قضايا

أكرم جلال كريم: المُنافِقُونَ وَدُنيا قَارون

قالَ اللهُ تعالى: ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4].

إنّ السُلوكَ الإنساني وما يُظهره من أفعالٍ، أو يُضمره من خَلَجات في نفسه، إنَّما هو في حقيقتهِ انعكاسٌ لطهارةِ النَّفسِ وَصَفائِها، أو إِتِّساخها وَتَكَدّرها. فالنَّفسُ إذا ما تَزَكّت وَصَلُحَت وَطَهُرت صَلَحَ بها السّلُوك وَسارَ بها الإنسان آمناً مُطمَئناً على المَحَجّة البَيضاء نَحوَ الخَير والصّلاح، وإنْ هِيَ تَشَبَّعت بالأوهام وفَسَدَت بالآثام وخضعت للغرائز الدنوية، كالأنا والغُرور وطَلَب الزّعامة والسلطة، فَإنَّ منسوبَ النّفاق والدَّجل حينها سيرتفع، وستتّسع معه الهُوَّة والتّناقض بين الظّاهر والباطن.

فالنّفاقُ أشدّ المصائب ضَراوة وأعظمها فتكاً بالإنسان، فحالَة الصّراع الداخلي التي يعيشها المُنافق هي خُلاصة الفراغ في مخزونه الرّوحي. والمنافقون هُم أهلُ الغِشّ والخِداع، مَنهَجُهُم قَلب الحَقّائق وتزييفها؛ يَسْتَميلون النّاس فَيَخدعونهم بِحَلاوة اللّسان وَلِباسَ الإيمان؛ يُظهِرُونَ خلافَ ما يضمرون؛ يُبعّدون القريب ويُقرّبون البعيد؛ يُطنطنون بكلمات الحَقّ ويكتمون الباطل؛ يستعينون بلباسِ الرّهبان وحلاوة البيان، ليخدعوا به الجهّال باسم الدين والقرآن. رويَ عن أميرِ المُؤمنين عَليّ (عَلَيهِ السّلامُ) أنَّه قال: " ولَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ إِنِّي لاَ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً ولاَ مُشْرِكاً أَمَّا اَلْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اَللَّهُ بِإِيمَانِهِ وأَمَّا اَلْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اَللَّهُ بِشِرْكِهِ ولَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ اَلْجَنَانِ عَالِمِ اَللِّسَانِ يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ ويَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ ."1

فهؤلاء لا يفتأون يتجرَّؤون على اللهِ تعالى، وَمَا عَلِموا أنّه تَبارَك وتعالى خادِعُهُم، وأنَّهم لا مَحال سيسقطونَ في مستنقع مَكرِهِم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142].

إنَّهم لا يذكرون اللهَ تعالى إلا رياءً، ولا يَعبدوه إلا طَمَعًا؛ دَأْبهم التّضلِيل وَلأحكامِ الله وَشرعِه التّعطيل، فَكانَ جَزاءهم أنْ أعقَبَهُم اللهُ نفاقاً في قُلُوبِهِم، قال تعالى: ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 77]. فَهُم كالأنعام يَهيمُون، وفي حَيرَةٍ يترددون، هَمّهم عَلَفهم، وشغلهم شهواته، وغايتهم رغباتهم.

يكفرون بقارونَ في العَلَنِ وَيَسيرونَ على نَهجهِ في السرّ، يهرولون كالجياع نحو المكاسب الدنيويّة والمغانِمَ الشيطانيّة، وقد مُلئَت بطونهم من المالِ الحرام، حتى قَبَعوا أذلّاءَ خاسِئينَ خَلفَ قُضبانِ سِجنِ الهَوى والنَزوات الحيوانيّة، فانسَلَخوا عَن آدَمِيَّتهم لِيَعيشوا تَثاقلاً ونفوراً عَن كُلّ ما يُقَرّبهم إلى الله تعالى، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23].

إنَّ التحرّرَ مِن عبوديّة الدُنيا، والخروج مِن مَحدوديّة الأَنا، والسَّير نَحو فضاء الصدق والاخلاص يستدعي إستنهاضاً كبيراً للنّفس لِكَي تُلامِس روحَ وَجَوهرَ العِبادة، وَتبتَعِدَ عَنِ النّفاق والخداع، فحينها فقط سَتَطهَر من جميع العلائق، وتَعبر مَجتازة جميع الحواجز والعوائق، وتسير بثبات واطمئنان لِتَصِل إلى محلّ التّطابق والتّكامل بَين الظاهر والباطن؛ حتى يختفي النفاق، وَتُحلّق الأرواح لتبلغ درجة من الكّمال والرقيّ، فَتَكون بذلك تجلياتٍ لأسماء الله تعالى وصفاته.

أن المُتابع الدقيق والقارئ للأحداث بِتَمعُّنٍ وإنْصاف يَجِدُ بين الفَيْنة والأخرى ظهور أفكارٍ ونظريات من رَحِمِ تَيّارات وأحزاب ثَبُتَ نفاقها وأنحرافها، فَقَد كانَت تَغْرُزُ أنْيابها لِتَشُلّ العُقُول بِشِعاراتٍ ظاهِرُها مُقَدّس وباطِنُه سُمٌّ زُعاف، وَلِتَسير بالأمّة نَحوَ المَزيد من التَشَظّي والانقسام والإبتعاد عَن جَوْهَر الدّين، وعَن حَقيقتة الإلهية كما أراده اللهُ تعالى وأمَرَ به، وَهذا لَعُمْري أعْظَم أنواع الفِتَن وأشَدُّه فَتْكاً بِجَسَدِ الأمّة.

أورَدَ الشيخ الكليني في الكافي عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ اَلنَّوْفَلِيِّ عَنِ اَلسَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ : " سَيَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى مِنَ اَلْقُرْآنِ إِلاَّ رَسْمُهُ ومِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ اِسْمُهُ يُسَمَّوْنَ بِهِ وهُمْ أَبْعَدُ اَلنَّاسِ مِنْهُ مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ وهِيَ خَرَابٌ مِنَ اَلْهُدَى فُقَهَاءُ ذَلِكَ اَلزَّمَانِ شَرُّ فُقَهَاءَ تَحْتَ ظِلِّ اَلسَّمَاءِ مِنْهُمْ خَرَجَتِ اَلْفِتْنَةُ وإِلَيْهِمْ تَعُودُ ."2

إنَّ مراتب الإيمان تستدعي حالة التلازم بين الظاهر والباطن، وتستلزم في القلوب التي مُلأت إيمانًا أن يكون لها أعمالًا ظاهريّة تطفح عن ذلك الإيمان، وأما إذا رأيت الإنسانَ يتصنّع في قوله ومشيته وحركاته وقد انغمس في الشهوات والملذّات الحيوانية، والحياة القارونية، فأعلَم أنّ النفاق قرينه، فالإيمان لا يُقيمه التصنّع في الشّكل والمَظهر، إنّما التدبّر في الأركان والإمعان في الجّوهر. فالمؤمنُ الصادق همّه طَيّ المَراتب نحو مقام القُرب؛ لِيَتّخذ من الدنيا ممراً نَحوَ الآخرة، يرتشف ماء الحياة من نَبع العالم الأُخروي ما يَرتوي به مِن عَطَشِ الدّنيا، ويَعيش الدنيا من أجل أن يبلغ بها القُرب من الكّمال المُطلق.

إنَّ الاندماجَ والتَّلاحُم بَين الرّوح والجّسد والمُتَمثّل بالتّوجّه القّلبي والخُشُوع الرّوحي الممزوج بأفعال جَسَديّة تَحمِل مِعانٍ صادقة، حيث يَتَوَحّد فيها الظّاهر والباطن، والسرّ والعَلَن، والشّكل والمَضمون، هو مسلك يَملأ القلوب بأنوار اليقين، والصدور بالإيمان؛ يُجسّد فيها العابد حقيقة العبوديّة، فَتَطمئنَ بها القلوب التي ما فتئت تَقتَبِسُ أنْوارها مِن فيوضات النُّور المُقدس، لِتَستَضيئ بِه، ولتُزيلَ به العَوائق والعَلائق، وَتَسير بأرواحِها وتَشْخَص بأبصارها نَحوَ مَصدَر الجّمال الحَق؛ تلك هيَ النفوس السليمة، والقلوب المُطمئنة، أدْرَكت كمالَ اللّطف الإلهي، فَوَعَت، وَعَلِمَتْ فَعَمِلَت، ثُمَّ أدْرَكَت وسارَت فَنالَت، فَرَضِيَت، واطْمَأنّت.

***

د. أكرم جلال كريم

............................

المصادر

1. نهج البلاغة، ج1، ص383. وبحار الأنوار، ج33، ص581.

2. الکافي، ج8، ص307. وثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ج1، ص253. وأعلام الدین، ج1، ص406. والوافي، ج26، ص459. وبحار الأنوار، ج2، ص109.

في المثقف اليوم