قضايا

ثامرعباس: هوية المكان بين فضاء الريف وحاضرة المدينة

لعل من جملة المفارقات المترتبة على ظاهرة غياب الوعي بالجغرافيا الوطنية، هي إن الغالبية العظمى من العراقيين المعاصرين – باستثناء بعض المثقفين طبعا"- يجهلون حقيقة أن للأمكنة هويات خاصة تعرف بها وتدل عليها، حالها في ذلك حال بقية الهويات المعروفة في عالم الواقع الاجتماعي: الشخصية والاجتماعية والثقافية والحضارية والقومية والوطنية، الخ. لا بل والأنكى إن هناك ندرة ملفتة للنظر في وجود من يعرف إن للمدن أو القرى والأرياف هويات خاصة، يستعان بها للتعرف على مدى تجذر عناصر (الشخصية الاجتماعية) في وعي وسلوك ساكنيها، باعتبار كون هذه الأخيرة تعد مدخلا"سليما"لتكوين ما نسميه (بالهوية الوطنية). ذلك لأن أي نوع من أنواع الهويات المذكورة سوف يبقى عليلا"من الناحية البنيوية وسريع العطب، طالما لم يحقق شرط تكامل عناصر الشخصية الاجتماعية، حيث تتشذب التطلعات الاقوامية وتتهذب النزعات الطوائفية.

وإذا كان من الضروري استيعاب مثل هذه الحقيقة الايكولوجية والانثروبولوجية، فضلا"عن أهمية الاشتغال على تعميمها بين الجماعات وترسيخها في الذاكرات، فان هناك حقيقة ثانية لا تقل عن الأولى من حيث الضرورة والأهمية، تتمثل بمراعاة واقعة إن الهويات المذكورة لا تتمتع بنفس المستوى من الأهمية ولا تستلزم ذات القدر من الاعتبار. بمعنى إن هناك تسلسل أولويات في مجال بناء الشخصية الاجتماعية العابرة للخصوصيات الثانوية (أقوام / أعراق، وديانات / مذاهب، وقبائل، عشائر، وجهات / مناطق)، وأسبقيات في مضمار تشييد الهوية الوطنية المتخطية للقافات الفرعية (القيم والأعراف والعادات والرموز والسرديات).

ولما كانت الأمكنة (الريفية) لا تحيل إلى مرجعية واحدة بسبب تعدد الجماعات والأرومات، ولا تمثل رمزية مشتركة بسبب تنوع الذاكرات والتمثلات، فان غياب هويتها أو طمس شخصيتها والحالة هذه – لأي سبب كان – لا يؤثر في المسار الذي يسلكه الوعي الاجتماعي لاستكمال مقوماته وإنضاج تصوراته وبلورة خياراته، بالقدر الذي يعيق عمليات غرسه للمبادئ الوطنية وإنباته للقيم الأخلاقية في حقل السيكولوجيا الاجتماعية للأفراد والجماعات، بصرف النظر عن وجود الاختلافات في الدين والتنوعات في الثقافة والتباينات في الذاكرة. هذا في حين يحصل العكس تماما"عندما يساء إلى هويات الأمكنة (المدينية)، التي أدركتها – بهذا القدر أو ذاك – مظاهر (التمدن) و(التحضر)، وتلونت – بهذا القدر أو ذاك – بأطياف (الثقافة) و(الفكر). وذلك لكونها تعتبر بمثابة حاضنات طبيعية لصيرورة عناصر الوعي الوطني وبلورة أنماطها وخصائصها من جهة، واعتبارها بيئات طاردة ومعادية لمختلف أنواع العصبيات السوسيولوجية المتخلفة والنزعات السيكولوجية المتطرفة، التي عادة ما يرتفع مستوى نشاطها وتزداد معدلات عدوانيتها، منذ اللحظة التي تشرع فيها المدن ؛ بفقدان هويتها المكانية، وتآكل حصانتها الحضارية، واندثار معالمها العمرانية، وتلاشي أسسها الديموغرافية.

ولعل من الراجح إن الخلفيات البدوية / القبائلية لمعظم ساكني الأمكنة الريفية، قد أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على ضعف خصوصية تلك الأمكنة وهلامية هويتها، من منطلق أن المكونات الانثروبولوجية القاطنة في تلك الفضاءات المفتوحة والمقفرة، هي بالأساس كيانات لم تبرح تنوء بحمل موروث بدوي / قبلي ضارب في القدم، بحيث انه علّب تصوراتها عن البيئة، ونمّط سلوكياتها حيال المكان، وأطر علاقاتها بالمحيط. ولما كان الطابع الغالب على البيئة العراقية كونها بيئة عنيفة وقاسية (تكثر فيها الصحارى ويندر فيها المطر)، فهي لا تجود بسلاسة ولا تمنح بطواعية لما يحتاجه ويطلبه منها إنسان تلك البيئات والأجواء، إلا بعد أن يبذل جهود مضنية ويتحمل معاناة متواصلة غالبا"ما أفضت إلى صدامات وصراعات بسبب من تلك الحاجات والمطالب. وهو الأمر الذي دفعه إلى عدم الثبات في تلك الأمكنة والإشاحة عن فكرة الاستقرار في ربوعها، بحث اضطره هذا الأمر إلى مزاولة التجوال المتواصل والبحث المستمر عن مناطق / أراضي يتوقع أنها ستؤمن له ولعائلته وقطعانه احتياجاتهم الضرورية من الماء والكلأ.

وعلى أساس ما تقدم فان ابن الريف – وحتى القروي – غالبا"ما لا يحفل بما للقرى والأرياف من خصوصيات جغرافية وهويات مكانية، يستلزم التعرف على تضاريسها والانتماء إلى فضائها والاعتزاز بايكولوجيتها، طالما انه يستبطن عنها ذكريات مؤلمة وتصورات عدوانية توارثتها الأجيال، عبر القصص المعجونة بالألم والملاحم المطرزة بالمعاناة والسرديات المثخنة بالأحزان. فالأرض التي تفتقر إلى مصادر الحياة تبدو له بيئة عدائية لا تستحق منه الاهتمام أو الاعتبار، كما لا تحضّه على اجتياف رموزها كمعطيات حميمة ينتمي إليها واستبطان معالمها كأماكن ذاكرة يحتفي بها.

وهكذا تبدأ المدن بفقدان عناصر شخصيتها وتلاشي مقومات هوياتها واضمحلال مكونات ذاكرتها، بالقدر الذي تشهد فيه تحولات اجتماعية عميقة بصيغة صراعات سياسية أو دينية، وانزياحات ديموغرافية واسعة بصيغة هجرات سكانية طوعية أو قسرية – كما هو الحال في العراق – حيث تشرع العلاقات المتريفة والذهنيات المتطيفة بالتسلل إلى حواضر المدن - عبر أسراب المهاجرين والمهجرين الباحثين عن مجرد أماكن مجهولة الملامح، لا يهمها منها سوى كونها ملاذات آمنة وملاجئ محمية، وان آخر ما تفكر فيه أو تهتم لأمره هو السؤال عن شخصية المكان أو طابع هويته - للتوطن في بيئاتها المتمدنة، والتمكن من قيمها المتحضرة، والتسلطن على أعرافها المتعقلة. ولذلك (فالمدينة – كما تؤكد الفيلسوفة والعالمة في الأديان – ميريام ريفولت دالون – ليست، إذن، مجرد جماعة مكان. ينسلك الشأن السياسي العام في جماعة من المواطنين، في الوجود المدني، في الانتماء المشترك إلى "النحن"..).

والطامة الكبرى إن الأمر لا يقتصر فقط على فقدان المدن لهويتها وخسرانها لشخصيتها وضياعها لذاكرتها فحسب، وإنما سرعان ما يدب الخراب في مدماكها البنيوي ومعمارها القيمي وتكوينها الثقافي، وتتحول من ثم من الطابع الحضاري / المدني إلى الطابع القبلي / الريفي، الذي غالبا"ما يكون مرتعا"لفيروسات التطرف الديني، وجراثيم العنف الاجتماعي، وفوضى التخلف الثقافي. بعدما يلحق الاندثار بشروط صيرورتها كمدن حاضنة لمبادئ العقلنة في التصورات ومؤسسة لقيم المواطنة في العلاقات، بحيث تسود الخرافات في مجال الأولى وتتسيد العصبيات في إطار الثانية، ولا يعود هناك من عاصم يحول دون ارتكاب المحارم الإنسانية والآثام الأخلاقية. وعلى وقع تفشي النعرات الاقوامية، واستشراء الحساسيات الطوائفية، واستفحال المناكفات القبلية، التي سبق لمكونات المدينة أن جاهدت طويلا"لمغادرة مستنقعاتها والتخلص من افرازتها النفسية والقيمية، بعد أن قطعت أشواطا"واسعة في مضامير ؛ كبح جماح دوافعها البدائية، والحدّ من غلواء نوازعها الأولية. من هنا تفقد تلك المبادئ والقيم مبرر وجودها كدريئة مانعة ورادعة، إزاء وقوع حالات التعهر في السياسات، والتحجر في الثقافات، والتقهقر في الأخلاقيات، والتبربر في السلوكيات. ولهذا فليس من العبث أن جعلت المدينة معقل الحداثة المؤنسنة، وحصن العقلانية المتنورة، وقلاع الجماعات المتحضرة !.

وليس عليكم لمعرفة حجم الكوارث الناجمة عن تريف المدن وفقدانها لهويتها، سوى الالتفات إلى مدينة مثل (بغداد) التي كانت من أوائل مدن العالم ؛ لا في مجال عمق تاريخها وعراقة حضارتها وغزارة علمها وجمال عمرانها فحسب، بل وكذلك في إطار تمتعها بمقومات (شخصية إقليمية) مميزة وحيازتها على عناصر (هوية مكانية) فريدة. فعلى مدى عقود قليلة لا تقارن بقرون تاريخها أحالتها مخلوقات العالم السفلي، من حاضرة مزدهرة يتبارز الشعراء في مدح جمالها والأدباء في تقريظ حضارتها والعلماء للتعبد في محرابها، إلى مجرد أطلال وخرائب تفوح منها روائح الموت، كأنها بيئة أشباح لم يطأ ثراها إنسان من قبل !!. 

 

ثامر عباس

 

 

في المثقف اليوم