قضايا

عدنان البلداوي: كتابة السيرة والمذكرات بين الحقيقة وغلبة الـ (أنا)

ان كتابة السير او التراجم، محاولة موغلة في القدم تكاد ترافق نشوء الكتابة، وكانت في بدايتها تعنى بسرد اخبار الرجال وذكر مآثرهم بإسلوب يفتقر اغلبه الى الجو البلاغي في التعبير، وهذا ما جعله يقترب الى التاريخ اكثر منه الى الادب، اضافة الى كون مضمونه بحاجة الى نقد وتحليل وتعليل لجوانب كثيرة في شخصية المكتوب عن سيرته، وهذا يعود بلاشك الى عدم توافر القدرة الكافية على الإلمام بظروف وجوانب حياة صاحب السيرة.

ولعل ظروف العصر القديم وأحواله الثقافية والاجتماعية قد ساهمت في ذلك ايضا .. وتأرجحت كتابة سيرة او ترجمة الشخصيات في اكثر عصورها بين الحقيقة والمجاملة ..!، ويكاد يكون للمجاملة نصيب اوفر في كتابة السير، لتأثر الكتاب في كل العصور وبفعل طبائع البشر بعلاقات صداقة او بصلات قرابة، لولا ان فطن بعض المؤرخين الى ذلك فأنقذوا الحقيقة من الضياع باتباعهم مناهج علمية موثقة في تقصي الواقع واقتناص الصواب، كما فعل الطبري مثلا في تاريخه المعروف الذي اعتمد فيه الإسناد لتأكيد صحة الرواية او الخبر ومدى توافر عنصر الصدق فيهما، وقد قامت العوامل الشخصية في كل الأمم بدور فاعل في ابعاد الحقائق التاريخية عن مضمون السيرة او الترجمة بدوافع كثيرة، منها الإعجاب المفرط بالشخصية المترجمة ومحاولة تقصي حسناتها دون الالتفات الى الحقائق النفسية والسلوكية الاجتماعية كما حصل مثلا للمؤرخ الروماني (تاسيتس) في القرن الأول الميلادي، عندما كتب (حياة اجريكولا) بدافع الاعجاب مضافا اليه صلة القرابة، وكما حصل في تراجم (فورد) المؤرخ الانكليزي الذي كان صديقا لـ(كارليل) ومترجما لحياته، تلك الترجمة التي اسرف في روايتها بدافع الصداقة والمجاملة حتى اصبحت ضعيفة من وجهة نظر المؤرخ الحقيقي.

هذه امثلة يسيرة حسبما يسمح به المقال، ولانريد هنا ايضا التعرض لموضوع المذكرات وكتابة السير الذاتية لأن لها حديثا خاصا ..وعلى الرغم من أثر العوامل الشخصية في كتابة السيرة، إلا ان نتاج المؤرخ او الكاتب في مثل تلك الأجواء يبقى متروكا أمام قناعة القارئ او الباحث سواء أغلب ذلك النوع من التراجم على غيره أم لا، فإن كتب التراجم الناطقة بالحقيقة التاريخية هي الأخرى متوافرة ولكل دوافعه وأهدافه، فمن القديمة مثلا (معجم الادباء) لياقوت الحموي الذي أكد في مقدمته انه ترجم للرجال بدافع ذاتي لخدمة الأدب والتراث، وليس بدافع التأثيرات الخارجية، او بفعل علاقات شخصية غيّرت مسار قلمه، وكذلك كتاب (وفيات الاعيان) لابن خلكان الذي يعد مرجعا امينا لتراجم الرجال على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الثقافية، بعيدا عن الإسراف في القول وعن المبالغة في الصفات وعن المجاملة في سرد الحقائق، وفي ذلك يقول: (اني بذلت الجهد في التقاطه من مظان الصحة، ولم اتساهل في نقله ممن لا يوثق به، بل تحريت فيه حسبما وصلت القدرة اليه)، وبذلك لفت أنظار مؤرخي الآداب اليه في سائر الامم بعد ان كانت الأنظار موجهة بإعجاب الى كتاب (بلوتارك). وبالإضافة الى الامانة العلمية التي تحلى بها بعض المؤرخين في كتاباتهم، فإن الإنصاف والعدالة في اختيار الرجال صفتان قد غلبت عليهم ايضا .

ومنذ بداية القرن العشرين ظهر تحول جديد في كتابة السير، حيث اكتسبت الترجمة أجواءً أدبية أكثر امتزاجا بالتاريخ وأسرع احتكاكا بعلم النفس، بفعل خلفية الكاتب الثقافية وسعة أفقه، وعدم قناعته بما يقرأ إلا بعد تحقيق وتمحيص واجتهاد، كما حصل مثلا في كتابات الاديب الموسوعي عباس محمود العقاد في (العبقريات) وغيرها.

وعلى الرغم من سلوك بعض المؤرخين المعاصرين منهجا علميا أمينا قد شمل عند بعضهم حتى النواحي النفسية للمترجم له في ضوء الدراسات الحديثة.. إلا ان بعضهم قد أوجز فأحسن الإيجاز بروح علمية عالية، معتمدا في ذلك على مراجع ومصادر التراث، ومشيرا اليها في هامش كتابه كما حصل مثلا في كتاب (الاعلام) لـ (خير الدين الزركلي) الذي أشار فيه الى اسباب الايجاز بقوله: (وتعمدت الايجاز ما استطعت ولم أتعرض للأحياء من المعاصرين مخافة الوقوع فيما لا أحمد ..اما من أغدق عليه بعض مؤرخينا نعوت التمجيد وصفات الثناء اغداقا، كما صنع اصحاب (الريحانة) و(اليتيمة) و (السلافة) و(سلك الدرر) وعشرات اشباههم .. فقد تعمدت اهمال ذكرهم اجتنابا للإطالة على غير ما جدوى، ورغبة في الوقوف عند الحد الذي رسمته لنفسي في وضع هذا الكتاب) ان الإيجاز وإن كان مرغوبا في حالات معينة،إلا انه غير مطلوب في مواضع او اجواء اخرى، ومهما يكن من امر، فإن كتابة السير كتابة تاريخية حقيقية موثقة هي مسؤولية لا ينوء بحملها إلا من كان جديرا وقديرا، لأنها عملية تحتاج الى الدقة العلمية، والى الاحاطة الشاملة ثم الى قدرة الكاتب على تصنيف العلماء وغير العلماء،لكي لا يتساوى الطود الشامخ مع التل الهامد، ولابد ايضا ان يكون الاسلوب ممتعا، لأن القارئ المعاصر يبغي سهولة التعبير وجماله مع صياغة بيانية سريعة التوغل في النفس، فهو اذا اراد ان يقرأ سيرة عالم او اديب او شاعر مثلا، فإن اول ما يرغب فيه هو معرفة نفسيته وسلوكه مهما كان اختصاصه، سواء عرف القارئ ذلك من خلال النتاج العلمي او الادبي لصاحب الترجمة او من خلال الصورة التي رسمها المؤرخ او الكاتب لتلك السيرة باسلوب ممتع يجمع بين التراث والمعاصرة.

واذا كان القدماء قد اعتمدوا الإسناد في كتابة السيرة بعد جهد جهيد كوسيلة للوصول الى الحقيقة والصواب، واذا كان الخلاف ينشب بين حين واخر بين كتابنا المعاصرين حول حدث تاريخي قد مضى عليه كذا من السنين، او حول قضية شخصية لها علاقة بالمترجم له بسبب عدم تحقيق وتوثيق السيرة او الحدث في زمانه، واذا كان كل ذلك قد حدث، فلا أظنه يحدث في زمن المقابلات الفضائية واللقاءات الحيّة المباشرة مع ذوي العلم والمعرفة او مع من يترك بصمة مجد في التاريخ. وفي ضوء ذلك هل يجرأ الباحثون ان يضعوا في دائرة الضوء مضامين السير التي افتقرت و تفتقر الى المصداقية او في الأقل الاشارة الى ذلك الافتقار خدمة للحقيقة، منطلقين في تفعيل ذلك من الحكمة القائلة: (قيمة كل امرء ما يحسنه) .

***

د. عدنان عبد النبي البلداوي

في المثقف اليوم