قضايا

عبد العزيز قريش: غش أم ومضة ضوء أحمر للأخطر؟

عبد العزيز قريشفي قراءتي لورقة أستاذنا الجليل والكبير الدكتور عبد السلام بنعبد العالي الموسومة ب " غش أم أسلوب احتجاج؟ "[1] عشت الحنين إلى قيم الماضي التي افتقدناها هذه الأيام نتيجة تغيرات في اجتماعية المجتمع، الذي يعيش تحولات عميقة في مناحي الحياة المتنوعة، تتبدل في خضمها القيم وتنمحي فيها الأخلاق التي اعتدناها نحن جيل الخمسينات والستينات، وتتجدد فيها التقاليد والأعراف بتجدد معطى الحياة المادي والثقافي، الذي لم نعد فيه؛ نجد الأجوبة الشافية لما يحدث، مما تبقى معه الأسئلة الحارقة تعتلي الشفاه، منتظمة في نسق يطلب بحثا ذا أبعاد متشعبة من السياسي إلى الثقافي، إلى الاجتماعي، إلى الاقتصادي، إلى الفكري، إلى التعليمي، إلى العقائدي، إلى الإيديولوجي إلى التكنولوجي المعلوماتي ...

فمشكل الغش لم يعد مشكلا أخلاقيا أو قيميا اجتماعيا لأن المجتمع منخرط أغلبه في الغش بصور مختلفة، وتحت مسميات متعددة " الرشوة، القهوة، القرابة والإثنية، الصداقة، الحزبية، سرقة المال العام ... "، وأصبح الغش ثقافة سائدة في المجتمع لا ينكره إلا المتضرر ولماما. يتمظهر بمظاهر متنوعة، منها الصريح ومنها الرمزي. فالرشوة وعدم تكافؤ الفرص والظلم وغياب العدالة الاجتماعية والقانونية، وغياب المساءلة والمحاسبة،  وتوسع الفوارق الاجتماعيّة وغيرها، كلها وجوه صريحة للغش الذي لا يتحدد فقط بالغش في الامتحانات ومختلفها بما فيها امتحانات الأساتذة، وإنما يحمل مفهوما واسعا ليعبر عن مرض اجتماعي عضال، يطلب دراسة سيكولوجية وسوسيولوجية معمقة لاكتشاف خباياه بما فيها عائده السلبي على تماسك المجتمع ولحمته فضلا عن العلاقات البينية بين أفراده التي تشنج وتحقن بأمراض نفسية واجتماعية وفكرية وثقافية قاتلة، خاصة تحت سقف الشعبوية التي نعيشها بكثافة، وتحت سقف سيادة الغوغائية وتوحش الفوضى في عالم الأمية بألوانها المختلفة، إلى نتيجته الخطيرة على المواطنة وحب الوطن وفقدان الثقة في المؤسسات الرسمية ... وأما المحاباة في اعتلاء المناصب والتوظيفات والمسؤوليات، وفي الاستفادة من بعض الحقوق، وعدم احترام الترتيب " النوبة " في تحصيل خدمة من مؤسسة رسمية، وبعض معطيات الكتب المدرسية التي تذكي مناطق التمييز بين الرجل والمرأة أو بين الحضر والبدو أو بين الغني والفقير ... وتكرس الأمثال الشعبية العنصرية المدفونة في التراث من قبيل " أخوك في الحرفة عدوك " و " اللحية لا تحمل اللحية إلا إلى القبر " والتي تهدم في وجهها الخفي أو ماوراء دلالتها السطحية قيما جوهرية وجليلة من قبيل قيم التعاون والتشارك والحب والتكافل الاجتماعي، والصور والرسومات التي تدل على هذا التمييز في المجتمع، والوقائع المعيشة لهذه التمظهرات عند صورنتها ورفعها من الحسي إلى المجرد تشكل كلها تمظهرات رمزية للغش. لذا؛ لم يعد الغش في المجتمع قيمة سلبية! ومحاربته قانونيا تتم نتيجة لما يصحبه من العنف عند استنكاره لأنه أصبح حقا مكتسبا تخاض دونه المعارك الحامية، ما يستوجب التدخل. وأما الغش الناعم فيمر مر الكرام ومقبول اجتماعيا لأنه يفي بغرض الغاش. لذا؛ لا يمكن الحديث عن الغش إلا في ظل التغيرات التي يشهدها المجتمع في إطار العولمة بما تعني من تفاعلات بين الشعوب والأمم، والتأثيرات الناعمة القائمة في التحولات المجتمعية، خاصة تلك التأثيرات التي تفضي إلى تبني هويات مزيفة أو تفضي إلى الاستيلاب، الذي يفقد معه المجتمع حصانته ومناعته الذاتية، ويفقد هويته الحقيقية، ويصبح أمعة تتقاذفه جميع التيارات الفكرية والثقافية والإيديولوجية ... ولا محل هنا لتبرير هذا الفقدان بالتفاعل الحضاري أو الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي وغيره. لأن الهوية المائعة ليست هوية، والوجود المائع لا جود.

