تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

مالكة حبرشيد: بعض اوجه الأمية التي يعاني منها المواطن العربي

بناء مشروع حضاري، هو طموح أساسي ودائم لكل أمة. والمشاركة فيه هي غاية كبرى، من غايات الأمم الحية. والخيار الراهن هو، أن نكون شركاء فاعلين وقادرين، أو نتلاشى؛ حتى يزداد طمس الكيان العربي، حتى على مستوى التسمية، في كيانات إقليمية، أو دولية متعددة الأسماء؛ وصولا إلى مسح الهوية، ومصادرة الحقوق التاريخية، كأنه ليس هناك أمة أو حضارةعربية !

إن تدبر الوسائل، من أجل بناء مشروع حضاري عربي، والدخول في شراكة عالمية مستقبلية، لم يعودا مسألة ترف فكري، أو انشغالات مثقفين بقضايا كبرى؛ إنها معركة كيان، ووجود، لا يجدي معها سوى الحفاظ، على حق الأجيال الصاعدة، بكيان وهوية ودور وفرصة.

من هنا تصبح مسألة التنشئة، المستقبلية للطفولة العربية، قضية مصير وليس أولوية؛

فالطفولة حالة مستقبلية غير قابلة للتأجيل أو التفويض؛فإذا نحن لم نتول المسؤولية، فالزمن سيسير والطفولة ستنمو، إنما في اتجاهات وأشكال، لا نضمن معها مطلقا، مصالح الأمة وكيانها؛لأن ما لا نفعله نحن، لن يبقى معطلا، أو فراغا، يمكن ملأه لاحقا؛ بل هناك بدائل جاهزة، ستقوم بالدور؛ إنما لمصلحتها، ومن منظورها، وعلى حساب مصير الأ مة ومكانتها. فالمستقبل لم يعد مسألة، تترك للغيب، أو تحسب من خلال الركون إلى غنى ووفرة الموارد الطبيعية؛ لأن هذه الأخيرة، لا تصنع تنمية، ولا تضمن حصانة، بل على العكس، تكون هي ذاتها مواطن ضعف؛ لأ نها تشكل حالة استهداف..وحدها حالة الاقتدارالإ نساني، تشكل الحصانة، والضمانة لدخول شراكة عالمية مستقبلية !

ولن يتسنى لنا ذلك، إلا إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار، أن الانسان هو الثروة الحقيقية للشعوب. لذا يجب ألا نقيّمه بما يملك، وما يستهلك...بل نقيّمه بقيمته الحقيقية، التي هي إنسانيته، وعطاءه، ومدى فعاليته في مجتمعه.

إن المجتمعات المتقدمة، دخلت عصر تنشئة الإنسان الذكي، الذي يتعامل مع الآلآ ت الذكية، ملْغية بذلك، كل الوسائل التي قد تبطيء، في إنتاج كائن بشري، يساهم في تسريع وتيرة التقدم، بينما نجد مجتمعاتنا، مازالت تتخبط في تغيير برامج ومناهج مستوردة، لم تنجح واحدة منها في تغيير واقعنا العربي، لأنها غريبة عنا، وعن أرضنا وتربتنا.

ومازالت في طموحاتها عند الأولويات، ولازالت تصارع الهدر والتسرب وشبه الامية، إن عالمنا العربي، يعاني من عدد من الأميات، التي تقف في وجه تطوره وتقدمه؛ وللأسف الشديد، نجد خلف ذلك أياد وعقول وجهات مسؤولة عربية، تعمل جاهدة في تخريب مجتمعاتنا.

نحن في حاجة إلى محو أميات متعددة ومتنوعة، إذا أردنا الوقوف، بوجه التحديات التي يعرفها العالم اليوم، ونكون شركاء فاعلين بعالم الغد:

1- الأمية التكنولوجية: إن تكنولوجيا المعلومات قد تخطت حدود الزمان والمكان، من خلال نقل المشاهد، وهو في أريكته إلى مختلف بقاع العالم؛ لمعايشة الحدث الحي لحظة وقوعه. ولا شك أن هذه فرصة للإغتناء المعرفي، لم تعرفها البشرية قبلا، ولم تزاحم الشاشة بقية وسائط الثقافة والتنشئة فقط، بل أخذت تزيحها وتحل محلها، بشكل متزايد مما جعل تسمية الجيل الجديد بأبناء الصورة؛ وهذا إدمان جديد، ينضاف إلى باقي أنواع الإدمان؛ إذ أصبحت شاشة الحاسوب، تشكل كل عالم الناشئة، بل وحتى الكبار رجالا ونساء؛ وذلك لقدرتها على تلبية حاجات الجميع، المعرفية والترويحية والتشويقية، والجمالية والإثارية.وجيل الكبار بصدد فقدان دوره المرجعي، لصالح المرجعية الإعلامية، التي أصبحت تقولب العقول، تشكل الاذواق،وتحدد أساليب الحياة.

