قضايا

ليلى الدسوقي: الوظائف القضائية فى الاسلام

ليلى الدسوقيينقسم القضاء فى الاسلام الى نوعين:

القضاء العادى ويختص بالنظر فى المنازعات العامة الا ما استثنى بنص خاص والقضاء الادارى ويختص به ناظر المظالم وله اختصاصات محددة وايضا يوجد المحتسب والذى يختص بالامر بالمعروف والنهى عن المنكر

فقد قسم الفقهاء القضاء العادى الى ثلاثة انواع قاضى ذو ولاية عامة موضوعا ومكانا وقاضى عام النظر محدد مكانا وقاضى محدد الولاية

واذا كان الاصل فى الوقت الحاضر ان مهمة القاضى تقتصر على تطبيق القانون فان حرية القاضى الاسلامى كانت اوسع من ذلك فهو ملزم بما ورد فى كتاب الله وسنة رسوله وبما اجمع عليه المسلمون

وقد تاكد ذلك فى حديث سيدنا معاذ ابن جبل حين ارسله رسول الله ﷺ قاضيا الى اليمن وقبل ان يرسله ساله بم تحكم؟ قال معاذ بكتاب الله قال فان لم تجد؟ قال بسنة رسول الله فان لم تجد؟ قال اجتهد راى ولا آلو فقال رسول الله ﷺ " الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسوله"

الوظائف المتصلة بالقضاء

اولا المحتسب:

الحسبة لغة: حسن التدبير

الحسبة اصطلاحا: امر بالمعروف اذا ظهر تركه ونهى عن المنكر اذا ظهر فعله

(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‎﴿١٠٤﴾‏ آل عمران

لقد أمر الله- تبارك وتعالى - الناس جميعاً ذكورا وإناثاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) آل عمران 110

الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‎﴿٤١﴾ الحج

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) التوبة 71

فعلى المرأة المسلمة أن تكون محتسبة في الأسواق النسائية ويكون الاحتساب على الزائرات للسوق والعاملات فيه، وكل من رأتها تخالف أمر الله -تبارك وتعالى-. والله أعلم.

يشترط فى المحتسب ان يكون حرا عدلا ذا راى وصرامة وخشونة فى الدين وعلم بالمنكرات الظاهرة، ويعتبر من أهم الأدوات التي يمتلكها المحتسب الرفق والغلظة، وهو يختار باجتهاده ما يُناسب الموقف، ولا يجب عليه أن يضع الرفق في غير محلِّه، وكذلك الغلظة، ومن ثَمَّ لما رأى الخليفة المأمون محتسبًا غليظًا، قال له: "يا هذا، إنَّ الله أرسل من هو خيرٌ منك لمن هو شرٌّ منِّي؛ فقال لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} طه: 44

واختلف الفقهاء من اصحاب الشافعية فى هل يجوز للمحتسب ان يحمل الناس فيما ينكره من الامور التى اختلف الفقهاء فيها على رايه واجتهاده ام لا؟

فذهب راى الى ان يحمل ذلك على رايه واجتهاده اى يجب ان يكون المحتسب عالما من اهل الاجتهاد فى احكام الدين ليجتهد برايه فيما اختلف فيه

وذهب راى اخر الى ان ليس له ان يحمل الناس على رايه واجتهاده ولا يقودهم الى مذهبهم لتسويغ الاجتهاد للكافة فيما اختلف فيه ومن ثم فانه يجوز ان يكون المحتسب من غير اهل الاجتهاد اذا كان عارفا بالمنكرات المتفق عليها

ومن وظائف المحتسب الاشراف على اقامة شعائر الدين - الاشراف على المرافق العامة – النظر فيما يتعلق بالغش والتدليس فى المعاملات ومراقبة المكاييل والموازين – منع المسألة فى غير حاجة – الاشراف على الاسواق – تلقى شكاوى المواطنين والنظر فيها - القضاء على الإشاعات التي قد تُسبب هرجًا بين الناس، ففي عهد السلطان برقوق، عام 781هـ، حدثت واقعة غريبة؛ فقد "شاع بين الناس أن شخصًا يتكلم من وراء حائط (من داخله) فافتتن الناس به، واعتقدوا أن المتكلم من الجن أو الملائكة، وقال قائلهم: يا رب سلم! الحيطة تتكلم.