ضمن إباحية الغش اجتماعيا عند شرائح عريضة من المجتمع، يمكن إحالة ذلك إلى تغيرات تقع في المجتمع، التي أصبحت معها القيم الاجتماعية النبيلة، والسلوك الاجتماعي المسؤول والمنضبط، والثقافة الاجتماعية الصحيحة تنحو نحو القيمة السلبية التداولية في المجتمع نتيجة تطورات في:

ـ مفهوم القيم: في ظل الترجمة السيئة لقيم الليبرالية والحداثة عندنا، وفي ظل العولمة المتوحشة والرأسمالية الجشعة والقوى الاقتصادية الكبرى ذات النزعة الفردانية، والمصالح الخاصة، والنفع الفردي المتبلد الذي تطغى عليه جلب المنافع الفردية والشخصية دون الاكتراث للمصالح العامة التي تهم المجتمع وأفراده؛ طغت الثقافة الفردانية على أفراد المجتمع، فأصبح الفرد منعزلا في ذاته ورؤيته لعالمه ولمجتمعه، حيث طغى فيه البعد الفردي البراغماتي، ولم تعد تلك القيم الاجتماعية التي تشكل حصانة انتمائه إلى الجماعة الإنسانية قنوات لوجوديته الاجتماعية والاعتبارية داخل المجتمع، والضامنة لمكانته وموقعه الاجتماعي تبعا لمعطاه الفردي، فأضحت عنده مكبحا مانعا لتحقيق منافعه الخاصة، ما أصبح معه ينظر إليها نظرة سلبية لأنها تقف حاجزا أمام تحقيق منافعه الخاصة. وينعتها بشتى النعوت السلبية حتى تفقد قيمتها الإيجابية التداولية في سوق القيم، فيشحنها بالشحنة السالبة فتحملها وتصير متداولة في سوق القيم انطلاقا من نفعيتها له، ولفردانيته. فمثلا: الرشوة كغش لها نفعية وبراغماتية لأطرافها. فالراشي يحصل خدمة والمرتشي يحصل منفعة مادية أو مالية أو خدمة مقابل خدمة الراشي. والمتضرر فيها هو قيمة المجال التي تمت فيه؛ فإن كانت قاعدة قانونية أو نصا قانونيا أو إجراء قانونيا أو قيما أخلاقية هي التي تتكسر وتفقد قيمتها الحقيقية، ومع المدة تنمحي عن مجال الرشوة تلك القيمة فلا تعود له قيمة تذكر. فتصبح الرشوة قيمة إيجابية في مجتمع الرشوة بعيدا عن عوائدها السلبية على ذلك المجتمع، ولا أحد فيه يستنكر الرشوة، ومن يفعل ذلك يكون شاذا ونشازا!

