قضايا

صادق السامرائي: اللغة العربية وما حولها!!

صادق السامرائيكتبتُ كثيرا عن لغة الضاد، ولستُ من الذين يرثونها كما يُراد لأبنائها أن يتوهموا بأنها تضمحل وفي طريقها للإندثار، وهو أحد الأساليب التي تستهدف هوية الأمة وجوهرها وروحها، وأبناء الأمة يتسارعون نحو تعزيز هذه السلوكيات العدوانية على اللغة العربية، ظنا منهم بأنهم يعبّرون عن غيرتهم وحرصهم عليها.

فلا تجد إلا مَن يرثيها على منهج حافظ إبراهيم منذ أكثر من قرن، وهي اللغة التي تتحدى نُعاتها، وترثي مَن يرثيها.

اللغة العربية خالدة معاصرة ومقتدرة والعيب في أبنائها وليس فيها!!

وهذه بعض الإقترابات منها:

أولا: اللغة العربية بخير!!

أعداء اللغة العربية يكتبون عنها بسلبية وعدوانية سافرة، ولا يعكسون واقعها، بل تحاملهم عليها، وخوفهم منها، وإستهدافهم لتراثها، وسعيهم لتجهيل أجيالها بتأريخهم المعرفي المشرق.

العربية بخير لأن العرب صاروا يكتبون بها أكثر، بسبب وسائل التواصل الإجتماعي التي تستدعي الكتابة، كما أن النشر بها تضاعف لكثرة المواقع.

ومن الواضح أن العرب الذين يكتبون بها قد تصاعفت أعدادهم مئات المرات، بالمقارنة بأعدادهم في بداية القرن العشرين.

فالذين يدّعون أن الأمية في بلاد العرب نسبتها عالية، إنما يكذبون، فإذا إفترضنا أن النسبة العظمى من العرب مسلمون، فلا بد أنهم سيقرأون، لأن من واجب الدين وشروطه الأساسية القراءة، وإن لم يقرأوا فالعلة في رموز الدين، الذين يسعون لتجهيل الناس وإستعبادهم.

لكن أي مسلم على الأقل يعرف بعضا من آيات القرآن ويحفظ السور القصار، وهذا يساهم في وعي لغة الضاد وتواصلها مع الأجيال.

لكن المشكلة التي يغفلها الصحفيون والمثقفون والمفكرون، أن أهم أعداء اللغة العربية هم قادة العرب بأنواعهم، والذين لا يخجلون من أنفسهم عندما لا يجيدون الكلام باللغة العربية، ويعجزون عن تقديم الخطابات ذات القيمة الفكرية والمعرفية وبلغة سليمة.

ومعظمهم إن لم نقل جميعهم بحاجة لتأهيل لغوي، وتدريب على كيف ينطقون ويقرأون، بل ولتأهيل فكري ومعرفي.

ومن الواضح أن لا أحد يجرؤ على مواجهة هذا الإضطراب اللغوي الذي يجيده قادة العرب.

وكأنهم لم يسمعو ويقرأوا عن قادة الأمة في مسيرتها، وكيف كانوا من المفوهين والمتميزين بفن الخطابة والبلاغة.

وفي المجتمعات المتقدمة قادتها يتكلمون بلغة تامة وبلاغة مؤثرة، وخطاباتهم تدرَّس في المدارس لأهميتها اللغوية والبلاغية، وما فيها من آليات التعبير المبين عن الأفكار.

فلا تندبوا لغة الضاد وواجهوا قادة الأمة وشهروا بالذين لا يجيدون فن الخطاب.

إن إهمالنا لسلوكهم المشين المعادي للغة العربية هو العدوان الأكبر عليها.

فمن واجب الأقلام أن تقف بالمرصاد لأية زلة او خطأ بالنطق أو النحو عند أي قائد مهما كان شأنه.

إستمعوا لخطاباتهم في مؤتمراتهم وستكتشفون مدى إهانتهم للعربية!!

