قضايا

حسين علاوي: تأويل فلسفة المقدس

حسين علاوييعتقد الكثير من فلاسفة علم الأديان أن المقدس رفع عنه الحجب، وعن كل ما هو عقلاني بعد عصر الأنوار.. بعد أن كانت النظرة إلى المقدس محكومة بنزعتين: الأولى نزعة استهجان باعتبار أن المقدس يرتبط بوعي بدائي سابق للمرحلة الوضعية.. وقد اعتبر كانْت أنَّ الإنسان في نشأته كان يدور في دائرة مغلقة.. تنتابه الرهبة والخوف في علاقته بالمقدس، وإنَ تجلياته لم تكتف بما ظهر في الأديان القديمة والعقائد الطوطمية، وإنما ما بطن منه في الكثير من الميادين الفكرية والممارسات البشرية.

وقد استطاع دوركهايم إنزال المقدس من عرشه المتعالي وتحويله إلى ما دون علم الاجتماع قابل للدرس.. بعد أن ارتبط مفهوم المقدس بالمحرم، وصار يعبر عن قوة الجماعة.. أو عن السلطة المتعالية التي تمارسها الجماعة على الأفراد.. والإله ليس في النهاية سوى صورة المجتمع الآمر الناهي.. (أنظر: الموروث الديني، قراءة سوسيولوجية  تاريخية، عبد اللطيف الهرماسي، 40).

ويَعتبر ميرسيا الياد أنّ فهم المقدس لا يتحقق إلّا بالإقامة فيه، وإن الكون بالنسبة إلى الإنسان المتدين يحيا وينطق.. وحياة الكون نفسها دليل القداسة لأنها خلقت من قبل الآلهة، وإنَّ الآلهة تظهر نفسها للبشر عبر الحياة الكونية.. وإن حياة الإنسان القديم أو الديني قد مكنته من قوة خارقة استطاع توظيفها في حياته من أجل تحقيق رغباته وبلوغ مقاصده.. والدين هو إدارة المقدس، والإنسان هو من يديره وفق قوانين يعتقد في كونها أنها من عالم السماء.. (أنظر: مرسيا الباد، المقدس والمدنس، 122-123)

والمقدس من أكثر المصطلحات التباساً في مستوى الدلالة وفي مستوى الاستعمال.. ولعل المفارقة تكمن في أنَّ كل محاولة لتعريف المقدس وتحديده تتطلب التعامل معه باعتباره موضوعاً بلا قداسة، أي تعليق قداسته.. يُعرف روجيه كابوا المقدس بقوله: المقدس في صورته الأولية البسيطة يشكل طاقة خطرة، عصية على الفهم، عصية على الترويض، شديدة الفعالية.. والمقدس لا يدل على شيء محدد في ذاته، بل إنه يشكل خاصية ثابتة أو عابرة لبعض الأشياء (أدوات العبادة)، أو الكائنات (الملك أو الكاهن)، أو الأمكنة (المعبد والكنيسة والمزار)، أو الأزمنة (يوم الأحد والسبت والجمعة وعيد الفصح وعيد الميلاد).. ليس هناك ما لا يصلح لأن يكون مقراً للمقدس الذي يخلع عليه سحراً لا يُضاهى في نظر الفرد والجماعة، وليس هناك ما يتحذر منه.. وغالباً ما يكون المقدس مصدراً لتصوّريْن مختلفين: الرجاء: ومنه يرجو المؤمن الخير والصلاح.. والخشية: إذ يرى فيه مصدراً للعقاب الشديد.. (أنظر: روجيه كابوا، الإنسان المقدس، ترجمة: سميرة ريشا، 37-40)

أمّا المقدس في اللغة فيعني الطُهر، والأرض المقدسة: أي المطهرة.. والتقديس هو التنزيه والتطهير، وبذلك يكون النص المقدس هو النص الخالي من كل مدنس، بل مطلق في كمال محتواه.. إلّا أنَّ البعض من المفكرين اعتبر العقل الذي ركز عليه فلاسفة علم الأديان والتأويل في فهم النص، هو عقل محدود كونه في عالم الإمكان، وفي الحقل اللاهوتي لا يمكن تفسير محتوى النصوص ذات القدسية المطلقة وإخراجها عن المسار الذي أسّسه الله تعالى لها، فلا يجب إخضاع النص للذات، وإنما يجب على الذات أن تكون خاضعة لسلطة النص.. (الهرمونطيقيا والنص المقدس، أكرم جلال، بحث منشور على شبكة الإنترنت)

إلّا أن هناك من يغاير هذا الرأي.. بعد أن أضحى كل مقدس يحتكر الحقيقة، ويعمل على نشرها والدفاع عنها، وخاصة في سياق الموضوع الديني.. ويعمل في المقابل على نفي القداسة عن غير أشيائه، وتسفيه حقائق الآخَر، ومن ثم ينشأ الكره، وتنتشر البغضاء.. وما يشهده العالم اليوم من تفشي الإرهاب ما هو إلّا علامة على ضياع الحس النقدي والتساؤل الفلسفي، وغياب المبادئ الإنسانية السامية، بدءاً بأخلاق الرحمة، ووصولاً إلى قيم التسامح..

فالدفاع عن العقيدة بشكل أعمى لا يدل على الجهل بتاريخية الحقيقة فحسب، إنه إلى ذلك استنبات للحقد المتبادل، وتمزيق لعُرى المجتمعات التي تقضي عهوداً طويلة في حياكة نسيجها الثقافي ونموذجها المجتمعي.. يقول جوسدورف: يجب أن نتخلى عن الفكرة الخاطئة والمبسطة المبنية على معنى أن الدين يخلو تماماً من الحقيقة، ويجب أن نتخلى كذلك عن الفكرة الخاطئة الأخرى التي ترى أن الدين يملك الحقيقة المطلقة.. فليس ثمة دين يغير حقيقياً تماماً، وليس ثمة دين يغير خاطئاً تماماً كذلك.. إن الموقف الديني وظيفة كونية من وظائف الوعي الإنساني.. (أمارتيا صن، الهوية والعنف، ترجمة: سحر توفيق، 9)

وتعريف المقدس فيه الكثير من الغموض.. فهو مقولة متصلة بالتأويل والتقييم ميدانها المقدس حسب.. وهذه المقولة معقدة وترتكز على مفهوم شديد الخصوصية يتجاوز ما هو عقلاني، ويستعصي على الحصر المفهومي.. والمقدس تسكنه قدرة مجهولة، وتنتابهُ مشاعر فريدة.. إنَّ هذا الغموض الرحب الذي يكتنف المقدس في الدين يجعل الإحساس به خارجاً عن المألوف وعصياً على الإدراك، ولكنه في الحين ذاته قريب منا، يملأ وجداننا بمعاني التعالي والأخلاق والخلود.. (المقدس ورهانات الغلبة، محمد الخراط، 34)

والمقدس ليس مجاله الدين فحسب، فهو قد يكون في العقائد الوطنية والأيديولوجية القومية واليسارية والسياسية أو غيرها من الأنساق.. وإن المقدس الذي يتخذ شكل الموضوع الديني أو السياسي أو غيره من المجالات، يتلبس على قدر من الخطر عظيم، هو معنى الدفاع عن الحقيقة والتعصب لها، ومن ثم ينحدر إلى العنف.. ذلك أنّ المقدس كلما اقترن بمشروع يتجاوز صاحبه الفرد أو جماعته المغلقة، ونزَغَ نحو فرض صيغته الفريدة اصطدم بضرورة استعمال القوة، بصورة يصبح فيها كل شيء فكري أو ثقافي يروم الانتشار مقترناً بداهةً بشكل سياسي وعسكري يفرض النموذج.. (المصدر نفسه، 35)

