قضايا

مراد غريبي: ثقافتنا بين فوضى التفاهة وعقلانية التجديد

مراد غريبيلا تزال محنة الإنسان العربي تتفاقم وتزداد تعقيدا مع كل إشراقة صباح، متسائلا: لماذا ينجح هم ونفشل نحن؟ سؤال قديم متجدد او بحسب تعبير المرحوم مالك بن نبي إنه من أسئلة مرحلة ما بعد الموحدين الملحة!!

 هناك مأزق ثقافي عميق ومترامي الأطراف في الحياة العربية لا يزال يؤرق المجددين والمثقفين والعلماء المتنورين، مأزق ثنائيات ومقابلات وإسقاطات وإغتراب وقابليات ورهانات وطائفيات وهلم جرا، فالفضاء المشكلاتي العربي غني بنماذج التخلف والتزلف والتأفف والتكلف وايضا التعالم والتطرف بحيث لا يمكنك رؤية نماذج التنوير والتجديد والتقدم والتطور، فالأسباب متعددة من كل أقسام الحياة العربية لكن منبعها واحد مشكلة كبيرة عميقة متجذرة إنها فوضى الثقافة في حركة الواقع، هذه الفوضى التي تفاقمت مع إنفجار الهويات المادية وليس الروحية الانسانية، لأن أي هوية تختزن أخلاقها بداخلها وتتجه بإتجاه محدداتها الداخلية التي تشكل المقصد أو المقاصد، لذلك ثقافة الهويات عندنا لاتزال حبيسة الفهم المادي المتصلب المتوجس، ثقافة تزداد تحورا كلما حاولت ثقافة الروح الإنسانية الاقتراب من الواقع، ولست أبالغ في هذا لأن الفوضى الاجتماعية بشتى صورها تعكس حقيقة الثقافة المادية المتحكمة في أخلاقيات الناس النابعة من فهمهم لهوياتهم فهما متعصبا، سواءا اثنيا أو دينيا أو مذهبيا أو حتى أكاديميا هناك تموجات وطبقات من التكلس الثقافي المادي التي تغطي الروح الثقافية للوعي الحضاري عربيا وإسلاميا، مما أنتج فوضى ثقافية لا يمكن فهمها الا من خلال فوضى التفاهة التي تنتشرفي أدق تفاصيل الواقع، فالتافه هو كل فكرة أو شيء أو مشروع يفتقد القيمة والأصالة والأهمية، فثقافة أي شعب عندما تخترقها الفوضى تصبح حركتها تافهة بلا جدوى وبلا وجهة ولا حكمة، والأخطر من ذلك هو تثقيف الفوضى أي جعل الفوضى سمة من سمات هذه الثقافة، دون أن نغفل عن العلاقة الجوهرية بين التفاهة والفوضى فالأخيرة هي تفاضل للأولىى من قبل سماسرة التفاهة ثقافيا لتكتسح جل مجالات الحياة المختلفة..

تعليم الفوضى أو فوضى التعليم:

الملاحظ عربيا وإسلاميا أن مؤسسات التعليم من أكثر المؤسسات تخلفا من حيث المبنى والمنهج والمقصد والإدارة والإستراتيجية، والأكيد للفوضى سبق في ذلك، من خلال تشخيص حالات الراهن التعليمي والتخطيط والتنظيم والتوجيه والإرشاد وما هنالك، ليس هناك تعاون بين المتفاعلين لأن المسألة التعليمية عربيا تعتبر ثانوية من الدرجة "ن" ، المناهج معلبة والإدارة متلاعبة والتخطيط مؤجل والإرشاد مؤدلج، إنها فوضى ترسخت لدى أجيال من القائمين على الشأن التعليمي أنتجت أجيال مشبعة بالفوضى فكرا وسلوكا وتطلعا، والتعليم مركز ثقل الأمم التي تحترم نفسها، به ترفع رايات العدالة والصحة والاقتصاد والسياحة والأمن كله، فإذا ما بقيت الفوضى حاضرة في تفاصيل التعليم فعلى الأمن الاستراتيجي السلام..

إعلام الفوضى أو فوضى الإعلام:

من أهم الظواهر في المجالين العربي والإسلامي، هي ظاهرة الإعلام التي تنامت مع الموجة الثالثة للقابلية للإستدمار، ترسانة من وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، بأسهم بينهم شديد، لو حاولنا مقاربة الظاهرة الإعلامية ليس في سياساتها أو أهدافها أو خلفياتها،  وإنما خلال الفترة ما بين غزو العراق وما سمي بالربيع العربي، كيف كان أداء هذه الطاقة الإعلامية العربية وفيما استثمرت وماذا أنتجت وكيف تعاملت مع قضايا الإنسان العربي المركزية، لا يمكننا الاتفاق سوى على خلاصة وحيدة إعلام الفوضى، الحوار أصبح صراع والحرية انفلات، والخاسر الأول والأخير هو الإنسان العربي الذي بدل أن يزداد نباهة ووعيا وانفتاحا على إخوته في الوطن والدين والمذهب والانسانبة، ازداد ضراوة وتفاهة وعزة بالإثم في كل ميادين واقعه، هذا الإعلام الذي يشتت ويوسوس ويدنس ويفسد الواقع أكثر من الرقي بفكر الإنسان وتطلعه ووحدته وتكافله، إنه ينتج الفوضى لأنه صنيعتها وما ادراك ما الإعلام وأثره العميق في اللاوعي الإنساني، كلما كان مبدئيا نزيها مستقلا منفتحا كان مجتمعه إنسانيا ومتمدنا وراشدا، الإعلام المدني كالمجتمع المدني لا يحتاج لرقيب أو لجنة ضبط ومتابعة، لأنه صاحب ضمير حضاري يقلب موازين الإنحراف ويصحح المسارات وينبه الفاعلين الاجتماعيين إلى سبل الأمن الاستراتيجي، إنه السلطة الرابعة التي لا تكون مستقلة دون ضمير ونزاهة وشرف..

