قضايا

عبد القهار الحجاري: غياب المعنى

إحساس بارد بلا جدوى ما نفعل أو ما اعتدنا أن نقبل عليه، خُفوت جذوة الرغبة في القيام بما نحب، وضمور الحماس نحو كل شيء جميل كان في السابق مطلبنا بشغف، ممارستنا للحياة من دون إقبال، إنما نأتي إليها فقط بحكم الحاجة والعادة، باعتبارها احتياجات بيولوجية أو مسلكيات وطقوسا لا معنى لها؛ الأكل بلا شهية، النوم في أي وقت، ضعف الرغبة في السفر، شُحوب الطقوس والعادات الجميلة، الميل إلى العزلة، والعدول عن الرفقة في العلاقات الإنسانية، إنه طريق الجنون يتهدد الفرد والمجتمع اليوم، ويجعل الحياة بلا معنى.

العمل الذي كنا شغوفين به كل يوم، قد يصير مجرد أداء آلي لا روح فيه، مجرد واجب ثقيل نؤديه ونحن متذمرون مرغمون بحكم الحاجة، ننتظر ونحسب السنوات المتبقية لمعاشنا المبكر، كي نهرب من الشغل الذي فقد معناه ولم تعد فيه أية متعة، وقد يصير أقرب إلى الجحيم، والعمل يفقد معناه، إذا كانت وراءه طُغَم تحوله إلى صالحها، بما يخدمها وانتفاعَها، ويصبح بلا معنى بمجرد ما يدب إليه الفساد، هذه السوسة التي ما إن تتسلل إلى شيء حتى تأخذ في نخره من أعماقه.

تكريم المبدع أو العامل لا معنى له في نسق ثقافي فاسد أو في منظومة عمل فاقدة للمصداقية، يتعرض فيها الإنسان طوال مسيره الإبداعي والمهني لشتى صنوف الجحود والتنكر والتهميش والإقصاء والحصار... فالتكريم الحقيقي اعتراف صادق، يكون في سيرورة الحياة العملية، وليس لحظة نفاق عند الخروج إلى التقاعد، أو عند الرحيل من الحياة، فهذا رياء ونفاق تتسابق نحوه لمآرب ضيقة أزلام دواليب المجال الذي يعج بالمقت والكراهية والتناحر.

الصداقة تفقد معناها بفقدانها قيمَها، فتغدو علاقة شكلية لا روح فيها، يحل فيها الكذب محل الصدق، والخيانة محل الأمانة، والغدر محل الوفاء، والمجاملة محل الوضوح والصراحة، وتحل المنفعة الذاتية محل التضحية في سبيل الاستمرارية ونبل الصداقة.   

لقد قُلبت القيم رأسا على عقب، فأصبح الصادق الصدوق مغفلا، والصريح صاحب هبل، والمخادع الوصولي صاحب ذكاء اجتماعي ومهني عال...

العلاقات الأسرية والعائلية قد تفقد معناها إذا طغت عليها المصلحة والأنانية، فتصبح أركان البيت باردة فاقدة للدفء والحب، فتُبنى جدرانٌ فولاذية بين أفرادها، بين الزوج وزوجته، وبينهما والبنات والأبناء، وبين الأخوات والإخوة، فتبدأ في التلاشي تلك العادات الجميلة التي تجمع الأهل وتخلق بينهم أُلفةً منقطعة النظير، ليبحر كل واحد في الهروب نحو عالم وهمي خلف الشاشات الرقمية.

عندما يعجز الإنسان وهو يتقدم في العمر عن تطوير ذاته وتجديد منظوراته وشحذ طاقاته، يقع في مطب فقدان المعنى، خاصة إذا كان وعيه الحاد بالعالم قد زج به في شعور عميق بالاغتراب والشقاء، فالوعي الشقي قد يكون دعامة خطيرة لرسوخ الشعور باللاجدوى، وفقدان حاسة التذوق وتلاشي القدرة على الاستمتاع بالحياة، بسبب سيطرة رؤية سوداوية ناتجة عن  إدراك عميق لتفاهات العالم، ووعي ثاقب بمدى فداحة التدني والقبح.

ولئن كان فقدان المعنى مفهوما في بعض حالات شيخوخة الفكر وتكلس العقل وانكسار النفس بسبب تراكمات الإحباط والقهر والصدمات... فإن الحديث عن غياب المعنى لدى الشباب، مهما كانت مبرراته، يعد مؤشرا خطيرا على مستقبل منذور بعواقب وخيمة.

***

في المثقف اليوم