وتكتسب المسألة أهمية أكبر، حين ندرك أن هذا الإعلام المهيمن، يقوم على الإبهار، وجذب الانتباه عن طريق تجارة الوهم، التي تستسهل كل شيء في الحياة؛ مما يجعل الكائن في غياب تام، عن واقعه دون وعي منه، أو إدراك لخطورة ما هو فيه وعليه.

2- محوالأمية المعرفية: إن الإمية الألف بائية، مازالت تشكل مشكلة جدية، في عالمنا العربي، خاصة وأن التعليم مازال يشكل أيضا أزمة فعلية، على صعيد محتواه، وتوجهاته، ومخرجاته ومدخلاته؛ فهو يتعامل مع العلم من أجل الامتحانات، والامتحانات من أجل الشهادات، ويبقى اكتراثه بتكوين المهارات والمعارف الفعلية،كما أنه متقادم في محتواه؛ حيث يتعلم الطالب معلومات، أصبحت في تاريخ العلم، كما أنه يميل إلى التلقين من أجل اليقين، دون الاهتمام ببناء القدرا ت المعرفية الحقة.لذلك لابد من العبور من تكديس المعلومات؛ لتفريغها في الامتحانات، إلى تنمية المهارات الذهنية العليا؛ للتعامل مع المعلومات واستيعابها، وصولا إلى توظيفها في الواقع العملي. التفكير المنطقي، القدرة على التحليل، التفكير النقدي، معالجة المعلومات، وحل المشكلات، تعلم المفاهيم، تنظيم المعلومات في بنى المعرفة.

يجب أن نتعلم كيف نتعلم، عن طريق المرونة الذهنية، والقدرة التكيفية للتعامل مع التحولات.إذا أردنا الخروج من الدائرة المغلقة بكوننا دولا استهلاكية بامتياز.

فهل استوعبت الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم الدور الفعال للمناهج والبرامج؟ وهل استطاعت تكييفها؛ لتكون في مستوى التحديات، التي يعرفها العالم اليوم؟

3- محو الامية الاعلامية: إن الإعلام في بلادنا العربية، يحتاج الى محو أمية كاملة؛ إذا أريد تحويله إلى فرصة تعليم وتربية وتنشئة. إن أكثر المواد الإعلامية البريئة من مثل أفلام الكارتون، والصور المتحركة، تشكل حالة لبث النموذج والقيم والتحيزات بشكل ضمني، من خلال الشكل واللون والتشويق، وإشباع حاجات الطفل والراشد العاطفية والترويحة؛ لأنها تمرر رسائل خفية، أثبتت العديد من الدراسات، أنها لا تقل خطورة في مضمونها، عن النماذج الصريحة.وهذا عمل هام، يتعين القيام به لمحو الأمية الاعلامية، بتبيان المضامين الخفية، للمادة الإعلامية الموجهة للطفولة والناشئة.لابد من تحويل إمكانات الإعلام الهائلة إلى فرصة للثقافة اللامحدودة، والمعرفة المتجددة، والانفتاح الشامل على الكون، إلى تجربة تربية، طول الحياة وطول الوقت؛ وإلا فإن البديل هو التعرض لعملية التدجين، والتنميط والقولبة، من خلال عملة لا واعية، بواسطة إغراق المشاهد في الممتع والجذاب والمثير.

لابد لمحو الإمية الإعلامية، أن تصبح توجيها، وإرشادا يطال الصغار والكبار، في البيت والمدرسة والشارع، ويطال مسؤولي الإعلام العربي، والفنيين والمراقبين والمنفذين، والوقوف ضد التعتيم والتضليل والتجهيل الممارس، من طرف بعض الجهات، لصالح جهات أخرى، لأغراض آنية ومستقبلية.

محو الأمية الإعلامية، لا تقل عن تقديم إعلام نظيف، خال من حالات التلوث، ومن التضليل والتحريف.

فإلى أي حد، استطاع إعلامنا العربي الانتباه، إلى خطورة دور المواد المقدمة له؟

وما هي البدائل المطروحة، من أجل تفادي خطورة الإعلام الوافد؟

وهل المواطن العربي واع، بما يمارس عليه، من خلال القنوات الموجهة، نحو أقطاره العربية؟

4- محو الأمية الثقافية، نقصد بمحوا الأمية الثقافية، القضاء على القحط والجدب والرتابة والحشو والوعظ، وإنجاز مادة ثقافية تشبع حاجات الإنسان، المعرفية والنفسية، الانتماء، الازمات النفسية، الحس الجمالي، الترويح أي المتعة والعادة.

