قضايا
العراقيون والغضب
مهداة الى معهد غالوب
اتصل بي الأعلامي حسين الشمري من راديو سوا طالبا مني تعليقا على تقرير لمعهد غالوب العالمي المتخصص في الاستطلاعات العالمية، جاء فيه ان العراق احتل المرتبة الرابعة من بين الشعوب الاكثر غضبا في العالم بعد لبنان التي جاءت بالمرتبة الاولى ثم تركيا فارمينيا.
وتساءل الأخ الشمري: هل فعلا يتميز العراقيون بالغضب؟ وما هي الاسباب؟ وما مدى تاثيراته على مستوى الانتاج؟ وهل تترتب عليه تاثيرات سلبية على مستوى تطور الانسان وقدراته على الخلق والابداع؟
ولان موضوعا كهذا لا تكفيه ثلاث دقائق اذاعية فقد استوجب الامر كتاب مقال علمي يستوفيه.
الغضب.. مفهوم سيكولوجي
لقد راجعت النص الانجليزي لتقرير معهد غالوب فكان عنوانه بالنص (What Is The World's Emotional Temperature?) وانه شمل مئة بلدا في العام 2021، وكان غالوب نبها انه لم يستخدم الكلمة الانجليزية (ANGER) بل استخدم ما يترجم حرفيا الى (درجة الحرارة الانفعالية).. والغضب أحد مكونات الآنفعالات.. ما يعني انه موضوع سيكولوجي خالص، خصه سيكولوجيون اجانب وعرب بدراسات عديدة.. من تشخيص اسبابه الى وضع برامج تدريبية بعنوان (ادارة الغضب) كنا طبقناها في العراق.
والتساؤل هنا: أن الغضب انواع فما الذي يقصده معهد غالوب؟
يتخصص علماء النفس بدراسة الحاجات والحالات التي تنشّط وتقود السلوك كالجوع والجنس.. والغضب.وهنالك نظريات في دراسة الانفعالات من بينها النظرية المعرفية والنظرية الثقافية، تريان ان بعضها موجودة عند كل الشعوب لسبب بيولوجي، وبعضها موجودة عند هذا الشعب وغير موجودة عند شعب آخر لسبب ثقافي، فيما ترى النظرية المعرفية ان التفسير المعرفي للاحداث هو السبب.
ونضيف لها ان طبيعة المناخ له علاقة بالغضب، فالشعوب التي تسكن في اماكن باردة تكون اقل في سلوك الغضب من الشعوب التي تسكن في اماكن حارة كالعراق.
الاسباب التقليدية للغضب
تعود اهمها الى: اوضاع عائلية واجتماعية صعبة، الشعور بالاجهاد، التزامات مالية وتعرّض للخسارة، التعرّض للاساءة والعنف، متطلبات اكثرمن قدرة الشخص، ادمان على الكحول او المخدرات، شعورالفرد بانه منبوذ اجتماعيا، اسباب وراثية بيولوجية.. او انه يكون قد تعلمها في طفولته من والدين، الشجار بينهما افتتاحية الصباح وختام المساء.
والمشكلة ان آثار الغضب المفرط تدفع صاحبه الى التفكير السلبي بخصوص الأشخاص والأحداث، وتدهور العلاقات الاسرية والاجتماعية، والتعرض للظلم، وعدم القدرة على الصبر، وفقدان السيطره على السلوك لحظة ذروة الغضب التي قد تدفع الى قتل الاخر او قتل النفس.
وجهة نظر عراقية
لمعهد غالوب الدولي نقول:
كل مجتمع بشري فيه الجميل وفيه القبيح، وما ينفرد به العراقيون انهم اصعب خلق الله، فتاريخهم يحدّثنا بانهم اكثر الشعوب قياما بالثورات والانتفاضات، وهذا لا يتعلق فقط بظلم السلطات التي حكمتهم بل بطبيعة الشخصية العراقية التي اصدرنا عنها اربعة كتب. فهم وصفوا بأنهم كانوا حتى قبل الاسلام أعزّة كبار يمتازون بعنفوانهم ويعتقدون برفعتهم وعلّو شأنهم، ولهذا كان الخلفاء الراشدون اول الحكّام في التاريخ الاسلامي الذين فهموا سيكولوجية العراقي فكانوا يراعون العراقيين في التعامل ويأخذون اعتراضاتهم مأخذ الجد، لأنهم كانوا يعرفون ان العراقيين اذا غضبوا فأنهم لا يرحمون!