وقال ابن العطار:

يَا نَاطِقًا مِنْ جِدَارٍ وَهْوَ لَيْسَ يُرَى *** اظْهَرْ وَإِلاَّ فَهَذَا الْفِعْـلُ فَتَّـانُ

لَمْ تَسْمَعِ النَّاسُ لِلْـحِيطَانِ أَلْسِنَةً *** وَإِنَّمَـا قِيـلَ لِلْـحِيطَانِ آذَانُ

ثم تتبع جمال الدين المحتسب القصة، وبحث عن القضية إلى أن وقف على حقيقتها، فتوجَّه أولاً إلى البيت، فسمع الكلام من الجدار، فرسم على الجندي جار المكان، وضرب غلامه، وقرَّره وأمر بتخريب الدار فخُربت، ثم عادوا بعد ذلك وسمعوا الكلام على العادة، فحضر مرَّة أخرى، فأمر من يخاطب المتكلم، فقال: هذا الذي تفعله فتنة للناس فإلى متى? قال: ما بقي بعد هذا اليوم شيء، فمضى، ثم بلغه أنه عاد وقوي الظن وأن القصة مفتعلة، فلم يزل يبحث حتى عرف باطن الأمر، وهو أنه وجد شخصًا يقال له: الشيخ ركن الدين عمر. مع آخر يقال له: أحمد الفيشي. قد تواطئَا على ذلك، وصارا يلقنان زوج (امرأته) أحمد الفيشي ما تتكلم به من وراء الحائط، من قرعة تصير الصوت مُستغربًا لا يُشْبه صوت الآدميين، فانتهى الأمر إلى برقوق، فسمَّرهم بعد ضرب الرجلين بالمقارع، والمرأة تحت رجلها، وحصل لكثير من الناس عليهم ألم عظيم، وخلع على جمال الدين خلعة بسبب ذلك"

و كان اول من باشر وظيفة الحسبة بنفسه سيدنا عمر بن الخطاب فقد كان يشرف على الرعية ليلا ونهارا ، فقد روي عنه رضي الله عنه أنه قال لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله تعالى لما لم تمهد الطريق لها .

ذات ليلة خرج عمر بن الخطاب في الليل مع أحد الخادمين لديه ويسمى أسلم ، وأثناء تجوله جلس على إحدى الجدران حتى يستريح جانب أحد الجدران ، فسمع صوت إمرأة تأمر ابنتها أن تقوم وتخلط اللبن بالماء ، فردت عليها الفتاة وقالت لها ألم تسمعي المنادي اليوم؟

وبعد ذلك ردت الأم على ابنتها وسألتها ما الذي قاله منادي عمر؟ فردت الفتاة وقالت أن عمر أمر ألا يتم خلط اللبن بالماء، فردت الأم وقالت قومي يا ابنتي اخلطي اللبن بالماء فإن عمر ومناديه لن يرانا ، فاقتربت الفتاة من والدتها وقالت لها والله يا أماه أماه ما كنت أطيعه في العلن وأعصيه في الخفاء ، وإن كان عمر لا يرانا فإن الله سبحانه وتعالى يرانا.

الا انه بعد زيادة المهام الملقاة على عاتق الدولة تميزت وظيفة المحتسب واصبحت وظيفة عامة يعين لها موظف يسمى المحتسب وكان ذلك فى عهد الخليفة العباس محمد المهدى (158-169 هــ) الا ان العصر الذهبى للحسبة والمحتسب كان فى عصر المماليك (648-933هــ) نظرا لاتساع نشاط الدولة التجارى وبالتالى زيادة المجالات التى تدخل فى نطاق سلطات واختصاصات المحتسب

والعجيب أن أوربا قد أخذت نظام الحسبة عن المسلمين في عصورهم الوسطى، خاصة في وقت الحروب الصليبية ، وقد أبقى الصليبيون وظيفة المحتسب على المدن التي استولوا عليها في المشرق، ونقلوها إلى كثير من بلدانهم في أوربا؛ إذ جاء في كتاب "النظم القضائية لبيت المقدس"، الذي وضعه الصليبيون أثناء احتلالهم بيت المقدس أنه ينبغي "أن يُقْسِم المحتسب على نفسه أنه سوف يعمل على احترام القوانين، وأنه سوف يُحافظ على حقوق الملك... ويجب على من يتولَّى منصب الحسبة أن يذهب إلى الأسواق في الإصباح؛ ليتفقَّد حوانيت الجزارين... وغيرها من حوانيت المأكول والمشروب... ويجب عليه كذلك أن يتحرَّس مما يُدخله الباعة، والدَّوَّارون في مبيعاتهم من الغشوش، وأن يُراعي وجود الخبز في الأسواق وجودًا غير مقطوع، وأن يكون وزن الخبز مطابقًا للوزن المقرر بمجلس الحكم "

ناظر المظالم

هو قود المتظالمين الى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة ولقد كان اول من نظر المظالم الرسول عليه الصلاة والسلام وقد كان يقول دائما " ابلغونى حاجة من لم يستطع ابلاغها فانه من ابلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع ابلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الاقدام "

وقد سار على نفس الدرب الخلفاء الراشدون الا ان اول من افرد للظلامات يوما يتصفح فيه احوال المتظلمين عبد الملك بن مروان فكان اذا وقف منها على مشكل او احتاج فيها الى حكم منفذ رده الى قاضيه ابى الادريس الاودى وكان اول من ندب نفسه للنظر فى المظالم عمر بن عبد العزيز ثم جلس لها خلفاء بنى العباس فكان اول من جلس لها الهادى ثم الرشيد ثم المامون واخر من جلس لها المهدى حتى عادت الاملاك الى مستحقيها

صفات ناظر المظالم ان يكون جليل القدر نافذ الامر عظيم الهيبة ظاهر العفة قليل الطمع كثير الورع

ويجب ان يشتمل مجلس ناظر المظالم على خمسة اصناف لا يستغنى عنهم

الحماة والاعوان والقضاة والحكام والفقهاء والكتاب والشهود

اختصاصات ناظر المظالم

اختصاصات يباشرها من تلقاء نفسه وهى جور العمال – تصفح كتاب الدواوين- النظر فى منازعات الاوقاف العامة

اختصاصات لا يباشرها الا بناء على مظلمة

تظلم الموظفين من نقص اجورهم – النظر فى رد الاموال المغتصبة – النظر فى منازعات الاوقاف الخاصة – مساعدة المحتسب فيما اوكل اليه من اختصاصات – مراعاة العبادات الظاهرة كالجمع والاعياد والحج والجهاد

ومن استعراضنا لاختصاصات ناظر المظالم يتبين لنا انها اختصاصات قريبة الشبه الى حد كبير الى القضاء الادارى ( مجلس الدولة ) فى عصرنا الحالى ومع ذلك فان عمل ناظر المظالم ليس قضائيا خالصا بل هو قضائى تنفيذى

مما سبق يتضح جليا ان الدول العربية الاسلامية طبقت من نظم الرقابة الدقيقة على عمال الدولة ما يكفل للمواطنين حماية حقوقهم وحرياتهم الامر الذى لم تصل اليه الدول الاوروبية الا فى وقت متاخر بكثير عن العصر الاسلامى

و الله اعلى واعلم

 

ليلى الدسوقي

 

 

 

 

في المثقف اليوم