تدين الفوضى أو فوضى التدين:

لا ريب أن مجتمعاتنا العربية مجتمعات دينية بإمتياز، تتدين بفوضى الثقافة الدينية أكثر من الدين ذاته، فلا عجب أن تجد الطائفية والتكفير والتضليل والتفسيق حاضرة بقوة في ربوع اجتماعاتنا العربية لأن الدين تعصب وليس انفتاح ، حقد وليس تسامح، كراهية وليس حب، عداوة وليس أخوة، حسد وليس تآلف ورحمة، مصلحة وليس إحسان، للأسف شهدت مجتمعاتنا العربية والاسلامية خلال ثلاث عقود الأخيرة ما لم تشهده في زمن الاستدمار الغربي وما قبله فيما يخص وعي التدين، من فوضى التعليم الديني والإعلام الديني، مما كرس منظومة عطلت روح الدين وأخلاقه وقيمه وعلاقته بالعقل والعلم والتمدن، فبدل أن يكون التدين ضد الفوضى أصبح مسوقا لها، فلا يمكنك أن تكون متدينا اذا لم تكن طائفيا متزمتا شرسا ومزاجيا لمصلحة وهم الدين الذي تحمله، هكذا ترسخت معالم فوضى التدين الشكلي والمغلوط أو المغشوش كما يسميه المرحوم الشيخ محمد الغزالي، مما أحدث فصل بين مقومات التدين على شاكلة الفصل بين السلطات لكن ليس لتنمية التوحيد الذي اساسه الحرية والاستقلال وتنمية الوعي المعرفي الديني وإنما لتعطيل الوعي الديني وتعقيد التجديد، هذه المقومات المتمثلة في حقائق العقيدة والأخلاق والشريعة التي تتكامل في إنتاج طاقة الوعي الإنساني للدين، استطاع دعاة التعليم الديني المزيف وسماسرة الإعلام الديني الأسطوري والمتزلف أن يفككوا عراها كي يبقى التدين الشكلي هو السائد لأن التدين السليم كما رسمه القرآن وصحيح السنة الشريفة يهدد امبراطورية الفوضى المستحكمة في مفاصل الواقع العربي الإسلامي، مما جعل الدين محل تهمة بينما الحقيقة الأبدية أنه مركز التحرر والتنوير وعنوان النهضة والكرامة والحضارة الإنسانية إذا ما تحرر الواقع من تدين الفوضى الذي حرم الإنسان العربي حقه في العيش الحضاري الكريم في ظلال سماحة الإسلام المحمدي..

من فوضى الثقافة إلى عقلانية الثقافة:

لقد ذهب أغلب المفكرين العرب إلى أن المدخل إلى النهضة يكون عبر مجتمع المعرفة، هذا المدخل أسه عقلانية الثقافة، لكن نتساءل عن أي عقلانية نتحدث عربيا؟ العقلانية الكلاسيكية أو الرشدية أو السينوية او الفلسفية الحديثة أو الغربية التواصلية أو الدينية المعتزلية من جهة، أو من جهة اخرى عن علاقتنا بمسألة العقل والعقلانية عربيا التي لاتزال مضطربة كما يرى المفكر عبد الإله بلقزيز أو ضرورة الحذر عند استحضارها كما يوصي طه عبد الرحمن أم لابد أن نبتكر عقلانيتنا من خلال تجذير الفعل النقدي لواقعنا في اشتغالاتنا الفكرية والثقافية كما يرى الأستاذ زكي الميلاد..

 لعل بعض المثقفين دعاة العقلانية في راهننا العربي لا يقبلون نقد أفكارهم وتوجهاتهم وارتياطهم بالعقلانيات الغربية كما ناقش ذلك المفكر طه عبد الرحمن في كتابه سؤال الأخلاق، بدعوته لتجديد النظر في مسألة العقلانية، والتي اراها ضرورية بالاضافة لدعوات هاشم صالح التي لابد من تلقيحها بمعرفة نقد العقلانية في الغرب، لكن الأهم في هذا كله هو صياغة جديدة للعقلانية عربيا وإسلاميا كما يلح دوما زكي الميلاد في العديد من مقالاته ودراساته حول العقلانية والحداثة والمدنية، من هذا كله نستلهم أن مأزق الفوضى في ثقافتنا هو في: كيف نجددها عبر عقلانية ذاتية منفتحة على الاستفادة من إيجابيات العقلانية الغربية مع التأسيس لنقد الذات، لأننا ما بقينا نتحسس النقد كثقافة ونحاربه، لا مجال للحديث عن مجتمع للمعرفة لأن المعرفة تواصل وتفاعل وتجدد وليست جدل عقيم وإستعارة للمناهج والمفاهيم والفانتازيا الثقافية..

وتبقى ثقافتنا مشكلتها المركزية دوغما الانحياز المعرفي بدلا عن نسبية الحقيقة ضمن معادلة الإبداع المعرفي المتواصل والمستمر...

 

بقلم: أ. مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر والثقافة

 

 

في المثقف اليوم