قضايا

محمود محمد علي: لماذا تُقمع حرية الرأي بتهمة ازدراء الأديان؟!

محمود محمد عليلقد ظن قاطنو كوكب الأرض أنهم قد بلغوا سن الرشد الحضاري، حين أسسوا منظمة تجمع بين الأمم المختلفة، والحضارات، والثقافات المتمايزة، وتوحد بينها، كما اعتقدوا أن هذا الجهد قد كلل بالنجاح الساحق، حين أدت هذه المنظمة، بروعة فائقة، دور الأم التي تحملت مخاض ولادة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أي إنسان، بغض النظر عن الجنس، والعرق، والدين؛ فأخذت دعوات الحوار بين الحضارات والثقافات في الانهمار، لرأب الصدع، وردم الفجوة فيما بينها، وتشييد جسور التعاون والتفاهم، وغسل الذاكرة من رواسب الكراهية المتبادلة . إن الإسلام أصبح أخيرا هدفا منشودا بامتياز ويتمتع بالدعم .

بيد أننا اعتدنا علي أن دعوات الحوار تلك لا تلبث أن تخبو ويخفت بريقها لصالح أطروحات الصراع والجدال بالتي هي أسوأ . حينها تغيب الحكمة عن الساحة، ويدفن العقل تحت أطنان الحقد الأعمي، وتزكم الأنوف برائحة بارود الإرهاب، فتُجيش الجيوش، وتُبني التحالفات، لتجفيف منابع الخطر والتهديد، فتغدو النتيجة أن يُطهي مستقبل شعوب دول بأكملها في أتون الفتنة الطائفية والنعرات المذهبية، وتصبح النتيجة أن ينجح دعاة الكراهية في اعتلاء المزيد من المنابر ليعلنوا لنا أن الرأي مسألة داخلية لا يمكن إدراكها إلا بخروجها عن طريق التعبير عنها، ومن ثم لا يمكن وضع ضوابط لنتاج عمل العقل ما دام هذا النتاج لم يخرج للعلن، لأن الفكر محجوب عن حواس الآخرين، لا يمكن رصده، وبالتالي لا يستطيع بشر أن يحاسب بشراً عليه، ولا يوجد قضاء معتبر يحاسب على النوايا كما هو معروف، فحرية الرأي إطلاقها لا يكون إلا في عالم صاحب الحواس فقط. وينبغي ألا تتعدى حرية التعبير نطاقها، فإذا اعتدت حرية التعبير على الأخلاق أو الآداب أو النظام العام، أو تجاوزت حدود الفضيلة وجب ردها إلى أعقابها، فإذا منع الفرد من الخوض فيها فهو بذلك منع من الاعتداء ولم يحرم من حق، ولا يجوز بدعوى حرية الفكر - الطعن في مسلمات أقر عليها علماء الشريعة الإسلامية، ذلك أن حرية الفكر ينبغي ألا تطول أصولاً ثابتة ويغدو من الشطط الفكري إنكار وجود أحكام قطعية الثبوت، والدلالة أو الطعن فيها إذا انعقد الإجماع الشرعي والقانوني، على أن الاجتهاد فيها ممتنع، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة، التي لا تحتمل تأويلاً ولا تبديلاً.

ولذلك ينظر دعاة تلك المنابر إلى أن ازدراء الأديان يعد ضربا من ضروب تحقير الأديان السماوية ومهاجمة السنة والإساءة للصحابة وإلصاق الاتهامات الجزافية للصحابة وآل البيت وأمهات المسلمين، ليس فقط كذلك، بل أو الإساءة لأي دين سماوي آخر، إما بإنكاره، أو محاولة تكفير معتنقيه، والآراء المتطرفة والمتشددة التي تتبرأ منها جميع الأديان السماوية في إقرار التعامل بين البشر.

كما يؤكد أصحاب تلك المنابر أن معني كلمة ازدراء في معجم اللغة العربية هو الاحتقار، والقانون يعرف جريمة ازدراء الأديان بأنها احتقار الدين، أو أحد رموزه، أو مبادئه الثابتة، أو نقده أو السخرية منه بأي شكل من الأشكال، أو إساءة معاملة معتنقيه، لأن مثل هذه السلوكيات هي التي تثير الفتن. ومن هنا، فإن الهجوم بأي شكل على كل ما يتعلق بالدين يعد ازدراء له، ولا يسمح به مطلقا، والقانون الجنائي يعاقب عليه. لذلك، فازدراء الأديان يعني العمل على تحقير المعتقدات والرموز الدينية الخاصة بما يقلل احترام المجتمع لها. فالسلم المجتمعي هو الركيزة الأساسية في استقرار الدولة، والمعكر الأول لصفو هذا السلم هو انتقاد أديان الآخرين والمعتقدات الدينية لهم، وهو ما يجب أن يقابل بكل حزم وشدة في الدولة التي تسعى إلى الاستقرار والسلم بين مواطنيها.

وفي نظر أصحاب تلك المناير تتمثل جريمة ازدراء الأديان في استغلال الدين في الترويج لأفكار متطرفة، بأي وسيلة كانت، مثل الكتابة، والتصوير، أو النشر، أو القول، أو ترديد الشائعات، وغير ذلك من وسائل العلانية في نشر هذه الأفكار المتطرفة، بهدف إثارة الفتنة أو الإساءة لأحد الأديان السماوية بهدف الإضرار بسلام المجتمع وأمنه ووحدته الوطنية .

وهنا أعلق عن كل ما سبق فأقول: ردّة هنا. وتجديف هناك. زعزعة عقيدة هنا وإخلال بالسلم الأهلي والوحدة الوطنية هناك. تعددت التسميات والتهمة واحدة. هي ازدراء الأديان. تهمة فضفاضة تتأرجح بين احترام المعتقد وحرية التعبير. وفيما يتمسك بها الكثيرون نصرة لعقائدهم، يشبهها آخرون بعصا السلطات السياسية والدينية. ونحن نسأل: الم يحِن الوقت لشطب هذه التهمة من الدساتير؟ هل الاعتداء على فكرة ما يعني بالضرورة التعدي على مَن يؤمن بها؟ وماهي الحدود التي تفصل النقد عن التحقير؟

وللإجابة على هذا أقول: هناك فرق بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وازدراء الدين، فالمادة القانونية (98 و) من قانون العقوبات المصري والتي تنص:" (يعاقب بالحبس ستة أشهر ولا تتجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن 500 جنية ولا تتجاوز 1000 جنية كل من استغل الدين في الترويج بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى في أفكار متطرفة)، والخاصة والمتعلقة بازدراء الأديان، هذه المادة وُضعت لتكون حصن لحماية الوحدة الوطنية في مصر، ولكن للأسف وجدنا بعض المـأسلمين يتخذ من هذه المادة سيفا يشهرونه في ضد بعض المفكرين اليساريين.

إن هناك فرقا بين الدين والتدين، فالمادة القانوية تخاطب الدين، لكن الذين يحاسبون باسم ازدراء الأديان ويسجنوا بسبب التدين وليس الدين، وهناك فرقا بين الدين والتدين، فالدين قائم علي ثوابت، بينما الدين قائم على متغيرات، وهذه المتغيرات شعارها المعتقدات والآراء والأفكار التي تخضع للخطأ والصواب، ولذلك علينا أن ندرك الفرق بين الدين والمفهوم فيه، وللأسف الدول التي تعاقب المفكرين باسم ازدراء الأديان تعاقبهم في المفاهيم والمعتقدات

وهنا لا أخجل في أن أقول بأن الإزدراء في شعوبنا العربية، تحول من مجرد كلمة إلى حبل مشنقة يلتف حول عنق كل مفكر يريد التجديد .. جاليليو كان مزدرياً في زمنه، ومارتن لوثر كان مزدرياً في زمنه، وكل الأنبياء والعلماء تمردوا على أفكار عصرهم واُتهموا بإزدراء الأديان .

إن تهمة ازدراء الأديان سهلة التحضير مثل الوجبات التي تُحضر في دقائق معدودة، وهي بمثابة سيف يُظهره المتشددون ودعاة الدولة الدينية والمتعصبون في وجه كل معارض ومختلف ومخالف، وكل من يحاول التفكير، فهي سيف يُشهر في وجه المبدعين والباحثين والكتاب والسنمائيين .. الخ .

