قضايا

مصعب قاسم عزاوي: تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة

مصعب قاسم عزاويفي سياق التفكر بمسألة التفاؤل بقدرات الأجيال الشابة في العالم العربي على القيام بالمهمات التاريخية التي تأخر القيام بها في العالم العربي، وخاصة فيما يتعلق بالانعتاق من نير الاستبداد ومصارعه؛ فلا بد دائماً من التفاؤل بالأجيال العربية الشابة، وكل الأجيال الشابة في كل أرجاء الأرضين، فهم الحاصل الطبيعي لطموح البشرية الفطري بمستقبل أفضل، بالإضافة إلى أن الأجيال الشابة في عصرنا الراهن مناط بها مسؤولية وإشكالية كونية كبرى لا بد من تشارك جميع بني البشر في مقاربتها والسعي لحلها ودون أي تسويف في ذلك، وأعني هنا الكارثة البيئية الكونية التي تنتظر بني البشرية وكوكب الأرض في حال استمرار مستوى انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون على مستواها الحالي، والتي سوف تحول جل أرجاء الأرض إلى مناطق لا يعاش بها سواء بسبب الفيضانات، أو الأعاصير، أو الجفاف، أو الحرائق، أو زيادة معدلات الحرارة و الرطوبة إلى مستوى يفوق قدرات أبدان البشر على إطاقتها فزيولوجياً، أو غيرها من مفاعيل ظاهرة الاحتباس الحراري وزيادة حرارة الغلاف الجوي.

ومن ناحية أخرى فإن الأجيال العربية الشابة أثبتت بجدارة قدرتها على الإبداع والنضال والتنظيم والحشد بشكل استثنائي في سياق الربيع العربي الموؤود بقوة الاستبداد العربي، وأولياء نعمته من المستعمرين القدماء لأرض الناطقين بلسان الضاد، والذين لم يرحلوا إلا شكلياً وتركوا مفوضيهم الساميين من الطغاة للقيام بالدور المناط بهم فساداً وإفساداً بكل الأشكال والتلاوين.

ولكن القلق الأكبر يمكن في تلك الحملة الشعواء التي تشنها الرأسمالية على عقول بني البشر باستخدام أسلحتها وتقاناتها التكنولوجية المستحدثة، مشخصة بمفاعيل ثورة الاتصالات وتدفق المعلومات، لحرف تلك المفاعيل عن دورها الطبيعي في تسهيل التواصل بين البشر، وتيسير سبل الحصول على المعرفة لكل الراغبين بذلك، لتصبح وسيلة لاختراق عقولهم، والتغول على كل خصوصياتهم، لأجل تحوير وتعديل وتوجيه سلوكاتهم وميولاتهم بالاستناد إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، و هي التي أصبحت فائقة في قدرتها الاختراقية والإيحائية للتلاعب بميولات البشر، كما تجلى في الورقة البحثية التي نشرها فيسبوك في العام 2014 متبجحاً بقدرة منصة فيسبوك على تخليق سعادة وبهجة مصطنعة لدى مستخدمي المنصة، أو تخليق حالة من الإحباط والاكتئاب لديهم حسب ما يروق لإدارة المنصة. والأرجح أن قدرات الذكاء الاصطناعي الوحشي في التلاعب بميول واتجاهات وأمزجة بني البشر قد تعملقت وتضخمت منذ تاريخ تلك الورقة البحثية التي مضى على نشر فيسبوك لها بضع سنين.

وبالتوازي مع ذلك فإن هناك خطراً وجودياً على مستقبل الأجيال الشابة، وقدرتها على القيام بالمهمات التاريخية المطلوبة منها لحفظ الجنس البشري من الانقراض، تتمثل في الهجمة الشرسة من كل وسائل الإعلام المتسيدة مدعومة بكل النواطير على الاقتصادات المنهوبة، لإيهام تلك الأجيال الشابة بتعريف جديد للحرية الخلبية مشخصاً في «حرية شراء ما يحلو للمستهلك في اقتصاد السوق»، وبحيث يتم اختزال الإنسان إلى «محض مستهلك»، وتقزيم معنى وجوده في حياته وأهدافه فيها إلى «تعظيم الاستهلاك» والارتقاء في درجات سلمه.

وذلك واقع مهول يحاول تخليص بني البشر من وعيهم الفطري بضرورة التفاعل والتآثر والتعاون وحتى التضحية لأجل مصلحة الكل الجمعي، وهي الميولات البنيوية الفطرية التي أثبتت بحوث فيزيولوجيا الدماغ البشري الحديثة تأصلها لدى كل بني البشر؛ وهي الميول التي لولاها لما كان لأسلافنا من أهل الكهوف في مرحلة الجمع والصيد الصمود في وجه عسف شروط الطبيعة التي واجهت الجنس البشري على امتداد مرحلته التطورية التي امتدت على سبعة ملايين من السنين. وذلك جهد شيطاني تقوم به الرأسمالية البربرية المتوحشة كنمط اقتصادي يكرس هيمنة الأقوياء الأثرياء على المستضعفين المفقرين، لا بد للأجيال الشابة من تفكيكه وتشكيل مناعة معرفية فائقة لوقاية أنفسها من عقابيله الخطيرة نفسياً وجسدياً على كل من أفرادها بأقل المقاييس، والتي قد تفوت الفرصة الأخيرة لإنقاذ الجنس البشري من الانقراض في حال إفلاحه في تخريب عقول ووجدان تلك الأجيال الشابة التي يعول عليها للقيام بالكثير من المهمات الجللة التي تقاعس أسلافهم عن مقاربتها.

وبشكل أكثر تشخيصاً وتبئيراً فإن أفضل نهج في نظم علاقة التفاؤل بالتشاؤم في الحيز المعرفي والاجتماعي قد يكون ذلك الذي وضعه غرامشي في تلخيصه لنهجه الفكري بمقولة «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة»، وهي مقولة لا بد أن تشكل منارة هادية لكل المجتهدين في الحقل الاجتماعي، ولكل إنسان يريد أن يحظى بفرصة النظر إلى نفسه بالمرآة دون الشعور بالخطيئة والذنب وعدم احترام الذات التي أدمنت التملص من واجبها الضروري والطبيعي في حفظ نوعها من الفناء، وتمهيد الأرضية لحماية ذريتها من بعدها، والعمل الدؤوب لتحسين شروط وظروف حيواتها في المستقبل، وهي فطرة كل الكائنات الحية ومن ضمنهم بنو البشر، والتي قد يستقيم وصم كل هارب منها بأنه فاقد لبوصلته الفكرية، وهو ما سوف يؤول إلى ضياعه واندثار مورثاته من الحوض المورثي للجنس البشري كحد أدنى، إن لم يفض ذلك لاندثار الجنس البشري بأكمله، والذي يبدو أن تحققه المرعب المهول صار قاب قوسين أو أدنى.

 

د. مصعب قاسم عزاوي

 

في المثقف اليوم