فالقيم الاجتماعية التي تمثل المقاييس والمعايير والاحكام الناظمة للسلوك الاجتماعي في المجتمع تتغير وفق الفلسفة والتفكير الإنساني في المجتمعات، ووفق ظروف وحاجات المجتمع، ووفق عقيدته وإيديولوجيته، ووفق المقدس وغير المقدس عنده. لذا؛ فالقيم، لم تعد بذلك الثبات النسبي الذي كنا نعتقده فيها، وإنما تتبدل وتتغير تبعا لتفكير الافراد وثقافتهم ورؤيتهم للمواضيع العامة المحددة للبراديغم الاجتماعي والثقافي الذي يعين مجموع القيم الإيجابية والسلبية في المجتمع. فصارت تلك القيم في مجتمعنا ـ وفي ظل ثقافة الوصولية والانتهازية، والكسل والخمول، والربح السريع، والريع، وحرق درجات السلم الاجتماعي تسلقا، والسيطرة، والثقافة الشعبوية الأمية، والفكر الواهم والمغالط، والفردانية، والتسلط، وضعف دور المؤسسات المجتمعية الرسمية والمدنية " الأسرة، المدرسة، الإعلام، الشارع، منظومة التشريع والقانون ... "، هشاشة البناء الاجتماعي، ضعف العدالة الاجتماعية، الغبن الاجتماعي، تبلد البعد الإنساني في الأفراد ... ـ تتغير إلى قيم سلبية تحاصر الأفراد ولا تحقق حاجاتهم بسرعة وبدون جهد أو عمل. والغش في الامتحان وجه من وجوه تلك القيم السلبية التي تبدلت إلى قيمة إيجابية تحت شعار " من نقل انتقل ومن اعتمد على نفسه بقي في قسمه "، فأضحت تحقق المنافع والمصالح الفردية دون تعب أو جهد أو مذاكرة أو حفظ ... فلما لا تصبح قيمة إيجابية في ظل ثقافة خبزية مهترئة، وضعف الوازع الديني والأخلاقي، وضعف الزجر القانوني، والخوف من ردات الفعل، والضعف الإنساني الهزيل؟

ـ انحصار دور المؤسسات السياسية في تأطير المواطنين: للمؤسسات السياسية بما فيها الأحزاب دور أساسي في تربية المواطنين وتنشئتهم على القيم والأخلاق الحميدة، ونشر قيم المواطنة ودولة الحداثة، وقيم دولة الحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية، وقيم الدولة الديمقراطية ... فلم تعد تؤطر المواطنين بالقيم الإيجابية، وتخلت عن دورها الأساسي في توعية المواطنين وتربيتهم على المواطنة وقيمها، وعلى احترام القانون والحقوق والواجبات والحرية والعدالة. فصارت هي جزء من مشكلة منظومة القيم نتيجة ما تعيشه من اختلالات كبرى داخليا تشي بغياب تلك القيم عنها، وعن ممارستها الداخلية وحتى الخارجية. فالخروقات التي تتم لقوانينها التأسيسية والداخلية، والانشقاقات، والمشهد السياسي في المؤسسات المنتخبة تعبير صارخ عن مأزومية هذه الأحزاب التي تنعكس سلبا على منظومة القيم في المجتمع. فعندما نجد الأب والأم والابن وابن الابن ورثة قيادة الأحزاب، وورثة المؤسسات المنتخبة، ووجوه دائمة خالدة، وزعامة أبدية للحزب تنتهي بالموت الحتمي، وتورث سلالتها أو اثنيتها أو صحبتها أو مقربيها الزعامة. وتقصي كل مناوش أو معارض من الزعامة وربما يطرد شر طرد أو حين نجد المؤتمرات الحزبية في خفائها الهراوات، وفي واجهاتها التشنجات والصدامات والحرب الباردة على الزعامة، والحشد بناء على معطيات لا تصل للفكر ولا للثقافة ولا للكفاءة ولا للموضوعية ولا للإيديولوجية ولا للحوار بصلة، وإنما الزعامة على طريقة العصبية القبلية والعصبية الاقتصادية، وعلى ناتج الفقر والجهل واستغلال النفوذ، وما جاور هذه الموبقات من غياب البرامج والإيديولوجيات والثقافة الحزبية وقيم الحزب وتطلعاته ومنجزاته وتاريخه، التي كانت مصدر الانتماء للأحزاب، فأصبحت هذه الأحزاب تستقطب كل من يطمح إلى اتخاذها وسيلة وواسطة لتحقيق مآربه وأغراضه بالدرجة الأولى. ولعل المشهد السياسي كل يوم يعتريه حدث يعرب عن أزمة الصالح العام في المؤسسة السياسية.

فقد انحصر دور الأحزاب السياسية في التربية والتأطير في منظومة القيم نتيجة انشغالها بمصالحها الخاصة، وتطاحن وتشاحن أعضائها، وتنابزهم بالألقاب، بل؛ ورفع قضايا طعن في شرعيتهم أمام المحاكم، وبعد أغلبهم عن المواطنين وعن خدمتهم، وغير ذلك من صور المشاهد في الحقل السياسي التي تضعف قيمة ودور الأحزاب السياسية في مجاله. وتكون صورة سلبية عنها؛ فعندما ينبز قائد حزبي قائدا آخر بأشنع الألفاظ التي لا تحتوي على البعد القيمي، وتشهر به في العلن بألفاظ لا تعبر عن القيم السياسية الحقيقية التي يجب أن تسود المجتمع السياسي؛ فإن المواطن لا يجد حافزا للانتماء لهذا المجتمع السياسي، ويجد المبرر لسلوك نفس النهج والطريق في حياته الخاصة والعامة. فلا يعود للحوار من قيمة ولا من تداول حقيقي في السوق السياسي. فعهدنا بالسياسيين الصدق وخدمة المواطن وتحصيل المنفعة العامة للمواطنين لا الكذب والتسويف وتضييع المنافع كما هو حاصل في الواقع المعيش عند أغلبهم. فهم؛ في أعين أغلبية المجتمع مصدر انهيار منظومة القيم في المجتمع للممارسات التي يأتيها أغلبهم في التعاطي مع الشأن العام، حين الاستغناء بالمال العام، وحصر المنافع على طبقة اجتماعية معينة دون باقي الطبقات الأخرى، ومناهضة الثقافة التحررية بدعاو شتى، بما فيها وصفها بالانحلال والفوضى والتبعية والخيانة، وتبرير الإجراءات السالبة للمكتسبات ... وعليه، فدور الأحزاب السياسية في منظومة القيم لم يعد كما كان في السابق؛ حين كانت هذه الأحزاب مدارس في الوطنية والمواطنة، وفي الفكر، وفي التضامن، وفي القيم ... حين كانت أطرها أول من يقدم القدوة في التضحية والدفاع عن القيم النبيلة، ومحاربة القيم السلبية. والتاريخ يشهد لبعضها بعظم العطاء الوطني الذي منحته للمجتمع. ويحفظ لها القيام بواجبها، ويعتبره جميلا لا يمكن نكرانه أو نكر شكره والإشادة به في كل محفل.

ـ مأزومية منظومة التربية والتكوين في مجال القيم: تشكل منظومة التربية والتكوين الحاضن الرئيس لمنظومة القيم تنظيرا وتعليما وممارسة بعد الأسرة والإعلام، فهي مؤسسة رسمية منوط بها تربية النشء على القيم والأخلاق الحميدة، ونشر ثقافة المواطنة وقيم الدولة الحداثية فضلا عن تدريس الدين ببعده القيمي. لكن هذه المنظومة مأزومة، تعاني جملة من المشاكل، الأمر الذي ما عادت معه تؤدي وظيفتها التعليمية والتربوية في مجال القيم. حيث سجل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي مأزومية منظومة القيم في التربية والتكوين بقوله: ( مع أهمية المكتسبات التي حققتها المدرسة المغربية في مجال التربية على القيم، فإن الواقع يكشف جملة من الصعوبات والاختلالات، أهمها: العمل ببرامج متعددة ومختلفة تفتقر إلى التنسيق وإلى اعتماد مقاربات إدماجية قائمة على ترصيد المكتسبات؛ محدودية الملاءمة المنتظمة لأغلب المضامين والوثائق المرجعية المقدمة للمتعلمين/ات، مع المستجدات التشريعية والمؤسساتية والمعرفية الحاصلة في البلاد وفي الصعيد العالمي؛ إذ غالبا ما تتأخر المراجعات الضرورية للمقررات والمضامين الدراسية، التي تتم بشكل موسمي؛ التفاوت بين أهداف البرنامج الدراسي وواقع الممارسة التربوية في المدرسة، حيث يتم اختزالها في مجرد مادة دراسية، ونادرا ما يتم توظيفها في العلاقات الصفية والحياة المدرسية وسلوكات المتعلمين/ات عموما؛ التعارض وضعف الانسجام بين القيم والمبادئ التي تتمحور حولها المواد الدراسية ذات الصلة المباشرة بالقيم، وبين المضامين الصريحة والمضمرة في مواد أخرى؛ مما يودي إلى تضارب في التمثلات واتجاهات السلوك لدى المتعلم/ة؛ محدودية نجاعة الطرق التربوية المعتمدة، بسبب هيمنة ممارسات تعليمية غير ملائمة لأهداف التربية على القيم ولتنمية القدرات العملية وأهداف بناء الذات، ولا سيما التركيز على شحن المتعلمين/ات بالمعلومات، واتسام العلاقة البيداغوجية أحيانا بالسلطوية والعنف؛ عدم انتظام تكوين الفاعلين/ات التربويين/ات في التربية على القيم، إذ غالبا ما يتسم بالطابع الظرفي والموسمي؛ ندرة الشراكات بين المدرسة وبين المحيط فيما يتعلق ببرامج وأنشطة التربية على القيم. إلى جانب ذلك، سجلت تقارير مؤسساتية وطنية نتائج بعض مظاهر التعثر داخل المدرسة على مستوى تمثل القيم المدرسية واكتسابها لدى المتعلمين/ات، وكذا على مستوى التقييمات الاجتماعية لوظيفة المدرسة في التكوين والتأهيل والتربية القيمية. وعلى سبيل المثال، أكد التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن عدم تمكن المدرسة المغربية من التغلب على الهدر المدرسي له تداعيات سلبية، من أهمها: تنامي معدلات الإقصاء في أوساط اليافعين والشباب مقابل ضعف الاندماج المدرسي والاجتماعي؛ ارتفاع الأمية بأشكالها المختلفة، وتوسع دائرة الانغلاق الثقافي. وهي ظواهر تتعارض موضوعيا مع المجهودات المبذولة لتحديث البلاد؛ تزايد مظاهر الانحراف الاجتماعي والسلوكات اللامدنية، والتطرف...؛ ازدياد صعوبات الاندماج المهني وفي الحياة العامة. ومن المؤكد، أن هذه المعطيات والمؤشرات السلبية حول الهدر المدرسي لا تساعد المغرب على كسب الرهانات الكبرى التي انخرط فيها، بحكم أن المنظومة التعليمية، على اختلاف مستوياتها، تواجه صعوبات كبرى في تمكين كل الأطفال واليافعين من اكتساب تعليم أساسي نوعي، وفي تربيتهم على القيم المجتمعية المشتركة )[2].

وأخطر هذه الصعوبات والاختلالات على مصداقية منظومة القيم هي مفارقة السلوك للقيم التي تدعو إليها المنظومة التربوية والتكوينيةـ حيث يعيش المتعلم مفارقة ما بين ما تعلمه وما يمارسه في واقعه المدرسي انطلاقا من كون المدرسة مؤسسة اجتماعية ومجتمع صغير يتأثر بما هو قائم في المجتمع الكبير، الذي يحيى التناقض الصارخ بين ما يدعيه من قيم، وما يأتيه من سلوك مناف لدعواه.  فالغش يمارس في المجتمع من قبل أغلب أفراده. فلا غرو أن يمارسه التلميذ وبعض الأساتذة والأستاذات في امتحان الترقية، وفي التوظيف، وفي المباريات ... فالمؤسسة التعليمية وكيل منظومة التربية والتكوين تدعي في تنظيرها القيمي والأخلاقي أن الغش قيمة سلبية ومحرم قانونا وشرعا واجتماعيا بينما نجده يسود بين بعض مكوناتها في تنقيط المتعلمين، وفي أداء الواجب من حيث عدم احترام الزمن المدرسي، ومتابعة الدراسة الجامعية على حساب الزمن المدرسي، وعدم الاهتمام بالتدريس، وفي تقويم هيئة التدريس، وفي تحمل مناصب المسؤولية .... وعليه نجد لا قيمة تداولية ولا اعتبارية للقيم التي تدرسها المدرسة. وبالتالي تفقد القيم سلطتها العملية والمعنوية والأخلاقية على المتعلمين، وتصبح ألفاظا لا دلالة لها اجتماعيا، ما يبرر وجود قيم مخالفة لقيمها. فمثلا: قيمة الصدق الذي تدعو إليه المدرسة يفقد مضمونه الأخلاقي والاجتماعي والتشريعي، ونفعيته عندما لا يحصل به الفرد/ المتعلم مصالحه، ويحقق به حاجاته، بينما يحقق بالكذب ما لا يحققه بالصدق. فيصير الكذب قيمة إيجابية لها تداولية في المجتمع بينما يصير في مقابله الصدق قيمة سلبية وينحصر تداوله في المجتمع.

وأما بخصوص الغش في الامتحانات بما يشير إلى أن المتعلمين لم ( يعودوا يرون في العملية التعليمية ذاتها قيمة ينبغي احترامها. على هذا النحو يبدو استسهال اللجوء إلى أساليب الغش نوعا من الاحتجاج يوجهه المتعلم إلى أساليب التدريس التي تنقل بها المعارف وربما إلى مضامين الثقافة المتناقلة ذاتها. فربما لم يعد متعلمونا يجدون أنفسهم في هذه الثقافة، ولعلهم لا يتعرفون فيها إلى ذواتهم، ولا يجدون فيها أجوبة عن الأسئلة الحقيقية التي تعينهم، والتي ما يفتأ واقعهم اليومي يطرحها )[3]. حقيقة تنبع من واقع المنظومة التربوية والتكوينية، التي تجد جذورها في التنظير والتطبيق لهذه المنظومة. فانطلاقا من الممارسة الميدانية والبحث التربوي، ألفيت صدقية ومصداقية هذه الرؤية تتجلى في النظرية الموسوعية التي تؤطر الفعل التعليمي التعلمي، المبأرة على مركزية تلقين المعارف والمعلومات والأنشطة التعليمية التعلمية لا على المتعلم، والتي تستهدف تمكين المتعلم من أكبر قدر ممكن من المعلومات، بمعنى تعتمد على شحن عقل المتعلم بالمعلومات، وتعتمد في التقويم على مركزية المعلومة من حيث لا تهتم بالمتعلم بقدر ما تهتم بالكم المعلوماتي والمعرفي الذي يحتويه رأسه ويمتلئ به دماغه، ومدى استظهاره وإعادته من جديد إلى مصدره. فهي لا تهتم بالكفايات ولا بالمهارات ولا بالقدرات ولا بأنواع التفكير ومهاراته، وإنما تهتم بالمعلومة. وبطبيعتها هذه يأتي التقويم في المعلومة لا في المسلكيات والمنهجيات والكفايات والمهارات والقدرات. ومن طبيعة أجيال اليوم؛ الطريق الأسهل لتعبئة المعلومات والمعارف والحقائق العلمية هو الغش، فهو أقل تكلفة طاقة، وأقل جهد عقليا، وأقرب وسيلة لتحصيل النتيجة. فطبيعة التقويم " الامتحان " تتبع لطبيعة النظرية المؤطرة للفعل التعليمي التعلمي، ولطبيعة فلسفته. وبالتالي طبيعة التقويم تستجلب طبيعة الوسيلة وطريقة الإجابة. فلا أستغرب في ظل هذا المعطى من الغش، لأن الفعل التعليمي التعلمي يستجلبه. وأما إذا كانت النظرية المؤطرة تركز على المهارات والقدرات والكفايات، وعلى كفيات الاشتغال على مجال الاختبار بمعنى التركيز على المنهجيات، فتكون طبيعة التقويم من طينة أخرى، تصبح فيها وثائق الغش مراجع في الإجابة، يمتحن المتعلم في كيفية استثمارها والاستفادة منها والتعامل معها في مقاربة موضوع الامتحان مع تقويم منهجية اشتغاله عليه، بما يكشف عن كفاياته ومهاراته وقدراته التعلمية، وتكون المعلومة وسيط ووسيلة وحامل لا غاية في حد ذاتها. لذا نجد طبيعة الامتحانات تقليدية ومتوارثة، العنصر التمييزي بينها هو المعلومات المتضمنة فيها. أما الجوهر فهو هو منذ الاستقلال، ولعل دراسة مقارنة تصادق على ذلك. فعندما تتحول طبيعة المنظومة التربوية والتكوينية تتحول طبيعة الامتحانات. وعليه؛ يجب مراجعة الأطر النظرية والنماذج المؤطرة للفعل التعليمي التعلمي إذا أردنا الحد من الغش في الحقل التعليمي.

