قضايا

ثامر عباس: أولوية (الولاء) .. للدولة أم للمجتمع ؟!

سبق وان عرضت على الأخوة والأصدقاء - في فترة سابقة - (قضية للمناقشة) تتعلق بماهية تصوراتهم حيال ترجيح أولوية (الولاء) ما بين الدولة والمجتمع، مع التأكيد على بيانهم الأسباب والمبررات التي تفضي إلى إعطاء الأولوية لهذا الطرف على حساب ذاك أو بالعكس . واستكمالا"لما تمخض عن لتلك المناقشة من تنوع في الآراء وتباين في وجهات النظر، أطرح فيما يلي وجهة نظري على النحو التالي:

منذ أن تداعت أركان النظام السابق، بعيد الغزو الأمريكي عام 2003 وتحولت دولته المركزية إلى هباء كما المومياء - ولعل الأمر لم ينتهي عند هذا الحد - لم يطرح أحد على بساط البحث والمناقشة مسألة أولوية (الولاء) بين الدولة والمجتمع . ولعل ذلك متأت من سببين ؛ الأول وهو إن الغالبية العظمى من الكتاب والباحثين المعنيين بالشأن السياسي، ناهيك عن رهط واسع من الأكاديميين المتخصصين في مجالات علمي القانون والاجتماع السياسي ، اعتادوا المماهاة بين الاثنين واعتبروهما توأمين سياميين لا يمكن الفصل بينهما دون الإساءة لكليهما، بحيث ذهبوا إلى إن الأولى (الدولة) منبثقة عن الثاني (المجتمع) وامتداد مؤسسي له وسلطوي عليه . وبالتالي فان ما يمثله هذا الأخير من ضرورة وجودية وما يتمتع به من أهمية مصيرية، لا تكاد تختلف عما يستلزمه الأمر مع الدولة سواء بالتبعية أو بالاقتران . وأما السبب الثاني فهو مبني على اعتقاد أن مسألة  الولاء لكليهما في نفس الآن ينبغي أن تحظى بنفس الدرجة من القيمة والأهمية، على وفق متطلبات المنظور البنيوي – الوظيفي الذي مؤداه إن التغيير – سلبيا"كان أم ايجابيا"- الذي يطال بنى ومؤسسات احدهما ستنعكس آثاره بذات العمق والسعة على بنى ومؤسسات الآخر، وبالتالي فان قضية المفاضلة بين الطرفين تبدو لا معنى لها إن لم تكن نافلة بالأساس .

والحقيقة إن طرح الموضوع بهذه الصيغة التزامنية – إن جاز لي القول – قمين بحملنا على تجاهل الطبيعة الجدلية لعناصر الواقع الاجتماعي، والتعامي عن رؤية ما يعتمل في رحمه من ديناميات وتفاعلات وصدامات . كما يفضي بنا إلى إهمال الخاصيات النوعية للسياقات التاريخية والحضارية التي تتبلور من خلالها وعلى أساسها الظواهر الاجتماعية، بحيث تبدو بهذه الخاصية وليس تلك، وتظهر على هذا النحو وليس ذاك . ما أريد قوله هنا هو ؛ إن أولوية (الولاء) سواء بالنسبة للدولة أو للمجتمع، لا تخضع لأنماط الأمزجة الشخصية أو تستجيب للرغبات الذاتية، التي لا تعدو أن تكون مجرد عوامل مساعدة تعمل من خلف الستار لترجيح كفة هذا الجانب على ذاك . ولكنها، في واقع الأمر، مرهونة  بطبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع المعني من جهة، ومرتبطة بمستوى التطور الحضاري الذي تمكنت من بلوغه الجماعات والمكونات من جهة أخرى . أي بمعنى إن خيار الأولوية يتحدد بناء على ماهية الدولة المقصودة (قوية / ناجحة أو ضعيفة / فاشلة) وحالة المجتمع المعني (موحد / مستقر أو مفكك / متذرر) .

وعليه، فإذا كان مجتمع ما يواجه ظروف تنبئ بالفوضى وأوضاع تنذر بالعنف، نتيجة لضعف الدولة وهزال مؤسساتها إزاء ما يتعلق بفرض سيادتها وحماية حدودها من جانب، وفشل الحكومة في تأمين الحدّ الأدنى من الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي من جانب ثان، فانه من الضرورة بمكان أن تميل كفة خيار الأولوية لصالح الدولة بدلا"من المجتمع . من منطلق كونها (الدولة) السلطة المؤسسية المعنية بضبط الإيقاع الاجتماعي النشاز، وفرض سلطتها المركزية على مظاهر الانفلات الأمني والتفتت الاجتماعي والتشتت السياسي . ذلك لأن المجتمع في حالة فقدان الدولة لزمام أمورها وخروج مقاليد السلطة من بين يديها، لم يعد ملزما"بالحفاظ على مقومات وحدته بمحض إرادته، مثلما لم يعد قادرا"على الدفاع عن نفسه حيال المخاطر التي باتت تتربص به من كل حدب وصوب . وبالتالي فان زخم ولائه سوف لن يتجه إلى حيث (القواسم المشتركة) التي تجمع أجزائه وتلم شعثه وتشد عضده، وإنما سوف يتشظى ذلك الولاء ويتبعثر بقدر ما في المجتمع من أقوام مختلفة وطوائف متباينة وأعراق متنوعة وأجناس متعددة . وهنا يضع المجتمع جماع أقداره ومصائره تحت رحمة قوى الاضطراب والاحتراب، التي ستفضي به إلى حيث الطرق المغلقة والسبل المجهولة .

هذا بينما ينبغي، بالمقابل، أن يحصل العكس في حال كانت الدولة في عزّ قوتها وذروة هيبتها، بحيث تستطيع كبح جماح أي مظهر من مظاهر التجاوز على سيادتها والتطاول على سلطتها والتهديد لأمنها داخليا"وخارجيا". حين ذلك يتطلب الأمر – لتلافي حالات تغوّل الدولة وتوحش السلطة – أن تكون أرجحية الولاء هذه المرة لصالح المجتمع على حساب الدولة، وذلك خشية أن يقع المجتمع ضحية الطغيان السياسي والحرمان الاقتصادي والامتهان الاجتماعي والارتهان الإيديولوجي، الذي سيقود – إن عاجلا"أو آجلا"- إلى استئناف دورة الخراب الاجتماعي من جديد . وأخيرا"تبدو التجربة العراقية، في الحالة هذه، مغرية جدا"وتصلح أن تكون نموذج واقعي يمكن الاحتكام إليه لاختبار صحة هذا الطرح النظري وتقييم من ثم سلامة افتراضاته واستنتاجاته .

 

ثامر عباس   

 

في المثقف اليوم