والمقدس مفهوم يستعصي على الضبط العقلي، فهو مفهوم زئبقي مراوغ يوهمنا بإمساك زمامه، ولكنه سرعان ما ينفلت وتضيع علاماته التي نهتدي بها إلى الوجود؛ ذلك أنّ الوعي القديم بالمقدس لم يكن قادراً على الانعتاق من أثر سحره والفتنة بقدراته الخارقة، ولذلك فقد كان التورط فيه عائقاً يحول دون البحث فيه.. وأما المقاربات الحديثة فكانت  محكومة بمركزيتها العلمية ويقينها الوضعي بأنها تجاوزت حقب الطفولة البشرية ولعاً بالسماء وافتتاناً بالإله لنبلغ وعياً محوره العقل، ومادته العلم، ومركزه الإنسان.. ورغم ما سعت إليه بعض الدراسات من إظهار الوجه اللاعقلاني للمقدس، إلّا أنها ظلت دوماً على يقين من وجود سر خفي يؤكد حقيقة أنه مفهوم عصي على العقل.. (أوتو، فكرة المقدس، 191)

إلّا أنّ هناك من اعتبر الركود الفكري الذي شهده العقل الإنساني عامة، والإسلامي خاصة، بداية القرن التاسع عشر، دافعاً قوياً لطرح أسئلة ترتبط بفهم النص المقدس، بعد أن عجزت المناهج التفسيرية القديمة والحديثة عن إنتاج إجابات منطقية عن القلق المتجدد الذي يعيشه المؤمن مع قصة المقدس لإشباع تطلعاته المعرفية والدينية الدؤوبة، ولئن كان المتأمل أو الناظر في تاريخ الفكر البشري يثبت أن ولادة النصوص الدينية قد رافقها على امتداد قرون عديدة من الزمن، احتكار تفسيرها من قبل تيارات وفرق أيديولوجية كانت تؤمن بأنَّ هذه النصوص إنما هي وسيلة من وسائل الهيمنة على الأفراد والشعوب، وهو ما جعل هذه التفاسير موجهة لخدمة مصالح سلطة سياسية تسعى إلى فرض سلطانها على الكل الاجتماعي المطالَب بالرضوخ، لا إلى سلطة النص، وإنما إلى سلطة تفسير النص.. ونتيجة الفهم الذي انبنى على تفسير مخصوص للكتاب المقدس والقرآن، ظهرت الحاجة الملحة إلى التصدي لهذه التفسيرات الدينية.. وبرزت العلوم الإنسانية كنسق فكري يقدر على خلق قراءات بديلة للنص المقدس، تتواشج مع خصوصية الواقع، وتتماهى مع أسئلة العصر، فكان التأويل ركناً من أركان تحديث الفهم الجديد لهذه النصوص وتجديد الخطاب الديني بأسئلة الحداثة.. بعد أن أتفقت الكثير من مشاغل التفكير الفلسفي على الاعتقاد بأن النص المقدس (التوراة والإنجيل والقرآن) هو نص تاريخي تنكشف فيه شواهد تاريخية عديدة تدل على أنه كلام نطق به أنبياء تكلموا بالنيابة عن الله.. أو هُمْ المتكلمون مع الله.. وإنَّ كل كتاب سماوي مقدس لا يعبر عن حقيقة العالم، ولا يخبر عن تاريخ الكون وأحداثه وإنما هو يتحدث عن رؤية كل نبي صاحب كتاب سماوي للعالم ويبين قراءته للأحداث وللتاريخ..

وبالتالي فإنَّ التأمل الفلسفي التأويلي للأديان، يدعونا إلى إعادة النظر جذرياً في مفاهيم دينية مثل الوحي والإلهام والنبوة.. وذات الله وصفاته.. وعاقبة الإنسان ومصيره.. فلا بد من إعادة النصوص المقدسة بأدوات تفكير جديدة ترصد التجربة الدينية، وتقوّم نتائجها، وهو ما سمح لنظريات التأويل أن تتأسس على ثنائية الشك والإيمان في تعاملها مع النص الديني.

 

حسين علاوي

 

 

في المثقف اليوم