وله نضيف ما هو أهم:
كنت استطلعت آراء أكاديميين واعلاميين عن الذي حصل للشخصية العراقية في زمن الطائفية.. الى الباحثين في معهد غالوب نماذج منها:
* د. هيثم هادي نعمان الهيتي: الشخصية العراقية بزمن السومرية كانت تعّبر عن الحضارة الانسانية اما في زمن الطائفية فتعّبر عن الولاء الضيق والمتخلف،
* سلام السعدي: اصبحت بلا هوية وطنية وافتقدت روح المواطنة وصارت فقيرة اجتماعيا وحاقدة وانانية، وانفعالية.
* نورسل قوشجي زاده: لم تحصل غير المذلّة والاهانة وتفتيت الشعب بوسائل العنف والقسوة.
* علي الخزاعي: تعيش سلسلة ازمات وضغوط وصراعاً مستديما بسبب غياب الهوية الوطنية، وبروز هويات نفعية اقترنت بالضعف والتشرذم لتؤسس حالة اغتراب مدعومة بالفوضى واللا معنى.
* الشيخ المستشار ماجد البديري: انهكتها الحروب والحصار والحرمان، فسهل تشويه منظومتها القيمية، والاخطر انحراف رموز دينية وعشائرية ونخبوية وانغماسها بالفساد المادي والاخلاقي..
* عبد العزيزججو: طحنت بالفقر لحد الموت جوعاً، وتساوى عندها الحياة والموت، وانخفضت مقومات القيم الانسانية كالمرؤة والصداقة، وجعلت العراقي متقوقعاً على نفسه.
* طائر الفلامنكو: سحقت وانعدمت ملامحها.لاتوجد لديها ثوابت، خائفة مترددة متشككة ماكرة بخبث.
* د.علي نفل: اصبحت انانية متمركزة على الذات وفاقدة للامان، مندفعة نحو مغريات الحياة وتحقيق الاحلام بأية طريقة وكأن الحياة مقامرة كبرى.
* عمر الامين: الشخصية العراقية مسخت وتم تشويهها ببرنامج علمي مدروس ابتدأ بفرض الحصار صعوداً الى مرحلة نهب مؤسسات الدولة في 2003 وصولاً الى تنمية الحس المذهبي وابراز مظلومية فئة وتحميل الاخرى من حيث لا تعلم هذه المظلومية وانتهاءا بتشكيل حكومات بنيت على اسـس طائفية من قبل تجار ازمات ومتلاعبين بمشاعر الشعب.
* سبتي المخزومي: انقلاب على الذات، متناقضة تدعي التدين لكنها تسرق، تدعو الى الفضيلة لكنها تفعل الفواحش، ساستها هم الاسوأ.. معممون في الداخل لكن اغلبهم رواد ملاهي وحانات في الخارج.
هذا يوصلنا الى نتيجة علمية فسلجية سيكولوجية نصوغها بما يشبه النظرية:
(ان تعرض الأنسان الى الضغوط النفسية، وتوالي الخيبات لسنوات متتالية، وشعوره بالظلم والغبن والمهانة.. يؤدي الى تنشيط الأنفعالات السلبية، وان ديمومة هذا التنشيط يؤدي الى برمجة الدماغ عليها لتصبح سلوكا ثابتا). وبما ان الغضب أحد اهم مكونات الانفعالات فانه شاع أكثر بين العراقيين زمن الحكم الطائفي واستفراد الحكّام بالسلطة والثروة.
ونضيف: ان الإنسان ليس مجبولا على العنف ولا على الغضب، غير أنه يكون أشد ضراوة من الوحش عندما يتعرض الى (الإحباط اليائس)، أعني عندما يعاق أو يحرم من تحقيق أهداف وإشباع حاجات يراها مشروعة، مصحوبة بمشاعر الحرمان النفسي، وبخاصة عندما يدرك أنه أو جماعته يحصل على أقل من استحقاقه، أو أن جماعته تحصل على أقل مما تحصل عليه الجماعات الأخرى.. وهذا ما حصل للعراقيين في السنوات العشرين الأخيرة.
وتأكدوا ايها الأخوة الباحثين في معهد غالوب: لو ان ما حصل للعراقيين، حصل لمجتمع آخر.. لكان في حال آخر. فمن عجائب العراقيين أن الطب النفسي يقرّ بوجود حد لطاقة الناس على التحمل اذا ما تجاوزها فأنه ينهار نفسيا أويصبح مجنونا أو ينتحر.. فيما تحمّل العراقي ثلاثة عقود ونصف من حروب كارثية متصلة، وحصار أكل فيه الخبز الأسود ثلاثة عشر عاما تفضي بالأنسان السوي الى ان يجزع من الحياة أو تزهق روحه.. غير أن العراقيين كانوا، مع كل هذه المصائب، يحمدون الله ويشكرونه، بل أنهم وصلوا الى الحال الذي يذهبون في الصباح الى مجلس فاتحة يعزّون صديقا تطايرت أشلاء أخيه بانفجار، ويذهبون بمساء اليوم ذاته الى حفلة عرس صديق آخر يغنون ويرقصون.
ومع أن الموت صار يمشي مع العراقي كظلّه، فانه ما عاد أحد مكترثا به، فهذا يذهب لعمله معللا النفس بسيكولوجية (كل واحد يموت بساعته)، وذاك الى المقهى يشرب النرجيله (ويلعن أبو الدنيا)، وذاك الى الجامع حاملا مسبحته ومرددا (الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه).. والكل متعلق بالحياة بطريقته في تعاملهم مع الأفراح والفواجع التي صارت تأتيهم على رأس الساعة!
أخيرا
ونذكّر معهد غالوب ان الغضب عند العراقيين ما كان شائعا في عقد سبعينيات القرن الماضي، لأنهم كانوا فيه بحالة اقتصادية جيدة، وكانوا يقصدون الدول الأوربية للسياحة يستمتعون بأجمل ما في الحياة من مسرّات ويعودون حاملين حقائب من الهدايا يشيعون فيها الفرح بين المحبين.
وشاهد آخر.. في زمن آخر بين عامي 1958و 1959.. عاشوا فيها العراقيون سنة من الفرح شاعت فيها اغاني الحب الموسيقى واقامة معارض فنية للجمال وندوات ومؤتمرات ثقافية.وكانوا في غاية التسامح مع الاخر، لأن النظام يومها كان يمثلهم، ولأنهم وجدوا بمن يحكمهم بأنه (أنموذج القدوة) في الأخلاص للشعب، لدرجة انه كان يعيش بغرفة في وزارة الدفاع مع انه حاكم العراق الأول!، وانه حين قتل لم يجدوا في جيبه سوى (تفاليس خردة)، فيما حكام اليوم في العراق الذين يدعون الآسلام يمتلكون القصور الفاخرة بداخل العراق وخارجه وارصدة بالمليارات .. وانهم استبدوا واستهانوا بالملايين واوصلوهم الى ان يكونوا من افقر الشعوب مع ان بلدهم هو الأغنى في المنطقة وواحد من اغنى عشرة بلدان في العالم .. وكلها امور تذكي انفعال الشعور بالظلم والتحقير، وحين يصل هذا الانفعال ذروته فان الفرد يفرغه بمن اضعف منه او يمارس آلية الترحيل بتحويله الى زوجته مثلا.
رسالة خاطئة
المأخذ العلمي الكبير على تقرير معهد غالوب هذا انه اوصل رسالة خلاصتها ان هناك شعوبا تمتاز بالغضب واخرى هادئة، ويغفل او يتجاهل ان السبب الرئيس وراء شيوع الغضب في هذا الشعب او ذاك هو طبيعة النظام السياسي، لحقيقة سيكولوجية هي ان النظام السياسي العادل الذي يحترم كرامة الانسان وحقوقه.. تشيع فيه الانفعالات الايجابية مثال ذلك شعب سويسرا، وان النظام السياسي المستبد الذي يستفرد بالسلطة والثروة ويحتقر الشعب ويهدر كرامته.. تشيع فيه الانفعالات السلبية ومنها الغضب الهادف الى رد الأعتبار.
وكلمة أخيرة لمعهدغالوب:
ثابت بدراسات اجنبية ان العراقيين هم اذكى شعوب المنطقة، والذكي لا (يمتاز) بالغضب.ومعروف ان العراقيين محبون للطرب والمرح والفكاهة والنكتة و العشق.. ومن يمتلك هذه الصفات لا (يمتاز) بالغضب.وستتأكدون يوم ندعوكم لحضور مهرجان الفرح يطاح بمن اشاع الغضب.. يومها أعدكم بأن العراقيين سيجعلونكم معهم ترقصون!
***
أ.د.قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية
...........................
ملحوظة: ليت المثقف تترجمه الى اللغة الانجليزية وتبعث به الى معهد غالوب.