قضايا

منير لطفي: الوَرَع في زمن الوَلَع

منير لطفيفي زمن تكالبت فيه المادّة وأصيب الناس بسعارها، حتى بات الولَع بالدنيا ومباهجها عنوانا لإنسان العصر اللاهث وراء الحاجيات والكماليات بشتّى صنوفها؛ بات الحديث عن مقامات السالكين ومنازل الترقِّي لازما لزوم المكابح لسيارة تندفع بعنفوان على الطريق السريع، ولزوم الدرع لمقاتل يتصدّر الصفوف في ميدان الجهاد، إذ بدونهما تحدث كوارث لا يعلمها إلّا الله، ونخسر الروح والجسد معا.

والحديث هنا عن ورَع نعته النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري في صحيحه الجامع بأنه خير الدين، ولكنّ الناس -وا أسفاه- نسوه أو تناسوه في جملة ما نسوه وتناسوه من شريف الشريعة وكلّ ما فيها شريف، حتى بات الحديث عنه أشبه بالأساطير والأعاجيب، وكأنّه ما خُلق لنا ولا خُلقنا له، في دلالة على سقوط الهمّة وخور الإيمان..

فما معنى هذا الورَع، وما الفرق بينه وبين الزهد، وما العلاقة بينهما، وما عاقبته؟

ليس بخافٍ أنّ المرء طوال رحلته المقدَّرة في الحياة، تعرض أمامه أمور ثلاث لا رابع لها، محرَّمات ومنكَرات حذّر منها الشرع الكريم بوحييْه القرآن والسنّة كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وحلال ومباحات لا ضير منها ولا ملامة فيها كالميراث والتحلّي بالذهب للنساء وارتداء ما دون الحرير للرجال، وشبهات تقع بين هذا وذاك كمنزلة بين المنزلتين ومرتبة بين المرتبتين ممّا اختلف العلماء حوله بين محلِّل ومحرِّم ومتوقِّف.. وإزاء هذه العوارض يتمايز الموحّدون المؤمنون إلى أقسام ثلاث: مؤمن صالح، يجتنب ما حرّمه الله ونهى عنه من منكَرات. ومؤمن ورِع، يجتنب الشبهات إضافة إلى المحرّمات. ومؤمن زاهد يحمل نفسه على اجتناب جزء قلّ أو كثُر من المباحات والحلال، إضافة إلى المحرَّم والمشبوه.

وقد اختصر إمام المالكية وتلميذ سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام، وهو الإمام القَرافي، معنى الورع في اجتناب ما لا بأس به مخافة ممّا به البأس. وفرّق شيخ الإسلام الثاني، الإمام ابن القيّم، بينه وبينه الزهد بقوله: الزهد اجتناب ما لا ينفع في الآخرة والورع اجتناب ما يُخشى ضرره في الآخرة. بمعنى أنّ الورَع دون الزهد في المرتبة، وكلّ زاهد ورِع وليس كلّ ورِع زاهد، وكما قال الإمام الداراني في بيان العلاقة الوثيقة بينهما: الورع مقدّمة للزهد كما القناعة مقدّمة للرضا.

ولِتتّضح المنزلة السامقة لأهل الورع وأهل الزهد، يكفينا معرفة كونهما جلساء الله في الغد القريب، حين تقوم الساعة وتُنصب الموازين وتُوفَّى كلّ نفس بما كسبت، وذلك على حدّ قول الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.

وإذا ذُكر الورع ذُكرت طُلَعَة من الصحابة والتابعين كانت التقوى منهجهم والورع سلوكهم وصفتهم، وفي القلب منهم الفاروق عمر بن الخطاب الذي أَتعب مَن بعده بما وصل إليه من رتبة عالية في هذا السبيل؛  فقد مرض يوما، ووصفوا له العسل دواء، ومع وجود العسل في بيت المال جرّاء جلبه من بعض البلاد المفتوحة، إلّا أنه تورّع عن التداوي به، حتى جمع الناس وصعد المنبر واستأذنهم فيه، فأذنوا له وبكوا إشفاقا عليه!

ومِن جملة ما نبّه عليه العلماء لكي يبقى للورع مشروعيته وكماله؛ ضرورة اقترانه بالعلم حتى لا يفسد، وحضوره في الخلَوات كما الجلَسات، ولا تفوته جارحة إلّا وتلبّس بها؛ على اعتبار أن الإيمان وما يتشعّب عنه من مقامات لا ينفك العلم فيه عن العمل ولا الحال عن المقال ولا الظاهر عن الباطن. مع لزوم الفصل التام بين الورع وبين والواجبات والمستحَبّات التي لا تمت بصلة إلى زهد أو ورع. ويمكن التمثيل لهكذا ورع فاسد فارغ، بما حدث من أهل العراق، حين سألوا الصحابي الجليل ابن عمر عن مُحرِم قتل بعوضة، هل في حقّه فدية أم لا؟ فأجاب: يسألوني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين! وبما كان من ذاك الفاسق الذى زنى بامرأة وأَحْبَلها، فلمّا قيل له: لِمَ لَمْ تعزل حتى لا تحمل المرأة؟ فقال: بلغني أنّ العزل مكروه!

***

بقلم: د. منير لطفي

طبيب وكاتب - مصر

 

في المثقف اليوم