نعم هناك تهمة جاهزة الآن اسمها ازدراء الأديان، فباسمها يجرجر المفكر والفنان والأديب إلى ساحات المحاكم وغياهب السجون بكل سهولة، بل وبكل راحة ضمير .. تارة باسم تحطيم الثوابت، وتارة أخرى بإنكار المعلوم من الدين بالضروة .

وقانون الإزدراء مطاط، والتهمة ضبابية، والضحية هو كل من يريد طرح الأسئلة على التراث الذي يريدونه محنطا، والسؤال الآن: هل كل انتقاد للفكر والتاريخ الديني هو ازدراء أو تحقير؟

وللإجابة عن هذا نقول: منذ قُدم "طه حسين" للمحاكمة ومن بعده "علي عبد الرازق" و"عبد المتعال الصعيدي"، ومن بعدهما كل من المفكر العربي الراحل صادق جلال العظم والمفكر المصري الراحل أيضا عاطف العراقي للمحاكمة بتهمة ازدراء الدينين الإسلامي والمسيحي، لم تتوقف محاكمات الفكر في تاريخنا المعاصر، وطالت قضايا ازدراء الأديان عددا كبيرا من الكتاب والباحثين والشعراء والأدباء، الأمر الذي بلغ ذروته مع صعود النزعة الإسلامية فيما عُرف بعصر الصحوة، فحُوكم الشعراء: "حامد وحلمي سالم" وخرجت المظاهرات تندد بالمغربي "محمد شكري" والسوري "حيدر حيدر" وتسارعت وتيرة قضايا الحسبة ليفرق القضاء بين نصر حامد أبو زيد وزروجته ويزيقا غريمه عبد الصبور شاهين من الكاأس نفسه عقب الجدل الذي أصاره كتابه " آبي أدم قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة".

وتفاقم الأمر في ظل وجود مرجعية قانونية تسخر بقوانين الردة والتجديد ومناهضة الازدراء، ولم تجد المؤسسة الدينية (الأزهر الشريف) حرجا في مناصرة مثل هذا النوع من القضايا، بينما وُضعت الدولة في حرج بالغ، إزاء حوادث تواصل الاغتيال الناتجة عن الاتهام بالازدراء بداية من "فرج فودة" وصولا إلى ناهض عمر في الأردن، مما دفع الكثيرين إلى المطالبة فيما سموه بالمهزلة، في حين ما زالت المؤسسات الدينية تصر على موقفها .

وفكرة ازدراء الأديان لم تكن وليدة البيئة العربية – الإسلامية، وإنما خرجت من رحم الثقافة الغربية، فقد كانت تمثل أداة قمع كلاسيكية معروف في أوربا كانت لها مثيل في وقت سطوة الكنيسة في أوربا، حيث محاكم التفتيش التي كانت تحرق الساحرات والمهرطقين والمجدفين وأصحاب الديانات الأخرى، والعلماء ؛ حيث ذهب بعض كتاب القرن الثامن عشر الذین مهدوا للثورة الفرنسية إلى أن الديانات والقوانین ما هي إلا قوانين مستحدثة، وأغراض طارئة على البشر، حتى قال فولتير:إن الإنسانية لابد أن تكون قد عاشت قرونا متطاولة في حیاة مادیة خالصة، قوامها الحرث، والنحت، والبناء، والحدادة، والنجارة قبل أن تفكر في مسائل الدیانات والروحانیات، بل قال: إن فكرة التأليه إنما اخترعها دعاة ماكرون من الكهنة والقساوسة الذين وجدوا من یصدقهم من الحمقى والسخفاء.

قد يكون لفولتير عذره فيما يقول لكون هذا الكلام وهذه النظرة ما هي إلا انعكاس ورد فعل طبيعية لواقع مرير شهدته أوربا من استبداد الملوك، واستعبادهم لشعوبهم، وتحالفهم مع الكنيسة التي صارت أقبية للظلم والطغيان، ومنتجا للأوهام والخرافات، ومسوّغا لسياسة الملوك الظالمة باسم الدين.

وقد انتقلت فكرة ازدراء الأديان في الشرق الإسلامي من خلال محاكم أفظع وتُهم أكثر وأقوى، وتبقي تهمة ازدراء الأديان، وكانها ليست مختصة بالأديان الإبراهيمية فقط، فكلنا نعرف محاكمة سقراط مثلا وإجباره على تجرع السم بتهمة إفساد شباب أثينا، لكن يظل، رغم أن التاريخ والحاضر يحفلان بقصص عنف وقمع وقتل وحرق واعتداء على المخالفين بدعي أنهم يزدرون الأديان، إلا أن واقعنا العربي الإسلامي كأنه لم يبرح هذه القرون أبدا، حيث كنا في البلاء سواء، فالعالم كله والإنسانية كلها قد مرت بفترات طويلة من ملاحقة الناس في أديانهم وأفكارهم، وخرج الجميع من الوهدات ومشوا في طريق الحضارة، إلا نحن حيث نكون مصرون علي البقاء في هذه الوهدة، ولا نريد أن نبرحها أبداً .

ففي القرن الماضي لُوحق أكثر من كاتب وأديب ومفكر بتهمة ازدراء الأديان والإساءة إلى الإسلام ببلاغات ودعاوى قضائية أقامها بعض المشايخ والمحامين ممن نصبوا أنفسهم مدافعين عن الإسلام، وبموجب هذه الاتهامات قتل فرج فودة كما ذكرت من قبل وتعرض الأديب العالمي " نجيب محفوظ" لمحاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة .

وبعدما شاهدت مصر قضية هزت الرأي العام واهتم بها العالم كلة وهي قضية تفريق الدكتور "نصر حامد أبو زيد" عن زوجته بحكم قضائي بعد اتهامه بالردة والإلحاد بسبب أبحاثه العلمية، استنادا أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم، وأُخطر الزوجان بالسفر إلى هولندا هروبا من فتاوى التكفير وإهدار الدم.

كما لُوحق الدكتور "سعيد العشماوى" ورئيس المحكمة السابق، والأستاذ "سيد القمني" بنفس الاتهامات، وتعرض لحملات تكفير ودعاوى قضائية متعددة، وفي أقل من ثلاثة أشهر في العامين الماضيين حُكم على سبعة مواطنين بتهمة ازدراء الأديان ؛ وهم الباحث إسلام البحيري، (والذي حُكم عليه بالسجن لمدة عام، والذي دعا لمراجعة المناهج التي قامت عليها كتب الحديث، وطرق جمع الأحاديث وتصنيفها وشرحها، وذلك على أساس أن هذه الكتب هي نتاج اجتهادات الباحثين، في أطار ما كان متاحا لهم من معرفة في زمانهم، بينما أتسع نطاق البحث العلمي وأدواته في عصرنا الحالي بما يستلزم أعادة النظر في كل هذه المراجع، وسرعان ما رفعت دعاوى قضائية ضد البحيري تتهمه بازدراء الأديان، وأدين بالفعل بهذه التهمة استنادا للمادة 98 من قانون العقوبات المصري، وقالت المحكمة في حيثيات حكمها أن البحيري تعدى على أئمة الإسلام، "وأستغل برنامجه التلفزيوني للترويج لأفكار متطرفة بقصد أثارة الفتنة وتحقير وازدراء الدين الإسلامي الحنيف")؛ وأربعة أطفال مسيحيين، ومدرسهم الذين قلدوا صلاة المسلمين في مسرحية تهكموا فيها على تنظيم داعش.

وأخيرا وليس آخرا حُكم على الكاتبة الصحفية "فاطمة ناعوت" بالسجن لاتهامها بوصف أضحية عيد الأضحي بالمذبحة ورؤية سيدنا إبراهيم على أنها كابوس، وهو ما نفته ناعوت .. مثقفون وسياسيون ونخبة اعتبروها للأحكام اغتيالا لحرية الإبداع والفكر، بينما اعتبروه آخرون حماية من الأديان من التطاول والاستهزاء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم