلميذات مصابني بطيئه وغير منتظمه النغمات، علي عكس الموسيقي الشعبيه المعروفه بالبلدي، التي رقصت علي انغامها الغوازي.

ويسلط إدوارد سعيد في مقالته الضوء علي ميزه خاصه للرقص الشرقي، غالباً ما تجاهلها معاصروه، هي "عدم الاكثار من الحركات تماماً كما في مصارعه الثيران، وهنا يكمن جوهر الرقص الشرقي". يضيف سعيد في مقالته ان "المبتدئات والمقلدات البائسات من اليونان والأمريكان فقط هن من لجان إلي الالتواء المثير والقفز، بهدف الإثاره الجنسيه تماماً عكس ما فعلته كاريوكا". ويتذكر سعيد يوماً شاهد فيه كاريوكا ترقص عندما كانت مراهقه، ويقول إنّها "لم تقفز أبداً ولم تمايل ثدييها ولم تهتز حتي، بل كانت براعتها تكمن في أداء كلاسيكي عظيم".

ولذلك نجد عبر التاريخ الاجتماعي في البلاد العربية إرتبط الرقص الشرقي بالسمعة السيئة، ووسيلة لإثارة الغرائز، لكن بتجريده من كل ما لحق به من تشويه على مدار تاريخه، نجد أن دوره كان أكبر من الفكرة التي لدينا، فهو بدأ عبادة في الحضارات القديمة وطقس ديني له مناسباته وأجواؤه الروحانية العالية، ولدى الطرق الصوفية هو خلاص الروح من عبء الجسد.

وقد يسألني بعض القراء قائلاً: لماذا الرقصُ الشرقى الآن؟ هل انتهت كل القضايا الجادة لكى نفتح ملفَّ الرقص الشرقى علي صفحات المثقف الزاهرة ؟

والإجابة.. أنه لا توجد مناسبة اجتماعية سارَّة فى حياتنا، وعلى رأسها حفلات الزفاف، إلّا وفقرة الرقص الشرقى موجودة فيها، سواء بحضور راقصة شهيرة وإذا لم توجد الراقصة تتكفل بنات العائلة بهذا الدور، والأهم من ذلك أنه فى كل الأفراح الآن لا بُدّ أن يشارك العروسان الرقص مع الراقصة أو مع المعازيم، حتى فى المناسبات القومية يُعبّر الناسُ عن فرحتهم بأداء وصلات من الرقص الشرقى تعبيرًا عن فرحتهم، بل كنا نلاحظ فى الانتصارات التى يحققها المنتخب الكروى المصرى انطلاقَ الآلاف فى الشوارع يرقصون فرحًا بهذه الانتصارات.

باختصار شديد؛ الرقص الشرقى فى مصر ليس ظاهرة حديثة، لكنه تاريخ طويل يعود لأيام الفراعنة، وقد سجّلت النقوش الفرعونية ملامح لهذا الرقص وفى كل العصور والأزمنة كان الرقص موجودًا وتطوَّر بمرور الأيام، حتى إنه احتل مكانة مهمة فى كتابات ومؤلفات الأدباء والمفكرين، بل والدراسات الأكاديمية، كذلك اختلط الرقصُ بالسياسة؛ حيث إن هناك أكثر من راقصة مشهورة لعبن أدوارًا سياسية مهمة.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم