قضايا

ثامرعباس: انمساخ مفهوم المدينة في الثقافة العراقية المعاصرة

بداية ينبغي أن نشير إلى أننا لا نقصد هنا بالثقافة كمنظومة قيم ومعارف مؤسسة تضبط العلاقات وتشذب التصورات وتهذب السلوكيات، بمعزل عما يجيش في رحم المجتمع من عادات راسخة وتقاليد قارة تستبطن الموروث الأسطوري وتجتاف المخزون القبلي. إنما نتعامل معها بمثابة نمط من أنماط الوعي الفردي المتمخض على أساس؛ إما كحصيلة للمجهود الشخصي المتأتي عبر الدراسة المنتظمة والمبني من خلال التعليم المنهجي، وإما كحالة من حالات البناء العصامي لبعض الأفراد الذين خدمتهم ظروف خاصة وشجعتهم أوضاع فريدة (إمكانية اقتصادية وموروث عائلي) لولوج مثل هذا المسار الشائك وتبني خياراته المكلفة. ولعل هذا الأمر يعطينا المسوغ لنقول؛ إن استخدامنا لتعبير الثقافة (العراقية) هو من باب الزعم (الرمزي) وليس من منطلق الحكم (الواقعي)، ذلك لأنه لا توجد ثقافة وطنية / عراقية واضحة المعالم وقائمة الأسس يمكن الركون إليها عند الشدائد والاعتماد عليها عند الملمات، وإنما تتسيد ثقافات فرعية (دينية / طائفية، قومية / اثنية، قبلية / عشائرية، جهوية / مناطقية).

ولما كانت بنية المجتمع العراقي لا تزال بنية بطركية بامتياز تحمل الطابع الريفي في العلاقات والقيم البدوية في التصورات، فان مفهوم (الثقافة الوطنية) لم يبرح يعاني تطفل مظاهر تلك (الثقافات الفرعية) للجماعات القبلية والطائفية والمناطقية، التي استمرت تتعاطى مع المفهوم بصيغة مخلفات فولكلورية وترسبات مخيالية مؤرشفة في السيكولوجيا الاجتماعية ومخزونة في الذاكرة التاريخية. بحيث استحال على مفهوم الثقافة الوطنية / العراقية أن يسترد عافيته ويستعيد شخصيته ويسترجع هيبته، عبر التخلص من زؤان تلك الثقافات التحتية المحشوة بالتخلف والمعبئة بالعنف.

ولما كانت المدينة بالتعريف هي وليدة معطيات (التمدن) و(التحضر)، باعتبارها تجمعا"من السكان تواضعت مكوناته على سيادة قيم عامة رابطة تأسست على؛ التفاعل في الفكريات لبناء هوية مشتركة، والتواصل في العلاقات لبناء مجتمع موحد، والتكامل في الخيارات لبناء وطن جامع. فهي والحالة هذه تتقاطع تماما" مع ما هو شائع عن قيم الريف وأخلاقيات القرية، التي تشجع على الاثرة الشخصية، وتحضّ على المغالبة البينية، وتدعو إلى النعرة القبلية، وتسوغ الحمية المناطقية. وهو الأمر الذي تتمخض عنه وتترتب عليه جملة من العواقب الاجتماعية والمثالب القيمية المتمثلة بسيادة مظاهر؛ التطرف في الذهنيات، والتجلف في الأخلاقيات، والتخلف في ثقافات، والعنف في العلاقات.

وبقدر ما أدرك الإنسان الغربي باكرا"– سليل حضارة المدينة الإغريقية – إن المدينة التي يسكن فيها وينتمي إليها، هي من أسس للحظة القطيعة الحضارية والإنسانية مع عالم الريف الإقطاعي، الذي كانت قيمه ورموزه قد وسمت سيرورات المجتمع الغربي طيلة العصور الوسطى. بحيث أنها تسببت بالعديد من الصراعات الدينية وأنتجت الكثير من الحروب السياسية، التي لا زالت كتب التاريخ الغربي تتحدث عنها بشيء من النقد والإدانة، نظرا"لحجم المآسي التي نتجت عنها وترتبت عليها. وهو الأمر الذي أحال المدينة في تصوره إلى أشبه ما تكون (بالمصهر الحضاري)، الذي يسهم  بإعادة بناء شخصية الإنسان المديني بما لا يسمح لبقايا مخلفاته الاقوامية المتعصبة وترسباته الطوائفية المتطرفة، أن تبقى عالقة في ذهنه ومتشبثة في وجدانه بما يعيق عمليات نضوج وعيه وارتقاء ثقافته وتحسن سلوكياته من جهة. كما ويقوم، من جهة أخرى، على إلزام مكوناته بمراعاة انبثاق قيم جديدة مختلفة نوعيا"عما كانت تعتقد وتراعي من مثل؛ سيادة سلطة الدولة بدلا"من سلطان الإقطاعية، وفرض هيبة القانون بدلا"من سطوة العشيرة، وتثبيت مبدأ المواطنة بدلا"من نعرة الطائفة، وإحياء مشاعر الولاء للوطن بدلا"من الاحتماء بعصبيات القومية أو المذهب، والانتماء للجغرافيا الكلية بدلا"من الاتكاء على شظايا النزعة الاقاليمية،  وشيوع رموز الثقافة العليا بدلا"من ذيوع الثقافات الدنيا، الخ. وهكذا فالمدينة - وفقا"لتصور الباحث الأمريكي (بول كلافال) -  باتت (توجد طريقة جديدة للتأطير الاجتماعي. فهي تهدم كليا"الطرق التقليدية للحياة المحلية وهو ما لم تفعله الدول الأكثر قوة، وتحل بشكل أفضل محل الإقطاعيات القديمة).

والحال إذا كان هذا بعض ما تعلمه الإنسان الغربي واستوعبه من مفهوم المدينة، التي باتت توحي له  - بالإضافة إلى ما تقدم – بخصائص الهوية الحضارية والإنسانية التي يتمتع بمزاياها ويعتز بمثلها. فما هي يا ترى تصورات الإنسان العراقي فضلا"عن مواقفه، حيال مفهومه عن المدينة وطبيعة الدلالات التي تحملها له والإيحاءات التي تثيرها فيه ؟!. بداية نقول: على العموم إن مفهوم المدينة في عرف الإنسان العراقي (فردا"أو جماعة)، لا يتخطى أعتاب تصورها كامتداد سكاني وكانعكاس قيمي لجغرافيات الأرياف والقرى التي ولد فيها وانحدر منها. فهي بالتالي لا تحيل على أية دلالة يفهم منها معنى (التمدن) و(التحضر) - كما لمسناه لدى الفاهمة الغربية - طالما إن هناك صراع قديم ومتواصل من الكر والفر ما بين قيم البداوة ونظيرها الحضارة، حيث أشار إليه مرارا"وتكرارا"العالم الراحل (علي الوردي)، والذي طبع التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي للجماعات العراقية بطابعه الموسوم بالحساسيات والتوترات  !.

ولا ندري أهو من سوء حظ العراقيين كشعب أو من سوء طالع العراق كوطن، إن تكون الغلبة في أتون ذلك الصراع السرمدي – في معظم الأحيان - لقيم البداوة الجلفة والعدوانية على قيم الحضارة الخائفة والمسالمة، بحيث إن الفترات التي كانت فيها عناصر الحضارة تشرأب لتتنفس الصعداء وتعلن عن قدوم عصرها الذهبي، لا تعدو أن تكون بمثابة جزر صغيرة ومتفرقة في محيط واسع ومضطرب. وهو الأمر الذي منح لقيم البداوة أفضلية في التمكن من مسارب الوعي الجمعي والتحكم في منافذ السيكولوجيا الاجتماعية، لتمعن فيها تخريبا"لأبنيتها وتشويها"لمضامينها وتعطيلا"لدينامياتها، لاسيما وان هذه الأخيرة (الوعي والسيكولوجيا) من عجز الممانعة وهشاشة المقاومة، بحيث أتيح لجراثيم تلك القيم أن تتسلل إلى بنى الأول لتفكيكها، والتغلغل داخل بطانة الثانية لتمزيقها، عبر مثال ظاهرة ترييف المدينة وتطييف مكوناتها، وذلك عبر استغلال مظاهر نسيجها الفضفاض ومنظوماتها الخربة.

ومما عمق أزمة الوعي بدور المدينة وأهميتها الحضارية، في تجفيف بؤر التخلف، وتخفيف غلواء التطرف، وتلطيف نوزاع العنف. هي حالة تواتر ظاهرة (الهجرة) الريفية باتجاه المدينة على مدى عقود، والتي تخللت تاريخ العراق المعاصر منذ عهد الاستقلال وقيام الدولة (الوطنية) ولحد كتابة هذه السطور، لاسيما بعد أحداث الغزو الأمريكي وما تمخض عنها من انعكاسات خطيرة طالت جميع القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية والأمنية والرمزية، بحيث لم يعد إمام حشود المقتلعين من أراضيهم وترك مزارعهم، والمجبرين هجر قراهم والتخلي عن ممتلكاتهم، سوى خيار التوجه نحو المدن التي لا تعدم أن تشكل امتدادا" جغرافيا" لأغلب أرياف المحافظات العراقية وقراها المنتشرة، باعتبار كونها ملاذات مفضلة تتمتع  بأمان نسبي وتحظى برعاية مقبولة.

والواقع إن المشكلة في ظاهرة الهجرة الريفية لا تكمن في عملية انتقال البشر من الريف إلى المدينة، سواء بحثا"عن ملاذ آمن لتجنب التهديد بالموت كما يحصل اليوم، أو سعيا"وراء مصادر العيش لتلافي حالة العوز والفاقة كما حصل بالأمس، أو استجابة لرغبة التعليم والتطور هربا"من جحيم التخلف والتحجر كما حصل مع بعض الرموز العراقية المعروفة، ناهيك عما تمتع به المدن من مباهج وإغراءات مقارنة بما تعانيه الحياة في القرى والأرياف من رتابة وجمود. فالأمور هكذا جرت في جميع المجتمعات والشعوب وهكذا نحت الخيارات عبر مختلف الأزمنة والعصور، إنما أس الإشكالية في حالة العراق يربض في طبيعة العلاقات والذهنيات،  وماهية القيم والرمزيات، وأنماط الأعراف والعادات، وخصوصية السرديات والاعتقادات، التي ينقلها معهم أولئك المعنيين بالهجرة إلى حواضر المدن. ليس فقط كخزين روحي وارث تاريخي يجري تداوله بين أعضاء المجموعة المعنية فحسب، وإنما كقواعد موجهة للسلوك مع (الآخر)، ومنطلقات محددة للتصرف مع (الغير)، وكمعايير ملزمة لتقييم (الهم). من هنا يبدأ مسلسل المحن الاجتماعية والإحن السياسية بالاستطالة والتفرع لأكثر من مجال ومستوى وقطاع، وهو الأمر الذي وصفت أوالياته العالمة النفسية اللبنانية (كريستين نصار) بالقول (في الواقع، تجلب الجماعات المهاجرة معها، دائما"، ثقافتها الأصلية إلى البيئة الجديدة التي تنتقل إليها فتعمد لدى وصولها لبعث المظاهر الخارجية لثقافتها، وتسعى جهدها لخلق ظروف مماثلة لتلك التي خلفتها وراءها في بلادها الأصلية، ولا تدخل من التغييرات إلاّ القدر الذي تفرضه عليها بيئتها الطبيعية الجديدة؛ وحتى المشكلات الجديدة الناشئة عن هذه البيئة، فان كل جماعة تحلها بطريقة مختلفة تبعا"لثقافتها الأصلية).

 

ثامرعباس

 

في المثقف اليوم