تقديم مادة ثقافية، تعكس الغنى الهائل، للثقافة العربية والإسلامية،على صعيد الشكل والمضمون واللون والزخرف والنغم والإطار البيئي، والطراز العمراني.باختصار لابد لمحو الأمية الثقافية من إنتاج، قابل للتعامل مع تحديات الإعلام الوافد، والثقافات الوافدة وموازنة ذلك ولو جزئيا.وهذا يحتاج الى فنيين واختصاصيين ومنتجين ومديرين، يعملون كفريق متكامل.وإلا فإن نتيجة الأمية الثقافية، لن تكون أقل من تهديد الهوية والكيان.

لابد من تثقيف، يجعل الناشئة العربية، تفكر كونيا، وتطبق وطنيا؛ فمحو الأمية الثقافية، هو من مقومات بناء القدرة، وتحصين الهوية.

فما هي البدائل التي انتهجتها دولنا العربية، لحماية مواطنيها، وتحصين هويتها؟

أليست الجهات المسؤولة في عالمنا العربي أدوات من أجل ترسيخ ثقافة وقيم الغرب؟

5- محو الامية الابداعية: يشكل شرطا وعمادا للولوج الى المستقبل.لأن الامم التي لا تأخذ مواقف ابداعية في حلولها لمشكلاتها ستهلك وتنقرض.الفكر المبدع هو الذي يكسر قيود العرف والعادة والسير على خطى الاولين.إنه الفكر الذي يجسر على التساؤل حول كل شيء والخوض في مغامرة تصور أي شيء. انه الفكر الذي يكسر القيود التي يفرضها الذهن على ذاته.وينطلق محلقا لايجاد روابط غير مألوفة. وتلك هي قوة الدماغ الحقيقية.

محو الامية الابداعية هي مشروع تربية مستقبلية متكاملة مادام الابداع ممكن عند جميع الناس إذا توفرت شروطه النفسية الداخلية وظروفه الاجتماعة اي توفير مناخ ثقافي غني بمثيراته وتحدياته وتحفيزه.لأن غنى الابداع يتوقف على مدى غنى الحصيلة المعرفية وعلى مقدار الجهد الدؤوب. لا ابداع الا من خلال استيعاب واسع للتراث الثقافي أو العلمي وتكامله وشموله.

فهل المحيط التربيوي والثقافي بالعالم العربي يملك من المقومات ما يساعد على استفزاز الابداع عند الناشئة؟ام انه يعمل على قتل الملكات وبالتالي قتل الابداع

حين يمارس القمع والعنف والتهميش والنفي والعقاب وكل انواع الارهاب؟

6- محو الامية الانسانية: لمحو الامية الانسانية لابد من التحول من الانسان الاداة والوسيلة.. الى الانسان القيمة والغاية.لذلك نجد المجتمعات النامية تنادي بمحو الاستيلاب المادي للانسان.والاعتراف بانسانيته وحقه في حصانتها وصيانة حرمتها.والاعتراف بقيمة الانسان وجهده وتقديره.

تلك هي المسألة المزمنة والمهلكة في العالم العربي.

محو الامية الانسانية هي الاساس لاستعادة الانسان لاعتباره وحرمته وكيانه والاعتراف بامكاناته وقدراته.

ان تحول الانسان من حالة القيمة الانسانية ذات الحصانة الى حالة الشيء الفاقد للحرمة والقابل لأن يكون ضحية شتى الاعتداءات والتجاوزات، الانسان الملكية..الاداة..والعبء. يفقد الانسان كل قيمة ولا يبقى سوى اسطورة الملكية..وكلها تفتح المجال أمام الاعتداء والقسوة والاهمال والاستغلال وممارسة كل انواع العنف الصريح النفسي والجسدي.

إن أي مشروع عربي لابد أن يبدأ من هذه القضية والا فانه لن يبدأ مطلقا

أن محو الامية الانسانة تشكل شرطا ملزما في أساس أي تحرك عربي مستقبلي

وما نشاهده اليوم من دماء تسيل على امتداد العالم العربي خير دليل على محاولة المواطن العربي استرجاع انسانيته المهدورة على امتداد عقود.

فهل سينجح في محو الامية الانسانية؟

أم أن جذورها مازالت ضاربة في عمق تاريخنا الموغل في ضرب كل معاني الانسانية؟

***

مالكة حبرشيد - المغرب

في المثقف اليوم