قائد دولة أجنبية كبرى نطق كلمة بطريقة أعطت معنى آخر لها، فتصَّدت له الصحافة وشهرت به وسخرت منه، وكادت أن تطلب منه الإعتذار من اللغة لأنه أهانها بهذا الشطط اللفظي، فقلت يا ليتهم يستمعون لخطابات قادة أمتنا المنكوبة بهم!!

فاستحوا يا قادة العرب، وإحترموا لغة العرب، فإذا كان كلامكم خطلا فسكوتكم أروع من الذهب!!

ثانيا: مفردات العربية ذخرنا الحضاري!!

إهتم أبناء العربية بجمع مفرداتها في كتب تسمى المعاجم، ورائدهم الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب أول معجم للغة العربية إسمه "العين"، وبعده توالت معاجم متعددة ألفها جهابذة العربية في عز توهج الأنوار المعرفية الحضارية لأمتنا.

وكنز المفردات العربية ثري وقابل للزيادة والنماء والتوالد والإشتقاق المتوافق مع عصره، فهي لغة خالدة ومن ضرورات الخلود التواكب والتجدد والإبداع الأصيل.

والعجيب في أبجديات اللغة أنها لا تنضب عندما تتفاعل مع بعضها، فتأتينا بما هو جميل ودال على معنى أو إسم.

وقد تولعت بالكلمة ومعناها منذ الصغر، وتحولت لعبة الكلمات إلى هواية أمارسها وأتمتع بما أتعلمه منها، وكيف أنها تحفز قدرات التفكير والربط والإشتقاق والتنوير.

فلكل كلمة تأريخ ومعنى وقدرة على التفاعل مع محيطها الذي ولدت أو تواجدت فيه، وخلفها سيل دافق من المعارف والقصص والحكايات، والأحداث الممتعة المذكية لمشاعل الإبداع.

فالغوص في بحر الكلمات يساهم بصيد الجمان الإبداعي النفيس، الذي يغذي الروح والعقل والقلب والنفس، ولا يمكن لثقافة أن تترعرع وتتنامى إذا لم تنهل من فيض الكلمات، وتتنعم بالثراء اللغوي، ويكون لصاحبها معجمية تؤهله ليفكر بقدرات إستثنائية وطاقات فريدة.

وتجدنا في واقعنا التعليمي والتربوي نغفل هذه المهارة المعرفية، ونهمل التركيز على الكلمة ومعناها، وأساسها وإشتقاقها وما يتصل بها من أطياف معرفية، وتفرعات ثقافية ذات طاقة تنويرية ساطعة.

بينما الأمم الحية المتقدمة على غيرها، تهتم بتزويد مواطنيها بذخيرة لغوية تؤهلهم للتعبير والتفكير الجاد الواضح المبين والدقيق عمّا يريدونه ويتطلعون إليه.

بل وتمضي بضخهم بالمفردات حتى نهاية التعليم الجامعي، ولهذا تجد من أهم إمتحانات القبول بالجامعات هو التعرف على الذخيرة المعجمية لدى المتقدمين، وهناك حدود يجب أن يتخطاها المتقدم لكي يحصل على القبول، ذلك أن المفردة اللغوية من أدوات التفكير المهمة، والتي عليها أن تتوفر بغزارة ليتمكن العقل من الإنتاج السليم.

فهل لدينا القدرة على تنمية معجمياتنا الذاتية لنكون؟!

ثالثا: العربية تنعى أعداءَها!!

منذ قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم التي عنوانها " اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها"، المنشورة عام (1903)، والكتابة عن اللغة العربية تتخذ ذات الأسلوب الذي شاع فيها.

"رجعتُ لنفسي فاتهمتُ حَصاتي

وناديتُ قومــي فاحتسبتُ حياتي

.........

وإما ممات لا قيمــــــة بعـــده

ممات لعمري لم يُقَسْ بمماتِ"

هكذا تبدأ وتنتهي القصيدة، ولست معنيا بسبر أغوارها وشرحها ونقدها، وإنما للإشارة إلى ما فتحته من أسلوب للتعامل مع اللغة العربية، وكأنها الرجل المريض، والعجيب في الأمر أن هذه القصيدة فد درسناها في مدارسنا، ولازالت الأقلام تتبع خطاها عندما تكتب عن لغة الضاد ، أي بسلبية ودونية وظلامية، وإنهزامية واضحة، ومعظم الكتابات عن العربية ذات طابع تأبيني وعدواني.

فمَن نعى مَن؟

العربية هي التي نعت حافظ إبراهيم!!

وقد رثاه أحمد شوقي بقصيدةٍ مطلعها:

"قد كنتُ أوثر أن تقولَ رثائــي

يا منصفَ الموتى من  الأحياءِ"

والعربية بعد (117) سنة على قصيدته الناعية تقدمت وتطورت وواكبت، وتنامت قدراتها على التعبير والعطاء الثري الغزير في ميادين الحياة كافة، وهي مؤهلة لنعي مَن ينعاها، وتأبين أعدائها أيا كانوا، ومهما توهموا بأنها ستُنعى، كما توهم الشاعر حافظ إبراهيم.

فلتتصالح الأقلام مع لغة الضاد، وتكتب عنها بإيجابية وتفاؤل، وتبتعد عن الأساليب اليأساوية الإكتئابية الحزينة، التي تحسبها ميتة وتلطم عليها بالكلمات، فهذا إنحراف سلوكي غريب لا وجود له في مجتمعات لغات الدنيا المهتمة بالجد والإجتهاد، ولا يخطر على بالها الكتابة بسلبية عن لغتها كما يحلو لنا أن نكتب.

اللغة العربية حية خالدة ولن يؤثر فيها أعداؤها، مهما حاولوا التنكيل بها والحط من قدرها ودورها الإنساني الحضاري، فالعربية بخير وإزدهار وستصون تراث أمة الحضارات!!

رابعا: العربية بين الإيجابية والسلبية!!

اللغة العربية ذات طاقات مطلقة، وقدرات تفاعلية حية معاصرة، وفيها ما يؤهلها للنماء والرقاء والتوالد والإنبثاق الأصيل.

ولا توجد لغة في الدنيا يعاديها أبناؤها ويكتبون عنها بسلبية مثل اللغة العربية، فلو نظرتَ أية لغة لوجدت أهلها يفخرون بها ويعزّونها ولا يجرؤ أحدهم أن ينال منها، لأنها ذاتهم وهويتهم وما يميزهم.

ولن تجد مقالة تهين اللغة المكتوبة بها، وستجد مثل هذه المقالات عند الذين يكتبون بالعربية!!

فالمقالات وما يسمى بالدراسات المكتوبة بالعربية التي تبحث في السلبيات لا تعد ولا تحصى، أما إذا كتبتَ مقالة تتناول فيها إيجابيات اللغة العربية، فستنهال عليكَ التعليقات التي ترفضها!!

وقد نشرتُ عددا من المقالات التي تتحدث عن العربية بإيجابية، فجوبهت بالرفض والتعليقات المناهضة لها، وتتعجب من ردود الأفعال المتحمسة للنيل من العربية، وتحتار بالدوافع الكامنة وراءها.

فهل وجدتم مَن يعادي لغته غير العرب؟!!

لكي تقضي على أية أمة عليك أن تستهدف تراثها الروحي والمعرفي وتبيد لغتها، وهذا السلوك الذي يمارسه أبناء الأمة يندرج في مسارات النيل منها، والقضاء على وجودها وبجهودهم، شأنهم في جميع المشاريع التي ينفذونها بإندفاعية فاقت تصور الذين يسخرونهم لإنجازها.