ـ مأزومية الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في مجال القيم: لم يعد الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مهتما بمنظومة القيم التي يمررها إلى المجتمع بين ثنايا الأخبار، ويستهدفها في بعض الأحيان بالتحليل والمقاربة لأجل التوعية وتكوين الرأي العام على القيم الإيجابية؛ بقدر ما يهتم بالخبر نفسه. ولم يعد يغربل الأخبار الحاملة للقيم السلبية التي تشكل محاضن ناعمة لهذه القيم؛ وإنما تمر معه القيم مر الكرام. وفي بعض الأحيان تنشر المادة الإعلامية دون التعليق عليها أو تحليلها، وتتعامل معها كخبر وجب الإعلام به ونشره. وفي كثير من الأوقات تصبح هي مورد للقيم السلبية حين تصبح أدوات في حرب إعلامية أو فكرية أو إيديولوجية أو أخلاقية ... وما التطرف ببعيد عنا مثالا على الدور السلبي لهذه الوسائل في نشره بكل صيغه، وإذكاء الشحناء بين المذهبيات والطوائف والإثنيات والشعوب والدول. فما هي القيم الإيجابية التي تنشر في هذه الحالة؟ إنها قيم هدامة لصرح الإنسانية والتعايش السلمي الإنساني! فالمتعلم الذي يشاهد مشاهد العنف أو يقرأ نصوص العنف في غياب وجود تعليقات عليها أو تحليلها أو الحكم عليها يعتقد أنها الصواب في ظل معطاه السيكولوجي والاجتماعي والتربوي والعقلي غير الناضج، غير المتحكم بآليات إصدار الأحكام على المواضيع والأشياء والأفعال والنظريات والنماذج، واعتقاده أن ذلك هو السلوك الذي يجب الاقتداء به؛ ما ينشر العنف في المجتمع والمجتمع المدرسي ويزكي ثقافته. فيصبح العنف ممارسة وسلوكا وقيمة إيجابية لديه ولدى المجتمع. ونحن نشهد أحداث العنف في الشارع العام، وقليلا ما نتدخل أو نستنكر ذلك خوفا من رد فعل الفاعل، وأصبح مع ذلك الاحجام عن التدخل ثقافة وسلوكا عاديا في المجتمع تمارسه أغلبية أفراده!. وهكذا؛ يلعب الإعلام وأدواته ومرادفاته التواصلية دورا سلبيا في منظومة القيم، إما بنشر المشاهد والمواضيع العنيفة والقاسية، وإما بنشر مشاهد ومواضيع الانحلال الخلقي بدعاوي شتى؛ منها حرية التعبير، والشؤون الشخصية، والسبق الإعلامي ... في غياب تحديد المسؤولية والضوابط الأخلاقية للمهنة. كما أن تعاطيه مع تحليل الظواهر الاجتماعية يكون سطحيا وضمن الكلام العام لا ضمن دراسات علمية يستفيد منها المجتمع ... وهكذا تبقى الظواهر الاجتماعية والأحداث اليومية والمادة الإعلامية مصدرا لبعض القيم السلبية في المجتمع، ترسخها دون دراية منها. والدراسات التي همت أثر مشاهد العنف في التلفاز على الأطفال دليل على سلبية دور الإعلام في محاربة العنف.

والإعلام ومرادفاته التواصلية تنشر الثقافة الشعبوية المليئة بالمغالطات المنطقية وغير المنطقية، وبالكلام العام، وتثري الحماس الشعبوي في المجتمع دون أن تساهم بفعالية في نشر الثقافة الرصينة كما كانت. فنظرة خاطفة إلى ملحقاتها التربوية والثقافية والسياسية قليلا ما تقوم على دراسات علمية وتحليلات صارمة ورزان ورصان، ومقولات مستنيرة، حتى النقد يكون محتشما، وفيه من المجاملات ما لا يدخل إلى العمق بالتحليل والتشريح وقول الحقيقة. فتجد فيها أخبارا أكثر من المادة التربوية أو الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية ... والحالة هذه؛ من أين سيتشرب القارئ الفكر المستنير والقيم الإيجابية، ويمتلك أدوات التفكير العلمي والمنطقي والنقدي والإبداعي، ما يسمح له بالدخول في التحليل والنقد والحكم على المواضيع العامة الرائجة في المجتمع، والمتحكمة فيه وفي رأيه العام، وتشكيل ثقافة مجتمعية هوية للمجتمع؟ فأنا له ذلك؟ فالثقافة الشعبوية ستغطي مساحة كبيرة من تفكيره مع تشكيل معجمه الثقافي ورصيده اللغوي المتحكم في نقاشاته وتداولاته ومرافعاته في تلك المواضيع. وغالبا ما يركب الإعلام على الأحداث المثيرة قصد الربح من خلال زيادة المبيعات دون الاهتمام بآثار تلك الأحداث على أفراد المجتمع!

ويصير القول في الأخير إلى أن القيم السلبية بما فيها الغش تعمل على ضياع الحقوق ونشر الفساد في المجتمع ومن تمة انحلال الروابط الاجتماعية بين أفراده، مما يؤدي بالضرورة إلى هشاشة تماسكه، ويقع انهياره بأبسط فتيل اشتعال. وما الفتن والحروب الواقعة في المجتمعات إلا دليل على انهيار منظومة القيم، وضعف الانتماء إلى الأوطان، وتغول الثقافة الفردانية التي تضخم الفرد على حساب الجماعة، وتبخس القيم الجماعية المشتركة والمصالح العامة مقابل تحقيق مآرب ومصالح الأفراد ولو على حساب حقوق الآخرين. لذا؛ يجب مراجعة منظومة القيم ومداخلها التعليمية والتربوية والفكرية والثقافية والدينية والإيديولوجية لتحرير الإنسان من عبودية الذات وشرنقة الأنا ومن بعدي الطوفان.

 

عبد العزيز قريش

.......................

المراجع:

ـ د. عبد السلام بنعبد العالي، غش أم أسلوب احتجاج؟، الدوحة، شتنبر 2017، عدد 119.

ـ المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، التربية على القيم بالمنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي، الرباط، المغرب، تقرير رقم1/17، يناير 2017.

[1]  الدوحة، شتنبر 2017، عدد 119، صص.: 66 ـ 67.

[2]  المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، التربية على القيم بالمنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي، الرباط، المغرب، تقرير رقم1/17، يناير 2017، صص.:9 ـ 10.

[3]  د. عبد السلام بنعبد العالي، غش أم أسلوب احتجاج؟، الدوحة، مرجع سابق، صص.: 66 ـ 67.

 

 

في المثقف اليوم