وتطالعك مقالات لكتّاب وأكاديمين يهاجمون فيها العربية، ويمعنون بإظهار السلبيات وتوصيفها بالسيئات، وكأنهم يكتبون بمداد العدوان للنيل من لغةٍ غنية بطاقاتها الحضارية والمعرفية، وثرية بمفرداتها وقادرة على إستيعاب معطيات البشرية ومبتكراتها.

العيوب لا يمكنها أن تكون باللغات وإنما بأبنائها، فلماذا تريدون تبرأة أنفسكم بإلقائكم اللوم على اللغة؟!

اللغة لم تكن عائقا للتقدم والرقاء!!

ألا تساءلتم لماذا معظم دول العالم تدرِّس العلوم بلغاتها، والعرب لا يفعلون ذلك، إلا في سوريا وقد أصابها ما أصابها؟

إذا كتبنا مقالة علمية بالعربية تزوَّر عنها الأنظار، وتُحارب مواقع علمية تكتب بالعربية!!

أيها العاجزون البائسون ستُعْجِزًكم لغة الضاد، فأعيدوا النظر برؤاكم السوداوية الإنكسارية الإنتكاسية، ولا تتمنطقوا بالسلبيات وتتهموا العربية بما ليس فيها، فالعيب فيكم، فأبدعوا وإبتكروا وإتخذوا منهج العلم سبيلا، وأبعدونا عن ظلامياتكم وتضليلاتكم وبهتان مقالاتكم، ودراساتكم المعادية للعربية والعروبة والعرب والدين.

خامسا: العربية والدين!!

لا يمكن ولا يجوز فصل اللغة العربية عن الإسلام فهي لغة الفرقان، وأنها وعاء أمهات أفكار السماء ومحتوى جوهر الدين، ودرر معانيه.

فالعربية روح الدين، فإن ضعفت ضعف الدين وإن تمتعت بقوتها يكون الدين قويا، ما يصيب الإسلام اليوم يتصل بالضعف الذي داهم لغة الضاد وجعلها وكأنها لغة غريبة عند العرب أنفسهم، والعرب هم حملة رسالة الدين، ويقع على عاتقهم التواصل معها والحفاط على نورها المبين.

وعندما يفقد العرب لغتهم فأنهم يفقدون دينهم، وينتفي وجودهم ودورهم الإنساني والحضاري.

فعلاقة العربية بالدين مصيرية، والذين يقللون من أهمية العربية ودورها في الحفاظ على الهوية والعروبة والدين، إنما هم من المُسخرين للقضاء على العروبة والدين.

فمن يحارب العربية يحارب الدين، ومن ينال من العربية ينال من الدين، والذي لا يحترم العربية لا يحترم الدين، والذي يجهل العربية يجهل الدين، فلا تقل أنا مسلم وأنت بالعربية من الجاهلين!!

القرآن تنزل بلسان عربي مبين، ومَن لا يعرف هذا اللسان كيف له إدّعاء أنه يعرف من القرآن شيئا، ولكي تكون مسلما ومعبّرا عن الدين، لا بد لك أن تكون على دراية معقولة بالقرآن، أو أن تعرف ما تقرأ، وتتفهم معاني الكلمات وتكون من الذين يتفكرون.

وكيف تتفكر وأنت لا تعرف أدوات التفكير، وما تمتلك ما يعينك من المفردات.

فاليقظة الحقيقية تستدعي الإهتمام بلغة الضاد، وتحفيز العقول للعمل الجاد الدؤوب للتمسك بالعربية، وتطوير أدوات تعلمها وتحفيز ذخائر مفرداتها عند أبنائها، فالعربية هوية وعروبة ودين!!

فهل لنا أن نستعيد وجودنا العزيز؟!!

وفي الختام، تحية للغتنا العربية الساطعة الخالدة المجيدة في يومها العالمي (18\12) كل عام، وليتوقف أبناؤها عن الكتابة عنها بما لا يرضيها، فالعربية هويتنا وروحنا ورسالتنا، ولسان حال ذاتنا، وديوان مسيرتنا الإنسانية!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم